- 1. ونحن في سياق حديثنا عن العلاّمة أحمد بن محمّد الصّبيحي سلفت الإشارة في الحديث السابق إلى أنّ موضوعنا عنه لهذا الأسبوع سنخصّصه للحديث عن كتابه: «معجم إرجاع الدّارج في المغرب إلى حظيرة أصله العربي»، ويبدو واضحاً من خلال عنوانه أنّ الكتاب سيبحث في موضوع له ارتباط بالهويّة المغربية والثقافة اللغوية لبلدنا الضارب في عمق الحضارة والتاريخ.
- وأصل هذا المعجم كما يقول العلاّمة المرحوم محمّد حجّي في سياق تقديمه له: “محاضرة ألقاها- الصبيحي- بفاس، ثمّ وسّعها بالرّجوع إلى عدد غير قليل من المعاجم العربيّة والأعجمية، وكتب الأدب والدّواوين الشعرية، ومؤلفات الحكم والأمثال، والموسوعات والصحف والدوريات، وشدّ الرّحلة إلى مصر للاطلاع على عشرين كتاباً في دارج مصر والشام انتقى منها ما يحتاج إليه من مادّة على قلّتها، وعزّز ذلك بما التقطه من أفواه الرجال والنساء بادية وحاضرة، لتحقيق النطق وضبطه، وتحديد المدلول وتدقيقه، قبل سبكه في بوتقة اللغة وبلورته”.
- اهتمام العلاّمة الصبيحي بهذا النوع من التأليف يحمل بعداً وطنياً في دلالاته وإشارته، فتأليفه أتى في سياق الرد غير المباشر على دعاوي المستشرقين الذين حاولوا في كثير من الأحيان التعسف في رد كثير من مفردات اللغة الدارجة وتراكيبها ومعانيها إلى أصول أعجمية، يقول علاّمتنا في مطلع الكتاب:” كثير من الدارج بالمغرب يظنّه بعض الناس وأحياناً بعض علمائنا ليس بعربي، والحال أنّ أصله في كتب اللغة العربية المعتبرة، وليس هذا ببدع ولا غريب عند من علم أنّ العامة الناطقين بهذا الدّارج إنّما هم سلالة أو ورثة أولئك الأعراب الأقحاح الداخلين للمغرب أفواجاً عظيمة مرّة بعد أخرى بلغة اتسعت مادّتها”.
- لم يكن جمع مادة الكتاب بالنسبة لعلاّمتنا بالأمر السهل، وبالأخص في غياب المصادر والمراجع التي يمكن لها أن تثري بحثه وتدعمه، ولذلك لم يكن له بدّ من شدّ الرحلة إلى أرض الكنانة سنة: (1934م) والاستفادة من المصادر والمراجع التي ألفت في الموضوع وسبق وأن اطلع عليها في رحلته الأولى سنة: (1926م)، يقول: ” اطلعت في فهرس دار الكتب المصرية لسنة:( 1926م)، على وجود ما ينيف على العشرة من الكتب المؤلفة في دارج مصر والشام، فشددت الرّحلة إلى مصر في ربيع الثاني:( 1353هـ) وهناك اطلعت بدار الكتب المصرية على 17 كتابا، وبالخزانة الزكية على 3 كتب كلها في ذلك، ولكنها لم تفدني في موضوعي الخاصّ إلا ببعض كلمات”.
- والمقصود بالخزانة الزكية هي خزانة أحمد زكي باشا الشهيرة، وعدّت من أكبر الخزانات الخاصة، وعنها يقول المرحوم محمّد كرد علي في مقالته الباذخة عنها: ” تستحق أن تكون مرآة يرى فيها الطالب معارف الشرق وعلومه”.
للاستفادة من هذه المكتبة العامرة كان لابد من مراسلة صاحبها، وإعلامه بالرغبة في ذلك وهو ما قام به علاّمتنا الصبيحي، حيث تلقى الرّد المكتوب من شيخ العروبة، ومما ورد في نصّ جوابه: [أحمد زكي باشا: دار العروبة
الجيزة 9 صفر 1352-22ماي 1934م]، سيدي العلاّمة المفضال، والبحاثة الدراك الشيخ أحمد الصبيحي: ناظر الأحباس بمكناس حرس الله مهجته، نعم أشرقت على دار العروبة أنوار كتاب كريم صادر من مكناس الزيتون بالمغرب الأقصى وفيه ما فيه من براعة وبلاغة إلى جانب ما انطوى عليه من دلائل الاطلاع الواسع وآيات العلم المتين…
- قرأت المحاضرة التي ازدانت بها « مجلة المغرب» فرأيتك يا سيدي قد جعلتها نبراسا للمعجم الذي جمعت أنت موادّه والذي أخذت نفسك بالرحلة إلى ديار الشرق لتهذيبه واستكماله تجديدا للسنة التي جرى عليها أجدادك الأمجاد أيام ازدهار العلم في ربوع” الفردوس الإسلامي المفقود” وأيام كانت دولة المغرب الأقصى في عزها الشامخ وسلطانها الفعلي الوطيد الأركان، فلعلّ التوفيق يسعفك أنت وأمثالك من الأمير زيدان إلى الحبر الكتاني إلى إخوانك القائمين برفع الراية في المغرب الأقصى في فاس ومكناس وفي مراكش ورباط الفتح إلى ما حول ذلك من العرائش وطنجة وتطوان.
- اللاّفت في هذا السياق هو أن علاّمتنا الصبيحي ورغم هذه المراسلات التي كانت بينه وبين شيخ العروبة أحمد زكي باشا، وعزمه على السفر إلى مصر بقصد اللقاء به والاستفادة منه؛ إلاّ أنّ هذا اللقاء لم يقدّر لهما، فقد توفي أحمد زكي باشا قبل أن يرحل الصبيحي إلى مصر بمدّة أسبوع، وذلك ليلة الجمعة 23 ربيع الأول سنة 1352هـ.
ومع ذلك؛ لم يكن رحيل أحمد زكي باشا ليثبط من عزم العلاّمة أحمد الصبيحي، ويثنيه عن متابعة رحلته إلى مصر، والاستفادة من خزانته الزكية وخزانة دار الكتب المصرية، فكان من جملة ما اطلع عليه في موضوع اللغة العامية والدّارج، كتاب: «أصول الكلمات العامية»، لحسن توفيق العدل و« الدرر السنية في الألفاظ العامية وما يقابلها من العربية» لحسين فتوح ومحمد علي عبد الرحمان. « تهذيب الألفاظ العامية» للشيخ محمّد الدسوقي. « الرد على قاموس العوام» لحليم دموس سليم الجندي. « بحر العوَّام فيما أصاب فيه العوام». لمحمد بن إبراهيم بن الحنبلي الحلبي. « لف القماط على تصحيح بعض ما استعملته العامة من المعرب والدخيل والأغلاط» لأبي الطيب القنوجي. «رسالة الألفاظ العامية ومرادفها»، للمسيو جورج كولان، وغيرها.
- من نماذج ما أورده علامتنا الصبيحي في معجمه من حرف الألف: كلمة: «آشْنُوا»، أصلها: أيّ شيء هو؟ فنحتت وركبت وارتكب فيها كلّ أنواع التخفيف حتى صارت الكلمات الثلاث كلمة واحدة. ومن حرف الباء كلمة: «بلعلاّلي» في سياق عمل الشيء أو التصريح بقول من دون مبالاة بالأعراف أو التقاليد ولا احتشام، أي: بالعلني الذي هو ضد السر. ومن حرف التاء كلمة: «تـملَغ»، في القاموس: تمالغ به ضحك به، مالغه بالكلام مازحه بالرفث، والتملّغ: التّحمق، وفيه الملغ: النذل الأحمق يتكلّم بالفحش.
- ومن حرف الحاء: كلمة: «حنْقز» أصلها: نقز، بمعنى: قفز وثب. والعامة تزيد بعض الأحرف للمبالغة. ومن حرف الدال، كلمة: «دَّبـْـــــزا»، أصلها: الدّبسة، من دبّسه أي ضربه بالدّبوس، أي بشبهه وهي كفّ اليد مضمومة الأصابع. ومن ذلك كلمة: «دخيل عليك»: وذلك في قولهم: ادخيل عليك بسيدي فلان، هو من مادة الدخول، أي: دخلت عليك وقدّمت لك شفيعاً ونحوه، ومنه قولهم أيضاً: العار والدّخيلة، وفي توسل سيدي قدور العلمي المكناسي [ت. 1266هـ-1849م] من أزجاله المشهورة:
ادخيل لك ياسيدي بالأنبيا والارسال**ادخيل لك ياسيدي بْجاه كلّ والي
ادخيل لك بالسادات الصالحين الافضال** كافّا لجراس ولقطاب ولبدالي
14.ومن حرف الكاف، كلمة: «كْمشا»، في نحو قولهم: كمشا داليد، بمعنى قبضتها، في القاموس: وتكمّش الجلد تقبّض واجتمع فيه. ومنه: «كَيْطَلل»: في نحو قولهم: ها هو كيطلل عليه، أي ينظر من طاق أو سطح ونحوهما مختفياً، والإطلال: الإشراف على الشيء، ويقال: رأيت نساء يتطاللن من السطوح، أي: يتشوفن. ومن حرف اللام، كلمة: «الباسل»: بمعنى الرجل المكروه، وفي القاموس: المبسل والبسيل الرجل الكريه المنظر، وفيه: وبسّله تبسيلا: كرهه. ومنه كلمة:« لـْخَربَــــــقا» ، في نحو قولهم: ما هذه لخربقا، أو الخرابق أو التخربيق، بمعنى العمل الفاسد، عربي فصيح، في القاموس وغيره: خربق العمل: أفسده.
ومنه كلمة: « لكَحْط»، قال في القاموس: لغة في القحط فصيحة، ومنه كلمة:« لــمَخْزن» بمعنى الدولة في اصطلاح المغاربة، من مادة الخزْن، وهو خصوصاً في الحبوب من مهمّات نظر الدّولة كما لا يخفى، وفي التنزيل: ( اجعلني على خزائن الارض إنّي حفيظ عليم).
- ومنه كلمة «لمسيد» لمكتب الصبيان، أصل الكلمة: المسجد، لأنّه كثيراً ما يكون فيه أو بجانبه أو هو هو، وخصوصاً في البوادي، استثقلت العامّة الجمع بين السين والجيم فأبدلت الجيم ياء، ثم نقلت كسرتها إلى الساكن قبلها بعد سلب سكونه، وقال ابن خاتمة في «إرشاد اللال من إنشاد الضوال وإرشاد السؤال»، ما نصهّ: مسجد، ويقال له: مسيد أيضاً، حكاه غير واحد، والأول أفصح، انتهى.
يتبع…
د. محمّد شابو