أعاد استشهاد الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، رحمها الله، مراسلة شبكة الجزيرة في فلسطين أثناء قيامها بواجبها المهني، النقاش حول ما يتعرض له الصحفيون و الإعلاميون في كثير من بؤر التوتر و شتى دول العالم من تضييق و قمع و كذا تصفية جراء تنفيذ المهام المهام الملقاة على عاتقهم في نقل الخبر و إيصال المعلومة و الكشف عن الحقيقة و إماطة اللثام عن الكثير من الأحداث ومجرياتها و ألغازها…
الأرقام التي انتشرت، بمناسبة فاجعة الاستشهاد الأليمة للفقيدة شيرين أبو عاقلة، عن عدد الصحفيين الذين فقدوا حريتهم و حياتهم و تعرضوا لآفات في أجسادهم في فلسطين مخيفة؛ ولم يكن اغتيال شيرين أبو عاقلة؛ كما أكدت شبكة الجزيرة الإعلامية إلا النقطة الأشد سوادا وألما و غدرا في مسلسل و نهج ترهيب الكلمة الحرة و المستقلة من أجل إخفاء الحقيقة و إطلاق يد البطش دون رقيب أو حسيب…
لا يغيب عن أي عاقل أن الصحافة ثم الإعلام بشتى أنواعه هما وليدا المخاض الذي طبع العصر الحديث و المعاصر انتصارا على الإقطاع و التوحش و سعيا إلى إقرار الحريات والمزيد من الحقوق للإنسان في تعدده و اختلاف وضعياته وانتماءاته و أفكاره وهمومه…، واليوم يخضع هذا الإبداع و المكسب الحضاري الإنساني لامتحان حقيقي؛ ففي الوقت الذي يميل معظم المالكين للثروة ومفاتيح الاقتصاد والسلطة في العالم إلى الاستثمار أكثر في وسائل الإعلام للتحكم فيها و توجيه الرأي العام لصالحهم، ينحو في المقابل المتضررون من اجتياح العولمة و سياسات البلدان و مخلفات الاستعمار و المكتوون بكل ظلم؛ قديمه و جديده…إلى خلق جبهات إعلامية مضادة تطبعها المقاومة بأبسط الوسائل وأسهل السبل؛ و لا ينحصر تجاذب مجال الإعلام في الجبهتين السابقتين فقط بل يمتد إلى الصراع بين القوى الكبرى كما يتجسد الآن في النزاع الروسي الأوكراني و كما تجسد في نزاعات أخرى كثيرة ثنائية أو متعددة…، سابقة أو حالية…
إن الديموقراطية في كليتها التي تعتبر أرقى ما وصل إليه الإنسان في التعايش تقوم على مبادئ و أسس، و من بين هذه الأسس الهامة حرية الرأي والتعبير و الصحافة و الإعلام، إذ لا يمكن أن يعيش أي بلد ديموقراطي أو يطمح إلى أن يكون ديموقراطيا- بل لا يمكن أي يستحق تسميته بديموقراطي- دون إتاحة الفرص المتساوية لقوى المجتمع المتنوعة للتعبير عن نفسها و اختلافاتها و انتقاداتها… تجاه الأخرى، بل إن نظام الحكم نفسه يخضع بالضرورة لمراجعات و نقد و معارضة… وذلك في إطار احترام تام للمواثيق و التشريعات و الاتفاقيات و القوانين و الأخلاقيات ذات الصلة…
هذا وقد تناسلت في العقود الأخيرة الأسئلة عن مدى استقلالية الصحافة والإعلام حتى في البلدان الديموقراطية، كما تعالت الاحتجاجات على ضرب حرية الصحافة و الإعلام و التضييق على العاملين و الناشطين في هذا المضمار في كثير من البلدان و مناطق من العالم، و خاصة تلك التي تعرف توترات، إلى حد أن مهنة الصحافة والإعلام لم تعد فقط مقرونة بالمتاعب و إنما مهنة تتطلب التحلي بالجرأة و المغامرة و الشجاعة…لاقتحامها و الصبر على أهوالها…
وحينما يحاصر شبح القتل أو التصفية، و الاعتقال و التعنيف و القمع و كل أشكال الإهانة الصحفيين و الإعلاميين، فيعني ذلك أن خطرا حقيقيا يهدد بناء العالم الحر بالسقوط في غياهب الظلام فكريا وسياسيا و ثقافيا…، و بالتالي التراجع عن المكتسبات الإنسانية التي ضحى من أجلها بشر استثنائيون من مختلف الشعوب، لذلك حان الوقت لكي تدق منظمات الصحافيين والإعلاميين والمنظمات ذات الصلة و كل منظمات و مؤسسات حقوق الإنسان ناقوس الخطر، ولتقول كفى من هذا الاستهداف للصحافيين والإعلاميين و لحرية التعبير والرأي و الصحافة والإعلام…
لا شك أن انحرافات أو أخطاء قد تحدث، هنا وهناك، في مجال الإعلام والصحافة كما في كل المجالات، و قد تزيغ أو تزل القدم ببعض الصحافيين والإعلاميين ومنابر الإعلام، إلا أن التقويم أو التأديب لا يعني مصادرة الحريات و الحق في الحياة و هو أسمى حق، وإنما يجب ممارسته بوسائل قانونية ملائمة وما أكثرها، من خلال الاحتكام إلى مؤسسات للحكامة الوطنية و الدولية، مستقلة نزيهة ذات مصداقية، إذ كلفة مصادرة حرية الرأي والتعبير و الصحافة والإعلام أكبر بكثير من كلفة إقرارها و حمايتها…
وإذا كان الجدل سيبقى قائما في موضوع شائك كموضوع حرية الصحافة و الإعلام واستقلاليتهما فإن الأمر الذي بيد الصحافيين والإعلاميين هو الالتزام بأخلاق المهنة واحترام المواثيق إلى حد كبير اقتداء بسيرة شهيدة الصحافة والإعلام العربي والعالمي-و أمثالها في كل بقاع العالم- شيرين أبو عاقلة التي شرفت مهنتها وبلدها و شعبها في حياتها و مماتها في حضورها و غيابها، و بعثت شعاعا من نور اخترقت جدار الظلم و الظلام…، والذي ،لا شك، قد وصلت خيوطه إلى كل الضمائر الحية في العالم رغم كل محاولات التغييب و التعتيم و التحريف والتضليل و فرض الصمت…
عبدالحي مفتاح