1. آمن العلاّمة محمد حجي من جملة ما آمن به في هذه الحياة أنّ العلم قدره الانتشار، وأنّه لا خير في علم يبقى حبيسا في رؤوس، أو مقفلا عليه في طروس، أو مضنونا به على أهله، يُصدّق إيمَانه في ذلك قولُ الجليل للنّبي الكليم (وكتبنا له في الالواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلا لكلّ شيء فخذها بقوّة وامر قومك ياخذوا بأحسنها) [ الأعراف:145]. وقوله عزّ من قائل: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه)، [ آل عمران: 187].
2. واستعاذة من شرّ الكتمان العلميّ والاحتكار المعرفي، فقد بذل علاّمتنا محمد حجي جهوداً كبيرة وأحيانا مضنية في سبيل نشر العلوم، وخدمة التّراث الفكري للأمة المغربية والتعريف وبه وبثه، في مرحلة وُسمت بمرحلة الاكتشاف والبناء والتّأسيس، مشفقاً على الأجيال المغربيّة القادمة التي كان يحزّ في نفسه ألاّ تطّلع على مجد تاريخها، وتراث أجدادها فكراً وعلوماً وأعلاماً، ولذلك كان يدفعه هذا الإشفاق على إشراك جيل من الباحثين الشّباب في مشروعاته الفكريّة بنفض الغبار المادّي والمعنوي عن الإرث المخطوط لعلماء الأمّة المغربية والدّفع بهم إلى تحقيقه وإخراجه من حيّز العدم إلى حيّز الوجود.
3. حَدَا هذا الإيمان والإشفاق بمحمد حجي إلى أن يفكّر في تأسيس مطبعة يتمّ له فيها تحقيق طموحاته الفكريّة بنشر الإنجازات العلميّة المرتبطة بالفكر المغربي وتاريخه، إخلاء لمسؤولياته وأداء لأمانة الاستخلاف العلميّ، وإقامة الحجّة على جحافل الأجيال المغربيّة القادمة، وهو ما تمّ له بالفعل حيث أسّس (دار المغرب للتأليف والتّرجمة والنّشر) سنة: 1978م، واللاّفت في هذا المشروع هو أنّ علاّمتنا اقترض من والده المال ليشتري به المطبعة، إلاّ أنّ هذا المشروع للأسف لم يدم طويلاً نظراً للإكراهات الماديّة التي لحقت به، فاضطر علاّمتنا لإغلاقها مواجهاً عواقب الدّيون والضّرائب النّاتجة عن المشروع.
4. هكذا هم الكبار دائماً كانوا يرون أنّ المعرفة حقّها التّضحية والفداء، وأنّ العلم من طبعه معاكسة الرّاحة، وأنّ مجده لا يدرك بميسور الجهود أو بمألوف العادات، ولم يكن علاّمتنا الوحيد في هذا الباب، فقد سعى الكثير من الأعلام مغاربة ومشارقة وبجهود فردية في تأسيس مطبعة تقوم بتعميم الفكر ونشر المعرفة، وممّا يُـذكر في هذا السّياق ما قام به العلاّمة الكبير المرحوم صلاح الدّين المنجّد من تأسيسه لمركز التأليف والنّشر ببيروت سمّاه (دار الكتاب الجديد) بقصد نشر مؤلّفاته ومؤلفات أصحابه بما يفيد الثّقافة والفكر واللغة، إلاّ أنه وللأسف انتهى بما انتهى إليه من تلك الحادثة المأساوية.
5. لكن؛ وبالرّغم من هذه الصّعوبات والإكراهات التي هي قدر كلّ مشروع فكريّ، فإنّ علاّمتنا محمد حجي لم تكن لتتوانى همته أو تنثني عزيمته، أو يضعف أمام الأمر الواقع، كيف ذلك وهو الذي قرأ لأبي الطّيب:
كلّ يوم لك احتمالٌ جديدٌ** ومسيرٌ للمجد فيه مُقام
وإذا كانت النّفوس كباراً** تعبت في مرادها الأجســـــــام
ولذلك سوف يسعى هذه المرّة مع نخبة من مجايليه ومقرّبيه من الأعلام الكبار كمحمّد إبراهيم الكتّاني ومحمّد عزيز الحبابي ومحمّد بنشريفة ومحمد بن تاويت وعبّاس الجراري وعبد الرّحمان القادري ومحمّد الأخضر وعبد الله العمراني وأحمد بنجلون وغيرهم إلى تأسيس (الجمعية المغربيّة للتأليف والتّرجمة والنّشر) سنة: 1980.
واللاّفت -أيضا-في سياق هذا التّأسيس أنّ علاّمتنا محمد حجي سوف يضحي مرّة أخرى بشيء مما يملكه في سبيل الفكر المغربي الذين آمن بضرورة نشره، فيهب للجمعية مقرّاً في ملكيته، ووضعه تحت تصرّفها مع أداء ما يلزم من لوازم تسييرها، وظلّ -كما تقول الدكتورة فاطمة الحبابي-“مُلتزماً بذلك طيلة ما يزيد على العقدين من الزّمان منذ تأسيس الجمعيّة إلى أن فارق الحياة، ولم يسمع أحدٌ منه تأفّفاً ولا شكوى، يقوم بذلك في صمت واقتناع”، ضارباً بذلك المثل والقدوة الحسنة، ومجسّداً مفهوماً نبيلاً من مفاهيم دعم البحث العلمي، وخروجاً من العتاب الإلهي: ( لم تقولون ما لا تفعلون). [الصّف: 2]
6. (الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر) مشروع نهضويّ مغربيّ كبير انضوى تحته أزيد من سبعين أستاذاً جامعيّاً من مختلف الجامعات المغربية، وللثّقة التي كان يحظى العلاّمة محمد حجّي بها فقد استطاع أن يجمع هذا الكمّ من النّخبة المغربيّة ويدير أعمالهم البحثيّة باحتراف عال وأخلاق سامية جعلت منها شخصا يحظى باحترام وتقدير الجميع حيّاً وميّتا، فقد كان- كما قال عنه الأستاذ سعيد العلوي- : ” العقل المدبّر والمحرّك الدّافع للجمعية المغربيّة للتأليف والنّشر، وهذا حكم لا نرسله على عواهنه وإنّما نحن نبيّنه على ما نرى ونسمع من عمل الجمعيّة ومن الإسهام العملي المتّصل لرئيسها” .
7. نصَّ القانون الأساسي للجمعية كما سُطّر: على تنشيط حركة التّأليف والتّرجمة والنّشر بالمغرب على مستوى علميّ لائق في العلوم الإنسانية والقانونية والاجتماعية وغيرها، والتعريف بالتراث المغربي عن طريق التحقيق والنشر، وكان شرط الانتساب للجمعية أن يكون العضو جامعيا سبق له أن نشر كتاباً على الأقل من تأليفه أو ترجمته أو تحقيقه.
8. لا يخفى أنّ تأسيس هذه الجمعية الفكرية المغربيّة أتى في سياق التأثير والتأثر الذي كان بين علماء المغرب ونظرائهم في أرض الكنانة، فقد كانت( لجنة التأليف والتّرجمة والنّشر) بالقاهرة والتي أشرف على تسييرها أحمد أمين نموذجاً احتذى بها علّامتنا محمّد حجيّ ورفاقه، وقد تأسست هذه اللّجنة بالقاهرة سنة 1914م، وتولّى رئاسة لجنتها أحمد أمين لمدّة ثلاثين سنة، يقول الدكتور محمود الطّناحي في « مدخل إلى نشر التّراث العربي»: ” وقد نهضت لجنة التأليف هاته بمهام جليلة في إبراز الفكر العربيّ ونقل الثّقافة الأوربيّة، فنشرت كثيراً من التآليف والترجمات في مختلف فروع المعرفة، من التّاريخ والأدب والنّقد والفلسفة والحضارة والعلوم الكونيّة، وأفسحت مطبعتها لنشر بعض أعمال المستشرقين، كما كان لها إسهام رائع في نشر التّراث العربيّ وإذاعته”.
9. هذا التأثير الفكريّ المشرقيّ المغربيّ صرّح به محمّد حجّي بقوله: ” إنّ اختيار جمعيتنا لعنوان التأليف والترّجمة والنّشر ليَدُلّ من جهة على تقديرٍ لجهود روّاد مصر الأفذاذ أعضاء لجنة التأليف والتّرجمة والنّشر الذين غذّوا العقول وطوّرا الأفكار لا في مصر وحدها، ولكن في العالم العربيّ كلّه ويؤكّدون من جهة أخرى رغبتنا الصّادقة في مواصلة السّير على نفس النّهج، والتّعاون الصّادق في إطار التّكامل الثّقافي والفنّي بين مصر والمغرب”.
10.حدّد علاّمتنا محمد حجي الأهداف الأساسية (للجمعيّة المغربيّة للتأليف والتّرجمة والنّشر) في ثلاث نقط، أوّلاً: نشر الكتب من المستوى الجامعي الذي لا يُقبل عليه النّاشرون التّجــــّـــــــار عادة، وهي من تأليف أعضاء الجمعية أساساً أو ترجمتهم وتحقيقهم. ثانيا: إصدار مجلّة بيبليوغرافية نقدية تُغطّي سنويا الإنتاج المغربـــــــــــــــــــــــــيّ في ميدان الكتب والمجلاّت والرّسائل والأطروحات. ثالثا: إصدار معلمة المغرب، كموسوعة ألف بائية تهتمّ بكلّ ما يتعلّق بالمغرب الأقصى.
11. فعلى المستوى الأول المرتبط بالنّشر فقد تنوّعت الإصدارات للجمعية لتشمل ما له ارتباطٌ بالفكر المغربي وتاريخه، ومن جملة ما تمّ طبعه كتاب: «تاريخ سبتة» لمحمّد بن تاويت، و«كتاب المغرب» للصّديق ابن العربيّ، و « القرّاء والقراءات بالمغرب» لسعيد أعراب، ومن «التّحقيقات: نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني» لمحمد بن الطّيب القادري، و«المحاضرات» للإمام الحسن اليوسي، و«وصف إفريقيا» للحسن الوزّان، وغيرها الكثير.
12. اهتمام محمّد حجّي وشغفه بالكتاب المغربيّ دفعه لرصد ما ينتج من مؤلّفات ومنشورات مغربية خشي عليها من أن تضيع عناوينها مع مرور الزّمن، فسعى إلى إصدار مجلّة سمّاها “الكتاب المغربيّ”، والهدف من ذلك كما يقول: ” رصد المنشورات المغربيّة وضبطها لتعرف وتحفظ ويستفيد منها المهتمون في الدّاخل والخارج، وتكون أداة بيبليوغرافية متجدّدة بين أيدي الباحثين الجامعيين وغيرهم، وتحطّم جدار الإقليمية الضّيق التي ينغلق فيها الكتاب المغربي وينطوي على نفسه ،عن طريق التّعريف به في الخارج وتسهيل سبل اقتنائه والدفّع به قدماً ليدخل في مدار الثّقافة الجهوي والدّولي، فيحتكّ ويصقل عنه الصدّأ ويتأثر ويؤثر”.
يتبع…
د. محمد شابو