هلَّ هلال شهر ربيع الأول، فأشرقت لمقدمه الأنوار، احتفاءً بمولد سيد الأبرار، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وقد اعتادت الزوايا التطوانية، أن تخلد هذه الذكرى العطرة، انطلاقاً من أول يوم هذا في الشهر إلى منتهاه.
والبرنامج المسطَّر لليالي المولد النبوي الشريف، غالباً ما يتوحَّد في قراءة النصاب الأول أو النصاب الأخير من الهمزية، وترديد قصائد معينة، من الأمداح النبوية، والإنصات للموْلدية، والدعاء بالخير والصلاح، لأمير المؤمنين، ولكافة المسلمين، وتناوُل وجبة العشاء، التي لا تخرُجُ عن الكُسكُس باللَّحم أو بالدَّجاج.
هي لحظاتٌ، قد تمتدُّ لأربع ساعات بالنسبة لبعض الزوايا، وقد تتقلَّص إلى ساعتين اثنتين بالنسبة للبعض الآخر.
واحتفالاً بمقدم هذا الشهر المبارك، أعددتُ عُدَّتي لحضور الليلة التي تحييها الزاوية الكتانية في السادس من ربيع الأول من كل عام: سلمتُ جلبابي الأبيض للمصبنة، وسلمتُ رأسي للحلاق، وسلمتُ ملابسي لربة البيت لتصلح من شأنها، وأخرجتُ بلغتي الصفراء الفاقع لونها، واطمأننت على لبدتي الحمراء، وسبحتي الخضراء.
وفي الليلة الموعودة، سأتطهر وأتطيب، وأيمّم وجهي شطر الزاوية المذكورة.
إنني حفظت تاريخ هذه الليلة عن ظهر قلب، حفظته منذ رافقتُ أبي لأول مرة، إلى زنقة المقدم، وإلى درب صغير بهذه الزنقة، مقابل لمسجد لوقش.
منذ ذلك الحين، ترسخت في ذاكرتي بعضُ الوجوه التي تتصدر المجلس عن يمين ويسار المحراب، وبعض الوجوه التي ترفع الصوت بالإنشاد، وبعض الوجوه التي ترتل القرآن، فتحسن الترتيل. وأبرز اسم انطبع في ذهني آنذاك، اسم الفقيه الذاكر، سيدي محمد بن الهاشمي – طيب الله ثراه – وهو يقرأ “المولدية” بصوته الرخيم، فيتردد صداه في رحاب الزاوية، ويترك في الآذان أثراً حسناً، تخشع له الأفئدة، وتتندَّى العيون.
ومنذ تسلمتُ دفتر “المولدية” من خليفته المرحوم برحمة الله الأستاذ عبد الواحد أخريف، وأنا أحاول أن أسير سيرة فقيهنا ابن الهاشمي، فلا أتوفق إلا بمقدار، ولا يساعدني صوتي إلا بمقدار.
إن برنامج الحفل لم يشهد أي تغيير، إنه يُفتتح بسورة المُلك أو بسورة يس، ويُمهَّد لنصاب الهمزية بالصلاة المشيشية، وتُفتح كتُب الأمداح على نفس الصفحات ونفس القصائد، ويُفسح المجال لقارئ المولدية، ليُعدد الأسرار التي رافقت مولد الرسول.
ربما تكون “المنفرجة” و”الدعاء الناصري” هما الفقرتان اللتان أضيفتا إلى البرنامج في هذه السنوات الأخيرة، تبرُّكاً بهما.
من الليالي التي أحرص على حضورها، ليلة الزاوية التيجانية التي تقام في سابع يوم المولد، وليلة زاوية البدويين، وليلة زاوية سيدي السعيدي، وليلة الزاوية الريسونية التي تُعتبر مسك الختام، لأنها تُحيَى في التاسع والعشرين من ربيع الأول.
إنها لحظات قرب، يتقرَّب فيها المؤمن من ربه، رجاء مغفرته ورضوانه، ويستحضر – فيها وبها – ذكريات نبيّه المختار، ليأخذ منها العبر والمواعظ، “فإن الذكرى تنفع المؤمنين”.
مصطفـــــى حجاج