- نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس؛ عنوان رحلة حج مغربية ألفها العلامة الفقيه، والأديب الصوفي: أحمد بن عبد القادر القادري الحسني، [ت. 1133هـ]، في رحلة ومناقب وأحوال شيخه العارف الكبير، والقدوة الشهير: أبي العباس أحمد ابن عبد الله معن الأندلسي الفاسي، [ت. 1126هـ] أحد أشهر شيوخ التصوف في عصره.
- قال عنه القادري في «نشر المثاني»: ” كان رأسا في علوم القوم، وتحرير عباراتهم، وتدقيق إشاراتهم”، وقال عنه الشيخ جعفر الكتاني في «سلوة الأنفاس»: “كان رحمه الله من أعيان الطريقة، وأكابر علماء الحقيقة، على قدم السلف الصالح، والمنهج القويم الواضح، وكان على قدم التجريد”، وقد جدد الزاوية التي أسسها أبوه الشيخ محمد بن عبد الله معن، وأصلح مداخلها ومرافقها وأحيا بها دروس العلم، وحبّس عليها خزانة كتب، “فصارت بسبب تجديده لها تنسب إليه”، كما يقول عنه الشيخ عبد الكبير الكتاني في «روض الأنفاس العالية».
- أمّا كاتب الرحلة: أبو العباس أحمد القادري، فيقول عنه الشيخ أحمد بن الصديق الغماري في « الائتناس بتراجم فضلاء فاس»: “الفقيه الأديب النسابة، ولد سنة خمسين وألف (1050هـ)، ونشأ في دين ومروءة، وطلب العلم ولقي المشايخ”، فدرس بفاس على الشيخ عبد القادر الفاسي، ورحل في طلب العلم إلى الزاوية الدلائية، وأقام بها مدة حصل فيها على حظوة من شيوخ أهل الدلاء، يقول الأستاذ محمد حجي: ” وأقام أحمد القادري في الزاوية الدلائية طويلا يأخذ العلم عن محمد المرابط الدلائي، والحسن اليوسي، ثم أصهر إلى الدلائين فتزوج بنت الشاذلي أخي الرئيس محمد الحاج مستقرا نهائيا بالزاوية الدلائية إلى أن خرج منها مع أهلها عندما خربها السلطان الرشيد” سنة: ( 1079هـ)، وكان خروجه منها رفقة الإمام اليوسي.
- بعد هذه الحادثة رحل إلى الحجّ (سنة 1083هـ)، وأقام إثر عودته بالقاهرة مدة سبع سنين، درس فيها على جلة من أعلامها، على رأسهم الشيخ عبد القادر الزرقاني، [ت.1099هـ]، والشيخ محمد الخرشي [ت. 1101هـ]، وأخذ الطريقة القادرية بالديار المصرية عن شيخها في عصره الشيخ علي بن بدر الدين القادري، ثم رجع إلى المغرب، وقبل أن نقفل هذه الفقرة من الحديث سنقف هنيهة مع البغلة التي حج عليها الشيخ أحمد القادري، فقد كان هذا المركوب من إهداء الإمام اليوسي للشيخ القادري في موقف يحمل الكثير من الدّلالات الإيمانية والمعاني الصّوفية والقيم الأخلاقية.
5.يقول محمد بن الطيب القادري في « نشر المثاني»: ” لـمّا قصد سيدي الحسن اليوسي زيارة الشيخ أبي يعزى، فمرّ بفاس، طلب من صاحب الترجمة (أحمد القادري) أن يرافقه لزيارة أبي يعزى، وأعطاه بغلة يركبها، فسار إلى زيارة سيدي أبي يعزى، فزارا ورجعا إلى فاس، فأراد صاحب الترجمة أن ينزل عن الدابة التي أعطاه الشيخ اليوسي يركبها، فقال له سيدي الحسن: هي لك، وما قلت لك خذ هذه واركبها حتى خرجت عنها لله، فأخذها صاحب الترجمة، وهي التي حجّ عليها، وكانت من سرعان البغال بحيث لا يسبقها إلا القليل”.
- رجعٌ؛ بعد رجوع الشيخ من رحلته الأولى إلى فاس دخل في طريق القوم، وتجرد للعبادة والذكر، والقيام والصوم ، فلازم زاوية الشيخ محمّد بن عبد الله معن، “وأكثر من مطالعة كتب القوم، واتباع سيرهم، وسلوك طريقهم، فنال منهم قدما راسخا، موظبا على قراءة دلائل الخيرات ويحفظه ويسرده عن ظهر قلب”، كما يقول عنه في «السّلوة»، و”صحب سيدي أحمد بن عبد الله بن معن وتربى به، وتهذب وتأدب حتى صار من العارفين، وأولياء الله الصالحين” ،كما يقول عنه في «النشر».
- في سنة (1100هـ) سيعاوده الشوق والحنين مرة أخرى إلى الديار المقدسة، والبقاع المشرفة، فشد عزمه، وجهز رحله من جديد؛ إلا أن هذه المرة سيكون برفقة شيخه أحمد بن عبد الله بن معن وصحبته، وعنه سيكتب رحلته: «نسمة الآس»، ليكوِّن بذلك نصا رحليا يكتب عن حجة الغير، يقول عنها الشيخ أحمد بن الصّديق: “وألّف رحلة استوعب فيها أحوال الشيخ المذكور في سفره، تضمنت فوائد نفيسة جدا مع اختصارها”، ويقول عنها الأستاذ عبد الهادي التازي: ” والطريف عن هذه الرحلة أن صاحبها لا يتحدث عن نفسه، ولكنه يُغطي رحلة أستاذه أحمد بن عبد الله بن محمد بن معن”.
- أمّا عن أسلوبه فيها فقد تميز بجمالية السرد، وجزالة اللفظ، وعمق المعاني، ما دفع بالأستاذ محمد الفاسي أن يصفها بقوله: ” تمتاز بأسلوب جميل حيّ، يجعلها في نظري من أبدع الرحلات التي ألفت في المغرب”، وبالأستاذ محمد حجي أن يقول عنها: “وهي مفيدة جدا على اختصارها”.
- يقول في مطلعها: فقد أردت أن أذكر في هذا التقييد بعض فوائد من أخبار سيدنا الإمام، الأوحد الهمام، العارف باللّه، والدال على الله، سيدي أبي العباس أحمد بن الولي الكبير سيدي محمد الشهير بابن عبد الله، نزيل المخفية من عدوة فاس الأندلس في توجهه للحجاز، وحجته المبرورة المعتبرة، وزيارة المدينة المشرفة المنورة، وما بها من الأماكن المباركة المشتهرة، وما وقع له من ذلك بالمدن والطريق، وحاله مع كل ملازم له أو رفيق، وسميته: نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس.
- فأقول: لـمّا كان سيدنا أحمد بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، ممـن حاز قصب السبق في كل فضيلة، وتحلى ظاهرا وباطنا بالحلل الجليلة الجميلة، ولم يبق له من متمناه بين الأنام إلا الحج لبيت الله الحرام، سمت به همته إلى طلبه وتحصيل أربه، وكان دائما يرصد إبّانه، ووقته وأوانه، إلى أن أتى، فقام على ساعد الجد والتشمير، ونهضت به همته للمسير، فأخذ رضي الله عنه في التأهب والرحيل، وخلف العشائر والقبيل، فما قرّ له إذ ذاك قرار، إلى أن حج وزار، وتردد بين الديار، واستمتع بتلك الأماكن والأثار”.
- ينطلق الشيخ القادري بعد هذه المقدمة في وصف مراحل الرحلة التي قطعها الركب إلى أرض الحجاز منطلقا من مدينة فاس التي خرج منها شيخه “خفية من جميع الناس، راكبا بغلة له فارهة خضراء”، مارّين بغمارة بقصد لقاء أحد مشايخ التصوف، وهو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد اليمني [ ت. 1113هـ]، الذي كانت له مع الشيخ أحمد بن معن صحبة جليلة، وصفها الشيخ جعفر الكتاني:”بالمواخاة العظيمة”، وقال عنها القادري في «التقاط الدّرر»: “ولم نسمع بعد الصحابة والتابعين من تحابّا في الله مثلهما”، وزاد في وصف أحوال هذه الصحبة في «النّشر» بقوله: “وأمر هذين السيدين في مواخاتهما، وكمال حالهما، واتفاق سيرتهما، واتحاد نظرهما من أعاجيب الزمان، وكذا أخوة كل واحد منهما في الله وغناؤه به إعطاء وأخذا”.
- وبمدينة تازا سيتوقف الركب قليلا ريثما تلتحق بعض الوفود، وكان أبرز من ورد على الشيخ أحمد بن معن والتحق بركبه وصحبه في حجته الشيخ العارف و”الفقيه النّبيه، المبارك النّزيه”: محمد بن محمد الدريج الأندلسي التطواني، [ت.1126هـ]؛ والذي كانت له مع الشيخ ابن معن صحبة، وكان مما قاله فيه:
ولــــمّا رفعت الطرف مني لاحظاً ** وفاجأني نورٌ أضـــــــــــــــاء على الرُّبا
تحيّرَ منّي العقلُ في وصف حُسنه** فقلتُ ابن عبد الله أبدى التّــــــــــقرّبا
فـــــــــــــــــــلاحَ لنا منه الجـــَــــــــمَالُ عـــــــشيّةً** وحــَـــــــــــــــــرّك أشواقاً وللقــــــلب أطربا
وكــــــــــــــــــــــنّا جميعاً لاهجـــــــــــــــــــــين بذكره** شربنا بها صَهْباءَ هيّجتِ الصّبا
يتبع…
د. محمّد شابو