1.1. قبل أن نطوي صفحة مشيخة علاّمتنا محمد حجي الذين تتلمذ لهم ودرس عليهم، وأُشرب حبّ العلم والشغف به في مدارسهم ومجالسهم ومنتدياتهم، يجدر بنا أن نشير إلى البعض الآخر منهم ممّن كان له تأثير في حياته، فمنهم:
- العلاّمة محمد بن العربي العلوي [1301هـ-1887م/ 1384هـ-1964م]، المعروف بالفقيه، وأحد الشخصيات العلمية البارزة الذين تركوا تأثيراً واضحاً على جيل من النخبة الفكرية والوطنية المغربية. يقرّبنا العلاّمة المرحوم محمد المختار السوسي في «مشيخة الإلغيين» من هذه الشخصية المغربية بقوله: ” إنّ أمثاله هم الذين يزيّنون الحياة ما داموا أحياء، وإن استأثر الله بهم زانوا التاريخ بأعمالهم الخالدة، قل بالله: هل تعرف ذا مبدإ ثابت رصين في مقاومة البدع مثله، فإنه وحيدٌ في مبدئه الفعال، ولو كان هذا العصر ممن يزن الرّجال بأمثال هذه الأعمال لأعلن النّاس كلّهم: أنّ أستاذنا وحده فريد العصر، كما أنّه فريد في التّفكير السّليم، والثّبات على فكره، لا يعرف تقلباً ولا مراوغة، فربّما يفوقه غيره قلماً، ولكنّه فاق غيره بفكر رزين”.
- ومنهم: أبو بكر بن الطاهر زنيبر [ت. 1376-1956]، وقد كان من الأعلام المغاربة الذي تبنّوا الفكر الإصلاحي، يقول عنه المرحوم عبد الله الجراري في «الأعلام»: كرّس حياته على الدّراسة والإفتاء والتأليف ومقاومة الاستعمار، وكان يكتب بالصحف والمجلاّت؛ أحياناً في الفقه، وأحياناً في الاجتماع والسياسة والحضارة بوجه عام، وقد كان لمقالته صدىً كبير في الدّاخل والخارج، ومن أبرز آثاره العلمية والفكرية: « إرشاد الله للمسلم الغافل عن اللّه» وهو تفسير للقرآن الكريم في عدّة مجلّدات، و«جهود الإسلام في ترقية الأنام» « نظرات في تطور التّعليم».
- ومنهم: محمد بن أحمد البارودي [ت.1376-1956م] الفقيه العلاّمة المدرّر، يقول عنه الفقيه المؤرخ عبد السلام ابن سودة: “العلاّمة الأديب الصوفيّ، كان ملازماً للتّدريس بالزاوية التجانية بسلا، وله اليد البيضاء في الحركة الوطنية”، وعنه يقول الفقيه المرحوم الجراري:” كان يلقي دروساً في العربية بألفية ابن مالك مع طبقة الكبار، كما كان يعطي دروساً على الطريقة العتيقة، وكان يميل إلى الجدّ وينحو في سلوكه منحى الصوفية لا تفارقه السّبحة، حسن السمت، طيب السيرة”.
- هؤلاء أبرز الأعلام الذين زاحم علاّمتنا محمد حجّي بركبتيه مجالسهم، وكرع من حياض علومهم ومعارفهم، وأسهموا في بناء شخصيته العلمية الأصيلة، ودفعوا به إلى الرّيادة الفكرية المتينة، ” فقد تهيّأ الأستاذ حجي لهذه الرّيادة على أيدي معلّمين من الصنف الأصيل… ولا يفتأ يذكر الأساتيذ لاهجاً بأفضالهم إلى الآن، هذا الصنف يطبعون التلميذ وإن لم يطبعوا الكتب، وكيف ينسى دروس الصبيحي في التوقيت والفلك وهو يستعين فيها بمنظار اقتناه ليدرّب الطّلبة على حركة الكواكب من فوق سطح منزله”، كما يروي ذلك الأستاذ الدكتور أحمد التوفيق.
- لم يكتف علاّمتنا محمد حجي بهذه الثقافة العلمية الأصيلة والمفتوحة على أبواب العلم المختلفة، فهي مرحلة سيتوّجها بالانخراط في الدّراسة الأكاديمية البانية للمنهج، والمنظمة للتّفكير، ولم يكن أمام علاّمتنا غير الانتساب إلى “معهد الدّراسات المغربية العليا”، وهو المعهد الذي أُنشأ في عهد الحماية نواة الجامعة المغربية، يقول الأستاذ المرحوم محمّد عابد الجابري في «التّعليم في المغرب العربي» متحدّثاً عن هذا المعهد؛ معرّفاً به وعن نشأته: ” أمّا بالنّسبة للتّعليم العالي فقد تمّ إنشاء “معهد الدّراسات المغربية العليا”، الذي تحوّل غداة الاستقلال إلى كلّية الآداب، لقد تأسس هذا المعهد عام 1914م، تحت اسم: “المدرسة العليا الفرنسية البربرية”، ثمّ تحوّل سنة: 1920م إلى معهد الدّراسات المغربية العليا، حيث احتلّت دراسة اللّهجات البربرية والإثنوغرافيا والفلكور المغربي مكان الصدارة فيه”.
- وهو المعهد الذي أُسّس كما يقول الأستاذ المرحوم محمّد حسن الوزّاني في «مذكّراته»: لمن أراد من الشّبان أن يتخصص في الدراسات القضائية، واللغة واللهجات، والتاريخ، والجغرافية والترجمة، فكان هذا المعهد مركزاً لتكوين أطراف الإدارة أو القطاع الخاص، ولهذا كانت البرامج تشمل دروس الفلاحة والتجارة”.
- التحق علاّمتنا محمد حجي بهذا المعهد، متخصصا بداية في الدّراسات اللغوية، إذ لم يكن قد أخذ مشواره التاريخي بعد، وهي الدّراسة التي ستخوله الحصول على الإجازة في اللغّة العربية من كلية الآداب بالرّباط، سنة: 1959م، يقول-رحمه الله-: ” مراحل دراستي الأولى كانت بهذه المدينة وبالرّباط، دراسة تقليدية عربية، ثمّ بعد ذلك درست في معهد الدّراسات المغربية العليا، وهو المعهد الذي تحوّل فيما بعد إلى كلية الآداب؛ في كلية الآداب هيأت إجازة اللغة العربية، معنى ذلك أني كنت أهتمّ باللغة العربية، وفي فترة من الفترات كنت أتطلع إلى الشعر والكتابات الشعرية، ولكنّي وجدت نفسي غير أهل لأن أكون شاعراً، فانصرفت عن ذلك، فكان الأمر فقط من لغو الشباب، لم يكن لي شعر حقيقي، وإنما هي محاولاتٌ انصرفت عنها بعد ذلك انصرافا تاما”.
- البداية التاريخية لمحمد حجي مع التاريخ وأعلامه ستبدأ متأخرة كما يقول عن نفسه؛ إذ لم يهتمّ بالدّراسات التاريخية إلاّ بعد أن تحوّل إليه من الدّراسات اللغوية، وكأنّ الرّجل كان يشعر في تلك الحقبة بأنّ المغرب كان في حاجة ماسّة-وما يزال-إلى حفريات تاريخية تهتمّ بالدّرجة الأولى بالتّاريخ الفكري وأعلامه، وأنّ النصوص التّاريخية بمختلف أنواعها من كتب التراجم والمناقب والأنساب، ومصنفات الرّحلة والفهارس لها دورها الكبير في الحفاظ على الهوية القومية المغربية.
- ولذلك كتب في مقدّمة «موسوعة أعلام المغرب» قائلاً: ” لعلّ ما يميز المغرب الأقصى وفرة الأعلام البشرية النابهة فيه لعراقته في الحضارة وقيام دولته الإسلامية في فترة مبكرة واستمرارها من دون انقطاع حتى الوقت الراهن علاوة على بسط نفوذه السياسي لعدّة قرون على أقطار الغرب الإسلامي إلى تخوم ليبيا شرقاً، والثغر الأعلى في الأندلس شمالاً، وما وراء الصحراء من بلاد السودان جنوباً، وعلى الرّغم من كثرة ما كتب عن هؤلاء الأعلام في مختلف العصور في كتب التراجم والمناقب والفهارس والحوليات وغيرها فإنها ظلّت مشتّتة يصعب التوصل إليها والتعرف على مظانها”.
- كان العالمان محمد الفاسي وعبد السلام ابن سودة من أبرز الشخصيات اللذين تأثر بهما المرحوم محمد حجي بهذا المجال التاريخي، وهو الذي صرّح بقوله في تواضع العالم:” وقد حبب إليّ البحث في ميدان الأعلام عالمان كانا من الوجوه الوضاءة في بلادنا-رحمهما الله-الأستاذ محمد الفاسي والأستاذ عبد السلام ابن سودة” ولذلك لن نجد غرابة إذا أخبرنا محمّد حجي بأنّ تسجيل رسالته في الدراسات العليا كانت بعنوان: “الزّاوية الدّلائية ودورها الدّيني والعلمي والسّياسي”، والحقيقة أنّ فكرة الرّسالة التاريخية الأم هو كتاب” البدور الضّاوية في التّعريف بالسّادات أهل الزّاوية الدّلائية” الذي كان علاّمتنا ينوي تحقيقه وإخراجه؛ إلاّ أنّ حداثة عهده حينها بالمخطوط جعلته يعدل عن فكرة التحقيق إيماناً منه بأنّ تحقيق المخطوطات هو مشوار النهايات لا حداثة البدايات.
- يقول علاّمتنا عن هذا الأمر في سياق حديثه عن علاقته بعالم المخطوطات الكبير المرحوم محمد إبراهيم الكتاني:” أبادر إلى القول بأنّ ذلك يرجع إلى صيف 1959م حين حصلت على الإجازة، وأخذت أبحث عن موضوع لرسالة دبلوم الدّراسات العليا، فلما فاتحته في الأمر أشار عليّ بديهةً بكتاب « البدور الضاوية في التّعريف بالسّادات أهل الزّاوية الدّلائية» لسليمان الحوّات، أعجبني الموضوع وقبلته على الفور، وأخبرت به أستاذي الدكتور حسن إبراهيم حسن-رحمه الله- وتمّ تسجيل موضوع الزّاوية الدّلائية بكلية الآداب، وكانت النية متوجهة في البداية إلى تحقيق البدور الضّاوية-باقتراح من الأستاذ الكتاني- إلاّ أنّي عدلت عن ذلك لأسباب، كنت إذ ذاك حديث عهد بالمخطوطات!
يتبع…
د. محمّد شابو