1.النّص الرّحلي الحجازي الذي سنخصّص له حديثنا الفكريّ في هذه الحلقة، هو من أنفس وأشهر نصوص رحلات الحجّ المغربيّة التي كُتبت في عصر الدّولة العلويّة الزّاهر، العصر “الذي ازدهر فيه فنّ الرّحلة أيّما ازدهار”، كما يقول الأستاذ المرحوم محمّد الفاسي؛ يتعلّق الأمر برحلة العالم والوزير السّلطاني أبي محمّد الشّرقي الإسحاقي [ت. بعد 1150هـ]، أحد أبرز الشّخصيات الفكرية والسّياسية في عهدي سلطاني المغرب مولاي إسماعيل، ومولاي عبد الله.
2.سببُ نفاسة هذا النّص الرّحلي وشهرته يرجع لعدّة اعتبارات، أهمّها: أنّه من تحرير شخصيّة مغربيّة عالمة، ويكفي نصوص الرحلة نفاسة ومصدر علم، وشمول معرفة، أن يُدوّنها شخصٌ عالم، كشخصيّة الوزير الإسحاقي، أحد من زاحموا بالرّكب في مجالس العلم للإمام أبي علي الحسن اليوسي.
وقد شهد لهذا النّص بالنفاسة أحد شيوخ الفكر المغربي، وهو العلاّمة السّفير المؤرخ المرحوم عبد الهادي التّازي، في كتابه: «مكّة المكرّمة: مائة رحلة مغربيّة ورحلة»، حيث يقول: “الرّحلة تُعتبر في عداد النّفائس التي تعطي فكرةً واضحةً عن تعلّق المغاربة بقبلتهم في المشرق، ممّا قد يُفسّر القولة السّائرة: مكّة في الشّرق، ورجالها في الغرب”.
- أمّا كونها من أشهر رحلات الحجّ المغربيّة، فلأنّ النّص مُدوَّنٌ لتقرير رحلة حجّ أبرز شخصيّة نسائية سلطانية عرفها تاريخ المغرب، وأنبل العالمات الفقيهات الحافظات، والقدوات الصّالحات، ومن كان لها دور كبير في صنع الحياة السّياسية بالمغرب، ألا وهي الحرّة المصونة، وربّة الفخار والمجد المؤثّل، السيّدة خناثة بنت بكّار المغافري [ت. 1159هـ]، زوجة سلطان المغرب الأفخم مولاي إسماعيل، ووالدة السّلطان مولاي عبد الله وجدّة السّلطان سيدي محمّد بن عبد الله.
- وقد سجّل أبو عبد الله محمد أكنسوس في: «الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا عليّ السجلماسي» تاريخ بنائه بهذه السّيدة الشريفة فقال: ” ثمّ في عام 1089هـ، توجّه لتدويخ السّوس وتمهيده، فبلغ إلى طاطا وتبشيت وشنقيط، وقدمت عليه وفود العرب أهل السّاحل، والقبلة مغافرة، وكان في ذلك الوفد الشّيخ بكّار والد السّيدة خناثة أمّ السّلاطين، فتزوّجها السّلطان وبنى بها”، وكانت ذات جمال وفقه وأدب، بنصّ النّاصري في «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى».
- حفظ المقام يقتضي إطالة شيء من الكلام عن هذه الأميرة النّابهة، يقول عنها أحد أبناء الدّار الشّريفة المقدار عبد الرّحمان بن زيدان في «إتحاف أعلام النّاس بجمال أخبار حاضرة مكناس»: ” فقيهة عالمة أديبة ديّنة، من أصرح العرب نسباً، وأجلّهم حسباً، وأعرقهم مجداً وفخراً، وأعزّهم جانباً، وأرفعهم قدراً، من صميم قبائل المغافرة”، وعنها يقول الإسحاقي: “فما نعلم واحدةً من الحرائر التي دخلت دار الخلافة من أزواج مولانا السّلطان مولانا إسماعيل رحمه الله، تشبه هذه السّيدة ولا تدانيها همّة وصيانة وعفاف ورزانة، وحصانة عقل ومتانة دين، فهي من المسلمات المؤمنات القانتات المستجمعات للأوصاف التي أعدّ الله لهن عليها مغفرة وأجراً…
6.وكان لها تدبير مع مولانا أمير المؤمنين رحمه الله، ومشاورة في بعض أمور الرّعية، كانت له وزيرة صدق، وبطانة خير، تأمره بالخير، وتحرّضه عليه، وتتوسّط في حوائج النّاس، ويقصد بابها أهل الحياء والحشمة وذو الحاجات، وكانت في ذلك ركناً من الأركان جزاها الله بالخير، مع كثرة مباشرتها للسّلطان أمير المؤمنين رحمها الله، واتّصالها به”.
- أمّا مدوّن الرّحلة الوزير الإسحاقي فهو من الشخصيات العلميّة السّياسية على عهد السلطان مولاي إسماعيل ونجله مولاي عبد الله، وإن كانت مصنّفات التراجم شحيحة بخصوص ترجمته، وأخباره مستقاة من رحلته، وقد قرّبنا الأستاذ المرحوم عبد الهادي التّازي من هذه الشّخصية في كتابه « أمير مغربيّ في طرابلس أو ليبيا من خلال رحلة الوزير الإسحاقي » قائلاً: ” يعتبر الشّرقي الإسحاقي من رجال الثّقة الذين اعتمدهم السّلطان المولى إسماعيل في أعقاب الحملة التأديبية التي قام بها الجيش ضد تمرد جبال فازار، سنة 1024هـ، فهو ينتسب لآيت إسحاق، إحدى قبائل آيت أومالو الواقعة في الجبل، وقد كان ضمن الشهود على عقد الموالاة الذي تمّ بين الأميرين الأخوين أحمد وزيدان، والذي أمر به السّلطان المولى إسماعيل في منتصف رمضان من عام 1173هـ.
- وفي سياق آخر يقول عنه ملخصّاً: ” لقد حاولنا من خلال هاته الرّحلة أن ننسق بعض الجوانب من حياة مؤلّفها، وأن نتبّع أحواله، وأن نطّلع على مؤهلاّته الثّقافية التي خوّلت له القيام بهذا العمل الجليل، فهو فيما نعلم لم يحظ بترجمة خاصّة به، إذ غالباً ما يذكر مع ترجمة السّية خناثة بنت بكّار، حينما يتحدّث عن رحلتها إلى المشرق، أو يذكر مع السّلطان سيّدي محمّد بن عبد الله حينما يُشار إلى طفولته، وإلى مصاحبته لجدّته في رحلته هاته”.
- كانت السّيدة خناثة شديدة الشّوق والاشتياق إلى حجّ بيت الله الحرام، وكانت تنتظر السّير والإذن من الله حتّى أذن لها كما يقول مقرّر الرّحلة، وعن عزمها يقول القادري في «نشر المثاني»: ” توجّه خناثة بنت بكّار إلى الحجّ، مع حفيدها سيّدي محمّد بن عبد الله: ثمّ إنّ أمّه السّيدة الجليلة الفقيهة الفضيلة خناثة بنت بكّار بنت السيّد الوجيه الفاضل النّبيه، الحاذق في الأخبار، ومن لاذ به يُجار، ولا يصل إليه عار، حتّى في الفيافي والقفار سيّد قومه، وعميدهم وفارسهم، ومانعهم الشّيخ بكّار المغفري…
- التمست من ولدها أمير المؤمنين مولانا عبد الله الحسني التّوجه للشّرق بقصد الحجّ، فأجابها لذلك، وهيّأ لها جميع ما تحتاجه، ووجّه معها ولده خليفتنا الآن بالمغرب أمير المؤمنين السّلطان المنصور بالله المؤيّد فيما أولاه، مولانا أبا عبد الله سيّدي محمّد بن عبد الله بن إسماعيل الحسني، فحجّ معها، فكانت في هذه السنّة المباركة [1143هـ]، حجّته، وحمدت بتوفيق الله في كلّ حركة وجهته، وزار جدّه المصطفى الرّسول، واتّصلت الفروع مشاهدة الأصول، ولله درّ من قال:
إن قيل زرتم بما رجعتم ** يا أكرم الخلق ما أقول
قولوا رجعنا بكل خير** واجتمع الفرع والأصول
- خرج الوفد الرّسمي من مدينة فاس يوم الجمعة 17 جمادى الثانية 1143هـ، تتقدّمه الأميرة خناثة وحفيدها السلطان سيّدي محمّد بن عبد الله في ” أبّهة من الملك كبيرة، وأسباب من أسبابه أثيرة”، بالإضافة إلى باقي أعضاء الوفد أبرزهم شيخ الرّكب عبد الخالق عديل، والوزير الشّرقي الإسحاقي، والقاضي بلقاسم بن سعيد العميري، والفقيه العربي بن محمّد المكناسي، والفقيه بلقاسم التسولي مؤدّب الأمير سيّدي محمّد بن عبد الله.
12.وقد كان لخطّة ووظيف “شيخ الرّكب” مقامٌ كبير كما يقول الفقيه المرحوم محمد المنّوني في كتابه: «من حديث الرّكب المغربي»، “وكان الملوك هم الذين يعيّنون رئيس الرّكب ويختارونه من علية النّاس فضلاً وأخلاقاً وثروة وعراقة بيت، وكثيراً ما كانت بعض العائلات المغربيّة تتداول هذه الولاية، وفي الدّولة العلوية تداولتها عائلات أطولها أمداً بيت أولاد عديل، حيث تسلّسلت في بيتهم رئاسة الرّكب الفاسي مدّة تزيد على الأربعين عاماً ابتدأت تقريباً من عام 1121هـ وانتهت بعد عام 1162هـ”.
- كان يوم خروج ركب الحجيج يوماً مشهوداً، ويشيعه النّاس عامّتهم وخاصّتهم، وقد يحضره السّلطان وحاشيته، وقلّ من يبقى بالمدينة-كما يقول الإسحاقي-” إلاّ خرج ودبّ ودرج، حتّى اختلط النّساء والولدان والأحرار والعبدان، وتزاحمت ذوات الحجال بالرّجال، وسمحت المقاصر بمخبئاتها، والقلوب بحبّاتها، فما ترى أعجب من ذلك اليوم ولا أحسن منه منظراً، يروق البصر، ويميل بالفكر، عادةً جميلة استندوا إليها، وطبيعة جبلوا عليها”.
يتبع…
د. محمّد شابو