- في الحديث السّابق؛ تمّت الإشارة إلى أنّ النّص الرّحلي الحجازي، أو نصّ رحلة الحجّ المغربيّة الذي كتبه الشّيخ العلاّمة أحمد بن عبد القادر القادري، كان يخصّ شيخه الشيخ الإمام الصوفيّ أحمد بن معن، واصفاً أحواله ضمن ركب الحج المغربي الذي جمع ثلّة مباركة من العلماء ومشايخ التّصوف، يتقدّمهم الشّيخ أحمد بن مَعْن.
- تعلّق الشّيخ القادري بشيخه أحمد بن معن مما يلفت نظر القارئ عند أولى مطالعاته لنصّ الرّحلة، مجسّداً بذلك كامل الأدب الصّوفي بين المريد والشّيخ، ولذلك فهو يتتبّع حركاته خطوة بخطوة ولحظة بلحظة، وعبارة “سَيّدنا” لاتفارق لسانه، فتقرأ: ” وصلّينا الظّهر بأوّل تقصير مع سيّدنا”، ” فأنهي خبر سيّدنا إلى أهلها”، ” وانحاش بعضهم لسيّدنا”، ” و”صنع سيّدنا طعاماً من الكسكسو”، ” فذهب سيّدنا أحمد لزيارته”، ” ومن صبيحتها مرّ سيّدنا على تلك العين”، ” قصد سيّدنا زيارة الشّيخ زرّوق”، “تفقّد سيّدنا بعض الأصحاب”، “وسيّدنا بيننا كنجوم وسطها البدر”.
- هذا فضلاً عن نثر أبيات شعرية في مدح شيخه كلّما أحسّ بداعي الشّعر في نفسه، كقوله والرّكب على أهبة الاستعداد للخروج من تازة:
وســــــرتُ مع الرّكــــب السّعيد وسيّدي** إمَامي أمَامَ القوم يَعْتَســــــــــفُ البيدا
فما مثلهُ بدرٌ ولا الشّمسُ في الضُّحى** ولا مِيةٌ تُجلي وسَلْمَى ولا سُعْدا
وكقوله عند خروجهم من مصر آمِّينَ الحجاز، “حقيقة لا مجاز، والنّاس في فرح وسرور، وزهوّ وحبور، لهم حنين واشتياق، وهيامٌ بين تلك البوازل والنّياق”:
إذا اكتحلتْ عيناك منهم بنظرةٍ ** رأيتَ وُجوهاً كالبُدور وأمــــْـــــــلَحا
وإن تدنُ من ذاك البساطِ وحُسنه** فلا بدّ أن تتلوَ تبارك والضّحى
- يحرص الشّيخ القادري في ثنايا مصنفه الرّحلي إبراز أخلاق شيخه مع مريديه وسائر الرّكب، وكيف كان أدبه مع سائر الخلق، وكأنّه بذلك يقيم شواهد حقّ على هذا الإجلال والاحترام الذي يبديه تجاه شيخه، وأنّه أهل لذلك حقّاً، وأنّ الشّيخ أخلاقٌ ، يقول بعد أن انتهوا من زيارة ضريح الشيخ أحمد زرّوق “وقفنا معه بداوبنا في تلك الرّحال حتّى يأتي العَلَمُ والخبير، فيركب بغلته إذ ذاك ويسير، ويجلعهما منه أمام، وإن كان في المعنى هو الإمام، ونحنُ وأهل الرّكب على أثره مع جماعتنا سائرون، وقلوبنا معه طائرون…
5.نبدأُ حزب الغداة عند الخروج من الدّار، ونختمه عند طلوع النّهار، وننحاشُ إليه مع العلاّم، ولا يبقى لأحدٍ منّا كلام، إلى أن يلتفت إلينا، ويتجلّى بوجهه السّعيد علينا، ويسأل عمّن يتخلّف منّا في المراحل، ممّن لا يراه غير راكب ولا راجل، وكنّا والحجّاج فيه سواءً في المسير والكلام، والسّلام على من والاه من الرّكب من الخوّاص والعوّام، ويتكلّم مع الصّعاليك ويباسطهم ويواليهم، ويتفقّد أحوالهم ويواسيهم، ويوصي بأهل الجمال خيراً، وبالاعتناء بهم في طعامهم وشرابهم والرّفق بهم في المعاشرة، ويحنّ على الأعراب وعلى أهل البوادي، ويسلّم على من لقي منهم من رائحٍ وغاد، ويحضّ أهل الرّكب على الاحتياط والحزم والاجتماع، وعدم التّفريط في الدّواب والمتاع، ومن بَعُدت عليه دابّته أو فرّت ولم يَشعر وراءها ، نبّهه عليها، وربّما سعى بنفسه إليها، وهكذا كان حاله في سائر سفره كلّه في ذهابه وإيابه”.
- وعلى ذكر الشيخ أحمد زرّوق دفين مدينة مسراتة اللّيبية، فقد كان دأبُ الشيخ زيارة من اشتهر بولاية أوصلاح أينما حلّ وارتحل في عادة متّبعة، وقد صوّر لنا القادري مشهد دخول شيخه أحمد بن معن إلى ضريح الشّيخ أحمد زروق والتّبرك به قائلاً: “ولما طلع الفجر من هذا اليوم وقضينا الأوطار بعد صلاة الصّبح، وقبل طلوع النّهار، قصد سيّدنا زيارة الشّيخ سيّدي زرّوق مع جماعة من الأصحاب، وجعلوا يقرؤون حزب الغداة مارّين في أثره في الأعقاب، فسار حتّى وصل ودخل إلى الباب، وأكبّ على ضريحه أيّ انكباب، وأخذ النّاس في الذّكر والتّسبيح، على عادتهم في كلّ ضريح، وطابت إذ ذاك أوقات الحاضرين، وكانت ساعة تسرّ النّاظرين، ودرّ لبن الرّحمة والحنان، وأحسن بذلك منهم كلّ إنسان، وتواصلت الأرحام الرّوحانية، وظهرت نسبة الأبوّة العرفانية، إذ لسيّدنا بهذا الشيّخ اتّصال في الطّريق، وهو من أهل ذلك الحزب والفريق”.
- ولم يفته أن يبرز في ذات السّياق سند شيخه أحمد بن معن إلى الشيّخ أحمد زروق، فطريق الشيخ ابن معن كما يقول” زرّوقيّة الولادة، متّصلة الإسناد من غير نقص ولا زيادة، فهو رضي الله عنه أخذ طريق القوم عن الشّيخ أبي الفضل قاسم الخصاصي، [ت. 1083هـ]، وهو عن الشيخين: أبي محمّد عبد الرّحمان بن محمّد الفاسي، [ت.1036هـ]، وأبي عبد الله محمّد بن محمد بن معن والده، [ت.1062هـ]، كلاهما عن الشيّخ أبي المحاسن يوسف بن محمّد الفاسيّ،[ت. 1013هـ]، عن الشّيخ أبي محمّد عبد الرّحمان المجذوب،[ت. 976هـ]، عن الشيّخ أبي الحسن علي بن أحمد الصّنهاجي، عن الشّيخ إبراهيم الفحام، عن الشّيخ أحمد زروق، رضي الله عنهم أجمعين.
- وممّن زار ضريحهم الشيخ ابن معن في طريقه إلى الحج قبل الشيخ زروق زيارته لضريح الصّحابي الجليل أبي لبابة الأنصاري الذي اشتهر مدفنه بمدينة قابس التّونسية، وكان قد مرض مرضاً شديداً وأصابته حمى غيّبته عن حسّه فقصدوا زيارته واشتغل الشيخ ” بذكر الله، وتلاوة القرآن، والصّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا في التّضرع والخشوع، وانسكاب الدّموع، ووقع منهم الجدّ والتّشمير، وأصابهم وجلٌ كثير، وليس لهم همّ ولا اهتبال، إلاّ في طلب الشّفاء لسيّدنا في الحال، فتحّققت الإجابة، من بركة أبي لبابة، المعروف في الصّحابة، وكانت ساعة مستطابة”.
- وأبو لبابة الأنصاري بشير بن عبد المنذر، صحابيٌّ أنصاريٌ جليلٌ من ساداتهم، اختلف في مكان وفاته على أقوال، منها مدينة قابس التونسية الذين اشتهر مدفنه بينهم، مع أنّه ليس هناك من المصادر المختصّة بأنواعها، من كتب التّاريخ والتراجم ما يفيد أو ينصّ على أنّ أبا لبابة الأنصاري رضي الله عنه دخل إفريقيا أو مات بأرضها، كما لم يُشر أحدٌ من المؤرخين الذين تتوّفر مصادرهم بين أيدينا، أو من الذين صنّفوا في الطّبقات عامّة، أو الطّبقات الإفريقية بشكل خاصّ، إلى كون أبي لبابة دخل مدينة قابس.
- وأقدم نصّ يوجد بين أيدينا يشير فيه صاحبه إلى وجود قبر لسيّد من سادات الصحابة “بقابس” هو لأبي المطرّف أحمد بن عَميرة المخزومي [ت:658هـــ]، في رسائله التي حقّقها المرحوم الدكتور محمد بنشريفة، وهي المدينة التي كان قد ولُيّ قضاءها، ونصٌّ آخر للعبدري [ت.700هـ] في رحلته، وآخر للرّحالة التونسي أبي محمد التّجاني [ت. بعد 706هـ]، ثمّ استمرّ النقل عنهم، وممن نقل عنهم ذلك: أبو الفضل بن ناجي التنوخي، [ت. 939هـ]، صاحب «معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان»، وأبو سالم العيّاشي وغيرهم، ولو أنّ أبا سالم ظل يساوره الشّك بخصوص وجود القبر بتلكم المدينة إلى أن أطلع على ما أورده التنوخي.
- وقد دافع المؤرخ التونسي المرحوم الأستاذ حسني عبد الوهاب [ت: 1388هـ/1968م]، عن وجود قبر أبي لبابة بمدينة قابس بأدلّة ومقارنات عامّة، لا تكفي أن تكون دليلاً في إثبات وجود القبر بمدينة قابس، كما أنّ جلّ من تطرق لهذا الموضوع أغفل إشارة لابن حبّان في كتابه «مشاهير علماء الأمصار»، من أنّ أبا لبابة مات بالمدينة في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي إشارة تشوّش كثيراً على أهل مدينة قابس.
د. محمد شابو