* ثانياً) – بنــــيةُ الـحــذف
* مهــــــــــــــــــادٌ نظريٌّ:
يعدّ مبحثُ الحذف من المباحث المهمّة التي عالجتها الدراسات الأسلوبيّة الغربيّة والشعريّة الحديثة، بوصفها انحرافاً عن المستوى التعبيريّ العادي، وانزياحاً عن المألوف من الأنماط اللغويّة الموروثة ويصنّفه (جان كوهن) كالتقديم
والتأخير ضمن الانزياحات السياقيّة، بينما الاستعارة هي انزياحٌ استبداليٌّ[1].
وكما اعتنىتْ به المدوّنة النحويّة والبلاغيّة العربيّة التراثيّة، فعدّته من الشجاعة في العربيّة، حيث أفرد له (ابن جنّيّ) باباً خاصّاً وسَمه بـــــــ (بابٌ في شجاعة العربيّة)، استهلّه بقوله: «اعلم أنّ معظمَ ذلك إنّما هو الحذفُ، والزيادةُ، والتقديمُ والتأخيرُ، والحملُ على المعنى، والتحريفُ»[2].
فهو آلية أسلوبيّة إجرائيّة يجري بها إسقاطُ بعض الكلام مع إبقاء ما هو دالٌّ عليه. ويعرّفه (الزركشيّ) بقوله: «إسقاط جزء الكلام أو كلِّه لدليل»[3]. إذاً فمن شروطه البلاغيّة أن يكون في الكلام ما يدلّ على المحذوف وإلاّ كان تعميةً وألغازاً[4]. وهو معنى قولهم: «لا بدّ أن يكون فيما أُبْقِيَ دليلٌ على ما أُلْقِيَ».[5] فهو إذاً لا يُحسَن في كلّ حال، إذ ينبغي ألاّ يتبعه خللٌ في المعنى أو فسادٌ في التركيب. لذا لابدّ أن يتأكّدَ المرسِل من وضوح المحذوف في ذهن المتلقّي وإمكان تخيُّله[6].
والحذفُ يعدّ من دقائق اللغة، وعجيب سرّها، وبديع أساليبها، وبابٌ من أبواب فصاحتها، يقول (عبد القاهر الجرجانيّ): «هو بابٌ دقيقُ المسلك لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأمر، شبيهٌ بالسحر، فإنّك ترى به ترْكَ الذكر، أفصحَ من الذكر، والصمتَ عن الإفادة، أزْيَد للإفادة، وتجدك أنْطقَ ما تكون إذا لم تَنطِق، وأتمَّ ما تكون بيانا إذا لم تُبِنْ»[7]. بل أكثر من هذا فإنّ تقديرَ المحذوف وإبرازَه يصيّر الكلامَ غثّاً سفسافاً ونازلاً ركيكاً لا صلةَ بينه وبين ما كان عليه أوّلاً من طلاوة وحلاوة. أشار (ابن الأثير الكاتب) إلى هذا بقوله: «ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة أنّه متى أُظهِر صار الكلام إلى شيء غثٍّ لا يناسب ما كان عليه أوّلاً من الطلاوة والحسن»[8].
ويستمدّ الحذفُ أهمّيتَه من كونه يفجِّر في ذهن المتلقّي شحنةً فكريّةً توقظه، وتجعله يتخيّل ما هو مقصود، وتحدث فيه استثارةً وتنبيهاً. و «كلّ إخلال بالبنية يخلخل الذاكرة، فتردّ الفعل، وتنبِّه الذات إلى مكامن النقص، فتلجأ إلى الاستدلال أو إلى الاستنباط لملء الثغرات، وتشييد البنية النموذجيّة»[9].
وهكذا يحدث تفاعلٌ بين المرسِل والمتلقّي، ويتحقّق المبتغى من فحوى الرسالة الإبداعيّة التي تنفتح على كلّ التأويلات الممكنة. وهذا هو جوهرُ الخطاب الشعريّ ومكمنُ سرّه. فضلاً عن هذا فإنّ أهمّيّةَ دور الحذف تعظم وتكبر بما توفّره من ترابط بين الجمل ضمن الخطاب أو النّصّ[10].
* شَذَراتٌ إجرائيّةٌ وتطبيقيّةٌ:
استخدم ابنُ الخطيب هذه الآليّةَ الأسلوبيّةَ في ديوانه بصورة واضحة ومتنوّعة، لكن بعضَ الحذف شكّل ظاهرةً في ديوانه، والبعضَ الآخرَ جاء في مواطنَ قليلةٍ، وسنقف في هذه المقالة على شذرات منها، فمن صوره عنده:
-(1حذفُ المسنَد والمسند إليه في الجملة الفعليّة:
حدّد ابنُ جنّيّ جوازاتِ حذف الفعل في ضربين: «أحدهما: أن تحذفَه والفاعل فيه، فإذا وقع ذلك فهو حذفُ جملة، وذلك نحو: زيداً ضربته، فلمّا أضمرت (ضربت) فسّرته بقولك: ضربته…والآخر أن تحذفَ الفعلَ وحده، وذلك بأن يكون الفاعلُ مفصولاً عنه مرفوعاً به، وذلك نحو قولك: أزيدٌ قام»[11].
والذي يعنينا نحن هنا الضربُ الأوّل، ومن نماذجه في الخطاب الشعريّ الخطيبيّ قولُه:[12]
قَسَماً بِمَنْ يُبْدِي الْوَرَى وَيُعِيدُ | وَيُقرِّبُ الْـمَأْمُولُ وَهْوَ بَعِيدُ |
فالشاعرُ في صدر البيت حذف الفعلَ والفاعل، واكتفى عنهما بالمفعول المطلق، والتقدير: أقسم قَسَماً. وهذا خلق في البيت تشويشاً وتوتّراً، ويعدّ (كوهن) التشويشَ على الفهم منبعَ اللغة الشعريّة.
ومثله قوله في إحدى مدائحه السلطانيّة (لأبي الحجّاج):[13]
يَمِيناً بِيَانِعِ وَرْدِ الْخُدُودْ | وَعَذْبِ اللَّمَى في الشَّهِيِّ البَروُدْ |
والتقدير: أُقسم أو أحلف يميناً، فابن الخطيب هنا يُقسم بمواطنِ الجمال والعشق الأنثويّ.
ويقول أيضاً[14]:
عَجَباً لَهُ أَيَخَافُ في لَيْلِ الْوَغَى | تِيهاً وَذَابِلُهُ ذُبَالٌ مُشْعَلُ؟! |
وقد تآلف في هذا البيت أسلوبان إنشائيّان؛ التعجّبُ والاستفهامُ. والاستفهام هنا خرج عن مقتضى ظاهره وأفاد الإنكار، فهو استفهامٌ إنكاريٌّ؛ أي ينكر الشاعرُ على الممدوح الخوفَ والجبنَ في سُوح الوغى؛ فبدرُه لا يُفتَقَدُ في الليالي الظلماء حين يجِدُ الجِدُّ ويشتدُّ النزالُ، كما يقول أبو فراس الحمَدانيّ في رائعته الرائيّة. فالممدوحُ يتّصف بالجرأة والإقدام عزَّ نظيرُهما، وقلَّ مثيلُهما.
ولقد عضد أسلوبُ التعجّب، هنا، هذه الدلالةَ الإنكاريّةَ. وللاختصار والتوكيد فقد حذف الشاعرُ الفعل والفاعل من هذا المركّب الفعليّ، واستعاض عنهما بذكر المفعول المطلق، والتقديرُ: عجِبت عجَباً.
ويقول في رثائه للسلطان (أبي الحجاج)[15]:
أَسَفاً على الْخُلُقِ الْجَميلِ كَأَنَّمَا | بَدْرُ الدُّجُنَّةِ قد جَلاَهُ تَمَامُ |
والتقدير: أسفت أسَفاً، وأراد الشاعرُ بذلك الاختصارَ والاحترازَ عن العبث بناءً على الظاهر مع ضيق المقام بسبب التحسّر والتوجّع[16].
ويقول في إحدى مداعباته الإخوانيّة[17]:
رِفْقاً بِنَفْسِكَ سَيِّدِي رِفْقاً | فالْقَصْدُ أَنْ تَبْرَا وَأَنْ تَبْقَى |
والتقدير: ارفُق بنفسك رفقاً.
وقد وردت هذه الآليةُ الأسلوبيّةُ والظاهرةُ اللغويّةُ ورودَ المفعول المطلق والاستغناء عن المسند والمسند إليه كثيراً في الديوان الخطيبيّ، وهي شائعةٌ في التراث العربيّ شيوعاً كبيراً.
ومن هنا يبدو التأثّرُ بالأساليب العربيّة التقليديّة المشرقيّة في الخطاب الشعريّ الخطيبيّ.
2) – حذف المسند إليه في الجملة الاسميّة:
تتكوّن الجملةُ الاسميّةُ من مبتدأ وخبر، وهما ضروريّان لإتمام المعنى، بَيْد أنّه يجوز حذفُ أحدهما إنْ دلّ السياقُ عليه وظلّ المعنى جليّاً. وقد جاء حذفُ المسند إليه (المبتدأ) في الخطاب الشعريّ الخطيبيّ بصورة جليّة ومتواترة، وخاصّة في مقام الاستئناف. وهذا شائعٌ في كلام العرب، كما يقول (عبد القاهر الجرجانيّ): «ومن المواضع التي يطَّرد فيها حذفُ المبتدأ (القطع والاستئناف)، يبدأون بذكر الرجل، ويقدمون بعض أمره، ثمّ يَدَعون الكلام الأوّل، ويستأنفون كلاماً آخرَ، وإذا فعلوا ذلك، أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ»[18].
وجاء هذا النوع من الحذف عند ابن الخطيب لدواعٍ دلاليّةٍ-فنيّةٍ اقتضاها سياقُ اللغة الشعريّة، ومن أهمّها: الاحترازُ عن العبث في سياق المدح.
كقوله[19]:
الطَّاعِمُ الْكَاسِي[20] وَرِفْدُكَ كافِلٌ | والْعَالَةُ الْمُعْفَاةُ مِمَّا يَثْقُلُ |
والتقدير: هو الطاعمُ الكاسي، لكون الحديث هنا مفهومٌ ضِمْناً عن الممدوح السلطان (الغنيّ بالله)، وحذف المسند إليه، هنا، أتى لإضفاء الهيبة والجلال على الممدوح، وتوقيره وتعظيمه. ولا سيما أنّ الخبرَ أتى اسمَ معرفة، والمعرفة – كما هو معهود في النحو – تفيد التعيين والتشخيص والتحديد.
وقـولـــه[21]:
صَرْعَى عَلَى عَفْرِ الرِّمَالِ وَلِيمَةً | لِلْحُوتِ أَوْ للِطَّيْرِ أَوْ للِضَّيْغَمِ |
والتقدير: هم صرعى، والحديث هنا يدور حول أعداء الممدوح الصليبيّين الذين هزمهم الممدوحُ – كما تشير عتَبةُ النصّ الاستهلاليّة- في الوقيعة البحريّة ب(بحر الزّقاق) من عام أربعين وسبعمائة[22]. وكأنّ الشاعرَ لا يريد أن يقول (هم) إمعاناً في تجاهلهم، والتقليل من أهمّيتهم، لأنّ الضميرَ المنفصلَ يعطي أهمّيةً للشيء، وجاء بكلمة (صرعى) نكرةً لتفيد العموم والشمول، فكلّ من تطاول على الجناب السلطانيّ الشريف فسيكون جزاؤه جزاءَ هؤلاء.
وكما في البيت عن طريق (البرهان بالخُلْف)[23] إشادةٌ بجرأة الممدوح وقوّة جيشه.
ويقول أيضاً[24]:
الْعَدْلُ، وَالشِّيمُ الْكَرِيمَةُ، والتُّقَى | وَالدَّارُ، والْأَلْقاَبُ، والْخُدَّامُ |
والتقدير: أنت العدلُ و….، ففي هذا البيت حذف المبتدأ، لأنّ المقصودَ به معلومٌ، وهو الممدوح، فالحذف كان لأنّ تقديرَ الكلام مفهومٌ ضِمناً، ولا حاجةَ لذكر ما هو معلوم، وكما يقول البلاغيّون: (فعدمُ الذكر هنا أفصحُ من الذكر)، لأنّ الذكرَ لن يضيف شيئا جديدا للمعنى في هذا الموضع. وأفاد الحذفُ، هنا، الإجلالَ والتفخيم، والتوقير والتعظيم.
وهذه الصورة من الحذف كثيرةٌ في الشعر الخطيبيّ، وتشكّل خاصّيّةً أسلوبيّةً مطّردةً ومتواترةً.
3) – حذفُ المسند في الجملة الاسميّة:
وهو خبر المبتدأ، ومن نماذجه في الشعر الخطيبيّ قولُه:[25]
لَعَمْرُكَ ما أغارَ على عَدُوٍّ | كَجيْشِ النَّصْرِ، بورِكَ مِنْ مُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــغيرِ |
لعمرك: مبتدأ، فيه قَسَمٌ صريحٌ، خبرُه محذوفٌ وجوباً، تقديره: (لعمرك قَسَمي)، فجاء الحذف لدلالة الحالة ودلالة اللفظ، فأمّا الأولى لأنّ صيغةَ القسم (لعمرك) تفيد القسمَ في كلّ مواضعها، حتّى إنْ لم يتمِّ التصريحُ بالقسم (قسمي/يميني/حلفي) بعدها، وأمّا دلالة اللفظ، فلأنّ اللاّمَ في (لعمري)، هي لامُ القسَم الموصولةُ بالمقْسَم به، وهي دلالةٌ جليّة أمام المتلقّي، ولا داعي لذكرها حرصاً على الإيجاز والاختصار، وحسنِ النظم، والأثرِ الجماليّ الذي يحدثه الانزياحُ من خلال خلق بؤرة التوتّر الشعريّ.
ومثله قوله:[26]
لَعَمْرُكَ، ما يصْفو الزمانُ لِوارِدٍ | وإِنْ طــــــــــــــــــــــالَ ما أَحْمى لَظَى الْحَرْبِ صــــــــــفّانِ |
ونكتفي بهذه العيِّنات المنتقاة من الشعر الخطيبيّ تمثيلاً واستشهاداً وإلاّ فإنَّ النماذج َكثيرةٌ.
4) – حذف حـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرف النداء:
يتواتَرُ هذا الإجراءُ التركيبيُّ، وتتكرّر هذه الخصيصةُ الأسلوبيّةُ في الشعر الخطيبيّ مرّاتٍ متعدّدة، بحيث يصلُ عددُ تواترِه مائةً وثمانياً وأربعين (148) مرّةً في مجموع القصائد الخطيبيّة؛ ويتوزّع بين مائةٍ وثمانِ (108) مرّاتٍ في مطالع القصائد واستهلالاتها الافتتاحيّة، وأربعين (40) مرّةً في حشْوها.
ويتمظهر في عدّة مظاهرَ، من بينها:
*أ):– قد يكون المنادى مضافا إلى ياء المتكلّم، وموقعه صدر البيت، وهو لفظة (خليلَيَّ). كما في قوله:[27]
خَليلَيَّ، إِذَا ما جِئْتُمَا دَارَ (طَارِقٍ) | سَقَى الله ذَاكَ الرَّبْعَ صَوْبَ غَمَامِهِ |
ومثله قوله:[28]
خَليلَيَّ إِنْ يُلْفَ اجْتِمَاعٌ (بِخَالِدٍ) | فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً وَلَنْ تَعْدُوَ الْحَقَّا |
فمخاطبة الصديقين والخليلين من عادات الشعراء الجاهليّين. ويقال إنّ الشاعرَ عندما يفعل ذلك، إنّما «يخاطب واحداً ويخرج كلامه مخرج الخطاب مع الاثنين؛ لأنّ العربَ من عادتهم إجراءُ خطاب الاثنين على الواحد والجمع، وإنّما فعلت العربُ ذلك لأّن الرجلَ يكون أدنى أعوانه اثنين: راعي إبله وراعي غنمه، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى خطاب الاثنين على الواحد لـِمُرون ألسنتهم عليه»[29].
ولـمّا كان المنادى في البيتين (خليلَيَّ)، فليس ثمّة داعٍ لأداة النداء، فهما من القرب والدنُوّ بحيث لا يحتاجان إلى نداء.
وأحياناً يكون المنادى المضاف إلى ياء المتكلّم مفرداً وليس اسماً مثنّى (خليلِي)، كما في قوله في مراجعة إخوانيّة[30]:
خَليلِي إِن اشْتَقْتَنِي مَرَّةً | تَشَوَّقَكَ الْقَلْبُ مِنِّي مِرَارًا |
والتقدير: يا خليلي. ونستشفّ من البيت مسحةً من الشوق وألم البيْن يذيبان كيان الشاعر ويعتصران فؤاده. ولشدّة قرب المنادى من شَغاف قلبه استغنى عن أداة النداء.
*ب): تحذف الأداة مع المنادى المضاف إلى ياء المتكلّم (مولايَ):
وهذه الصورة من الحذف كثيرةٌ في الشعر الخطيبيّ بحكم أنّ ثلثَيْ شعره مدحٌ. كما في قوله:[31]
مَوْلاَيَ، سِتٌّ مِنَ الظَّلاَمِ مَضَتْ | كالْمِسْكِ في صِبْغَةٍ وفي أَرَجِ |
وقوله[32]:
مَوْلاَيَ، مُذْ بَعُدَتْ دِيَارِي لا تَسَلْ | عَنْ طولِ لَيْلِي وارْتِقَابِ صَبَاحِي |
ومثله قوله[33]:
مَوْلاَيَ، يَا ذَا الْجَلاَلِ اْلبَاهِرِ الْعَالِي | سُلاَلَةَ الصَّحْبِ وَالْأَنْصَارِ وَاْلآلِ |
والتقدير في الأبيات الثلاثة: يا مولاي. ولفظ المولى يعني الصاحب، والناصر والحليف، والصديق، والمحبّ[34]… ولشدّة قرب الممدوح ودُنُوّه من المادح حذفت أداة النداء.
*ج): وقد يأتي المنادى علَماً مفرداً:
كقوله[35]:
وَ(رِضْوَانُ) أَعْظَمُ شَيْءٍ يَدُلُّ أَعَدْتَ الْخِلاَفَةَ أَنْوَارُهَا |
على أَنّ دَارَكَ دَارُ اْلخُلُودْ سَوَاطِعُ مِنْ بَعْدِ طُولِ الْخُمُودْ |
وقـولــه[36]:
(سَعِيدٌ) فَابْتَهِجْ لَفْظًا وَمَعْنَى | يُطَاوِعُهُ الزَّمَانُ بِلاَ زِمَامِ |
وقـولـه[37]:
(مُحَمَّدُ) قَدْ أَحْيَيْتَ دِينَ مُحَمَّدٍ | وَلِلْخَلْقِ أَذْمَاءٌ[38] تَفِيضُ وَأَرْمَاقُ[39] |
والتقدير: يا رضوان، ويا سعيد، ويا محمّد، وكلّ اسم عَلَمٍ من هذه الأسماء -هو لممدوح من سلاطين بني نصر أو بني مرين-منادى مبنيّ على الضمّ في محلّ نصب على المفعوليّة،[40] لأنّه مفرد معرّف بالعَلَميّة. وحذف حرف النداء؛ لأنّ المنادى -في كلّ النماذج- قريبٌ إلى قلب الشاعر المدّاح سواء أكان قرباً حقيقيّاً أم قرباً معنويّاً.
ومن هنا نرى أن حذفَ حرف النداء -بوصفه ظاهرةً أسلوبيّةً– قد ورد بصوره المختلفة في مواضع َكثيرةٍ من الشعر الخطيبيّ، ممّا يشير إلى تمكّن الشاعر من أدوات اللغة وبراعته في توظيفها، كما يعزّز هذا الحذف النمطَ المتسارع للأحداث.
أمّا حرف النداء الذي يقدَّر في كلّ صور الحذف السابقة فهو (يا) ولا يقدَّر سواه عند الحذف، ذلك أنّ (يا) هي أمُّ حروف النداء، وأكثرُها استعمالاً[41].
5) – حذف (رُبَّ):
كقوله[42]:
وَعُصْبةِ شَرٍّ، مِنْ يهودٍ، لَقيتُها | يُجانِبُها داعي الْهُدى، ويُحاشيها |
والتقدير: (ورُبَّ عصبة شرٍّ)، وأفاد حذفُها الإيجازَ وسرعة الإخبار من دون الحاجة إلى استعمالها، خاصّة أنّ حذف هذا الحرف (ربّ) يأتي غالباً محذوفاً مقدّراً، فكان حذفه لدى الشاعر منطقيّاً.
ومثله، قوله[43]:
وَغَريبَةِ الزَّمَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنِ الَّتي آثــــــــــــــــــارُهـــــــــــــــــــا مَتْـــــــــــلُوَّةٌ بين (الْحَطيـــــــــــــــــــــمِ) و (زَمْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزَمِ)[44]
والنماذجُ كثيرةٌ في الشعر الخطيبيّ.
6) – الحذف في التركيــــــــــــــــــــــــــــــب الشرطيّ:
تتركّب الجملةُ الشرطيّةُ – كما هو معلومٌ – من أداة الشرط وجملة الشرط وجملة جواب الشرط. والمعنى الكائن في جملة الجواب يرتبط بالمعنى المتمثّل في جملة الشرط، بحيث يصبح التركيبُ الشرطيُّ –في النهاية- تركيباً واحداً[45].
ومن المسائل المتعلّقة بالحذف في التركيب الشرطيّ:
*أ): حذف أداة الشرط وفعله:
وأداة الشرط وفعل الشرط قد يحذفان بعد الطلب، وشرط ذلك أن يليَ هذا الطلبَ فعلٌ مضارعٌ مجرّدٌ من الفاء يقصد به الجزاء[46].
يقول ابنُ الخطيب:[47]
واهْزُزْ غُصُونَ السُّمْرِ وهْيَ ذَوَابِلٌ | تَسْقُطْ عَلَيْكَ الْعِزَّةُ الْقَعْسَاءُ[48] |
فقد جاءت جملة الطلب (اهزز) بصيغة الأمر، ثمّ الجملة الفعليّة ذات الفعل المضارع المجزوم (تسقطْ)، وتقدير الكلام: (واهززْ غصون السمر، إنْ تهززْ غصونَ السمر تسقطْ عليك العزّةُ القعساءُ).
أي أنّ الفعلَ المضارع (تسقط) مجزومٌ على تقدير أداة الشرط (إِنْ). ويتّضح هذا أيضا في قوله[49]:
وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَلُحْ إِلَيْكَ بِوَجْهِهِ | سِمةَ الشَّجَاعَةِ مِنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ |
ونلحظ هنا أنّ الشرطيّةَ والتعليقَ واضحان على الرغم من حذف أداة الشرط وفعله، وكما أنّ العلاقةَ التلازميّةَ بين الجملتين الفعليّتين (انظر) و(تَلُحْ) ظاهرةٌ في السياق، واضحةٌ للعيان، وتقدير الكلام: (انظر إليه، إنْ تنظر إليه تلح إليك بوجهه سمة الشجاعة).
ويقول أيضاً[50]:
فَاصْبِرْ على مَا حُمِّلُوا تَنَلِ الْمُنَى | بالسَّبْكِ أَدْرَكَ نَقْشَهُ الدِّينَارُ |
العلاقةُ التلازميّةُ بين الجملتين الفعليّتين (اصبرْ) و(تنلْ) باديةٌ للعيان، فقد جاءتِ الأولى جملةَ طلب بصيغة الأمر، وجاءت الثانيةُ جملةً فعليّةً ذات فعل مضارع مجزوم (تنل) على تقدير أداة الشرط (إنْ)، وتقدير الكلام: (فاصبر على ما حمّلوا، إنْ تصبرْ على ما حمّلوا تنلِ المنـى).
ويقول كذلك[51]:
انْظَرْ إِلَيْهَا تَجِدْ (حَبَّ الْـمُلُوكِ) بِهَا | وَقَدْ حَكَى نَوْرُهَا الْمُبْيَضُّ حِينَ فُتِحْ |
وتقدير الكلام: (انظرْ إليها، إنْ تنظرْ إليها تجد حبّ الملوك بها…)
والنماذجُ كثيرةٌ في الشعر الخطيبيّ ونستشّف منها صفتَـيْ السرعة والمباشَرة، وتتّسم بالإيجاز والاختصار والتركيز.
*ب): حذف جواب الشرط:
تتعرّض جملة الجواب في التركيب الشرطيّ للحذف إذا كان ثمّة دليلٌ عليها أو قرينةٌ بحيث لا يؤدّي حذفُها إلى لَبْسٍ في المعنى.[52]وقد ورد حذف جواب الشرط في الديوان في موضع واحد فقط، وذلك في قوله:[53]
سقى عَلَمَ (الْحنّانِ) (فالْجِـــــــــــــــزْعَ) (فَالْبَانـَا)[54]
فَإِنْ عَدَّ تَسْكَاباً[55] مَعَالِمَ أُنْسِهَا |
مُلِثٌّ[56] يُبــــاري الرٍّهْمَ[57] سَحّــــــــــاً وتَهْنـــــــــــانا
وَحَيَّى بمَسْرَاها هضاباً وَغِيطَانا هَصَرْنَا[58] بِهَا غُصْــنَ الشَّبِيبَةِ فَيْنَـــــــــــــــانا |
فالجوابُ في هذه الجملة الشرطيّة (فإن عدّ تَسكاباً…) محذوفٌ، وحذفه – هنا – يثير ذهنَ المتلقّيَ، ويَلفت انتباهه، فيقوم هذا المتلقّي بتخيُّل ما هو محذوف، وفتح باب التـأويلات الممكنة في شأنه على نحو يؤدّي إلى اكتمال المعنى وإتمامه، وهذا ما يخلق في الرسالة النصّيّة عمليّةً تفاعليّةً بين المرسِل والمرسَل إليه، ويزيدها جماليّةً ورَونقاً، لأنّ الشعرَ لا يسلم قياده بسهولة إلى متلقّيه، إذ لا بدّ من تشويشِ وتوتّرٍ على الفهم والإدراك. وكلّما زادت حدّةُ هذين العنصرين في نصٍّ ما كلّما زاد بهاءً وحسناً، وهذا هو منبع اللغة الشعريّة وسرّ خلودها وإكسير ُبقائها.
ونكتفي بهذه الشذرات الدالّة من الشعر الخطيبيّ، وإلاّ فإنّ الشواهدَ كثيرةٌ ستمتدّ بنا إلى صفحاتٍ طوالٍ لا يسعها هذا المقامُ.
وفضلاً عن ذلك، فإنّنا اقتصرنا في هذه المقالةِ المتواضعة على عرض المادّة المدروسة ومتنها دون هوامشَ؛ توثيقيّةٍ أو توضيحيّةٍ، نظراً لطولها وكثرتها، ومراعاةً لخصوصيات النشر في الجريدة، وكما يقال، فلكلّ مقامٍ مقالٌ.
د. يوسف الرايس