صدر حديثا للدكتور محمد أملال – عن معهد الشارقة للتراث بالإمارات العربية المتحدة– كتاب: “الأدب الشعبي في شمال المغرب: دراسة للأمثال السائرة في شفشاون وربوعها” .
وفيما يأتي مقدمة الكتاب:
يُعد البحث في التراث الشعبي وفي الآداب الشعبية خاصة التفاتا مُنصفا، تقتضيه أهمية هذا التراث. فهو مستودع مقومات الشعوب ومكمن تفكيرها ومعتقداتها، وهو أيضا تعبيرٌ عميق وشفاف عن أصولها الحضارية والتاريخية وعن مخزونها الروحي والفني. ولعل هذا التراث لا يقل أهمية عن ما حبَّره العلماء، وعن ما حَوَته بطون الخزائن والمكتبات، في توضيح معالم كيان الأمة وملامح وحدتها وإبراز مقوماتها وقيمها، إن لم يكن أكثر منها عكسا لروحها القومية وذاتيتها الجماعية، وهو الجانب المُمثَّل في الآداب والفنون التي صدرت عن الشعب فردا وجماعة، متخذة وسيلتها في التعبير ألوانا من القول والكلام والنغم والإيقاع والحركة والإشارة…[1]
وانطلاقا من هذه الأهمية، فإن تناولنا لموضوع الأدب الشعبي في شمال المغرب وتحديدا في مدينة شفشاون وربوعها، يأتي استجابة لضرورة ملحة اقتضاها وعيُنا الأكيد بقيمة هذا الأدب؛ فهو عنصر مركزي ضمن المنظومة الفكرية والإبداعية التي تتشكل منها الهوية الحضارية لهذه المنطقة، وهو– بكل أشكاله وتجلياته– جزء من الذاكرة الحية التي تؤرخ للفئات المنسية، وتُعبر عن إبداعيتها التي صمدت في وجه الأزمنة وقاومت الاندراس. كما يأتي بحثنا لهذا الموضوع، تحقيقا لِوقفةٍ موضوعية ومنهجية توخت الإسهام في إنصاف هذا الأدب، الذي ظل لفترات طويلة محط ازدراء وتحقير، على أساس أنه نتاج بدائي للفلاحين وللطبقات المهمشة، رغم أنه– حقيقة– لا يقل قيمة وفنية عن الأدب الرسمي، وأنه كثيرا ما شكل رافدا له.
ونطمح في وقفتنا هذه، إلى إضافة حلقة من حلقات التعريف بالأدب الشعبي، استمراريةً للجهود التي اضطلع بها روادنا الذين قدروا هذا الأدب وخصوه بعنايتهم، وفي ذلك كله مساهمة في الربط بين الأدبين الرسمي والشعبي، وتجاوز للهوة الفاصلة بينهما. فضلا عن أن الخوض في هذه المغامرة العلمية هو بالنسبة لنا، استجابة لرغبة ذاتية صميمة، ارتبطت بما نرى في الأدب الشعبي من إغراء وجاذبية، جعلتنا نميل إليه ميلا غير قليل؛ فقد تملكنا الإعجاب الشديد بتراث شمال المغرب وبخصوبته وخصوصياته، لارتباطنا العميق بمنطقة جبالة وبثقافة الأهل والأجداد، التي كانت بالنسبة إلينا دائما محطَّ إثارة وتجاوب، مما أفضى إلى إدراكنا لأهمية هذا التراث وروعته وجماله، وإلى تحفيزنا إلى أن نتوغل فيه بشكل منهجي وعلمي دقيق عبر إعداد هذا البحث.
وفضلا عن هذه الدوافع، فإننا في حاجة– اليوم– إلى تثمين دور هذا التراث في ربط حاضر الأمة بتاريخها، وفي التعبير عن هويتنا وأصالتنا، خصوصا وأنه مكتنز بالحمولات الفكرية والقيمية والفنية التي تبرز معالم الكيان الحضاري للمجتمع؛ فالأدب الشعبي صورة للشخصية المحلية والوطنية والقومية، وهي بدون شك أوضح من الصورة التي يعكسها الأدب الرسمي المدرسي. كما أن البحث المتأني في الأدب الشعبي وأشكاله المتنوعة، لمن شأنه أن يمكننا من بناء مفهوم واضح ودقيق لهذا الأدب وللتراث الشعبي عموما، يبتعد عن ما التصق به من مدلولات القدح، ويُزكي الصحوة الواعية التي جعلته – في السنين الأخيرة – جديرا بالاحترام والتقدير والمدارسة.
وعندما نقصر دراستنا لهذا الأدب على منطقة محددة هي شفشاون وربوعها، فَلِرغبتنا في اكتشاف ما عبرت عنه الطبقات الشعبية في هذه المنطقة عبر العصور، عبر أشكالٍ طريفة أمسكت عنها المصادر وسكتت عنها النخبة المثقفة نتيجة هيمنة “الرسمي” وسيادته. وهو ما سيتيح لنا إمكانية الكشف عن علاقة هذه الفنون والأشكال بمناخها التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي أفرزها، وسيسمح لنا– في الوقت نفسه- ِبناء تصور واضح عن خلجات ساكنة هذه المنطقة واهتماماتهم الروحية. إضافة إلى أنَّ من شأن دراسة الأدب الشعبي في هذه المنطقة أن يُبرز معالم البيئة المحلية وأصباغها وتأثيراتها، وهو ما يُسعف في ملامسة خصوصيات هذا الأدب المرتبطة بأبعاده المحلية والإقليمية والجهوية.
من هذا المنطلق، كان اختيار المهمة التي اضطلعنا بها خلال بحثنا، ألا وهي التعريف ببعض الأجناس والأنواع الأدبية الشعبية وتقريب مفاهيمها، انطلاقا من مجموعة من النصوص الرائجة في منطقة شفشاون وربوعها، مع التركيز على الأمثال الشعبية موضوع بحثنا الأساس، وذلك بالعمل على تصنيفها وتحليلها. فالعيطة الجبلية باعتبارها من فنون الشعر والغناء الشعبيين، والحكاية بمختلف أنواعها شعبية وخرافية وعجيبة ومرحة، والعروبيات، والأحاجي، والمثل الشعبي…إلخ، كلها أنواع أدبية شعبية تُميز المنطقة، ويظهر بعضها في الأدب الشعبي المغربي وحتى العالمي، ولكنها ولا شك أشكال تختلف عن بعضها اختلافا جوهريا، وإن كانت مرتبطة بوجدان شعب هذه المنطقة وصادرة عن الوعي واللاشعور الجمعي لأهاليها، وهو الأمر الذي يُكسبها صفة الشعبية. علما بأن مردَّ اختلاف هذه الأنواع هو كونها نابعة من مجالات اهتمام مختلفة، يحدد كل واحد منها شكل النوع ووسيلة التعبير فيه.[2]
وفي هذا السياق، آلينا على أنفسنا جمع الكثير من النصوص، وهو عمل ميداني لا يخفى ما يتطلبه من جهود شاقة، كما لايخفى أيضا ما قد يفرزه من نتائج علمية مطلوبة، ليكون هدف بحثنا هو الكشف عن غنى المنطقة تراثيا وفلكلوريا، وتأكيد احتضانها لمختلف الأجناس والأنواع الأدبية الشعبية، إضافة إلى الكشف عن الفرادة التي يتمتع بها المثل الشعبي السائر في المنطقة موضوعيا وجماليا، وعن أدواره ووظائفه في الحياة الروحية الشعبية. لذلك حرصنا على أن نُوفر نصوصا شفهية شعبية حمَّالة لقضايا كثيرة، وعاكسة للحياة الجماعية بكل مكوناتها، ومُجليَّة لمحطات عديدة من تاريخ المنطقة ولِقيم سكانها وخصوصياتهم. لكون هذه النصوص هي بالتأكيد جزء من ثقافتهم الشعبية، التي لابد من الانتباه إليها والاعتناء بها قبل فوات الأوان.
فَكَمْ من ذخائر شعبية رحلت مع حُفَّاظها، وكَمْ من مرَّةٍ سألنا عمنْ هُم أهلٌ للرواية والحكي، فنُخبَر بأنهم انتقلوا إلى رحمة ربهم، فاندفن معهم إرثٌ عظيم من تلكم التُّحف والدُّرر الحِسان، وأنَّ الباقين منهم أضرَّ الخَرَف بذاكراتهم وما ينبعث منها من أصوات الماضي. فبالتأكيد فقدنا ذاكراتٍ طافحَةً بالسرود الرائعة، والأمثال الحكيمة، وبالخبرات والتجارب والأسرار، وبالأخص الشيوخ حملة هذا التراث الثري ورعاته المحافظون عليه. وهو ما يجعل تراثا شعبيا هائلا مهددا بالضياع والاندثار، لاسيما وأنَّ الجهود المبذولة في هذا المجال تبقى دون المطلوب والمنشود، ولم تتجاوز محاولات معزولة لبعض المهتمين، في حين أن هذا المجال يتطلب فِرَقا للعمل الميداني، الذي يقتضي تخصيص الكثير من الوقت وإعداد كل الجهد والمال والخبرة العلمية، حتى يتم وفق خطة بحث مدروسة، وحسب منهج علمي دقيق يضمن سلامة النتائج. ومن هنا تكتسي الأبحاث والأطاريح الأكاديمية المشتغلة على الأدب الشعبي وأجناسه أهميتها الخاصة.
ولأن كل مغامرة بحثية لا تسلم من متاعب، فقد صادفْنا مجموعة من الصعوبات، بعضها مرتبط بمصادر الدراسة، وأغلبها يتصل بعمليتي الجمع والتصنيف. ففيما يتعلق بالمصادر التي تتصل مباشرة بموضوع البحث، فهي جد قليلة وأغلبها باللغة الإسبانية، ولا يتعدى ما هو منها بالعربية بضعة مجاميع ومقالات أسهمَ من خلالها ثلة من الرواد في لفت الانتباه إلى المثل الشعبي وأهميته وأدواره، ونخص بالذكر إسهامات كلّ من محمد بن عزوز حكيم ومحمد داود وعبد القادر زمامة… والواقع أن مجال الدراسات العلمية للمُتون الشعبية مازال حقلا بكرا في المغرب وفي معظم أقطار العالم العربي، وباستثناء بعض المحاولات المطبوعة بالقِلَّة والنزر، فإننا لا نقف- لحد الآن- على انكباب علمي موسع ودقيق، يروم جمع ودراسة مختلف أشكال الأدب الشعبي بالمغرب عامة وبمدينة شفشاون وربوعها خاصة. وهو ما حفزنا على الاهتمام بالجمع الميداني المباشر، وإلى أن نُوسع انفتاحنا على مختلف المصادر والمراجع والدراسات التي تناولت موضوعات الأدب الشعبي، عسانا نُفيدُ منها بعض ما قد يُساعدنا فيما نحن بصدده من دراسة لموضوع جديد.
على أننا ألفينا خلال هذه المهمة عدة صعوبات مرتبطة بعملية الجمع، يَتَّصلُ أبرزها بــــ”الشفهية” التي تُعد من المشاكل الرئيسة في الفنون القولية الشعبية؛ فالنص الشفهي مُتحوِّلٌ وغير ثابت جغرافيا، وقابل للتغيير والتحريف وأيضا للابتداع. كما أن استدعاءه رهين بقوة الذاكرة التي تختلف من راوٍ إلى آخر، وَرَهين أيضا بثقافة الرواة ومدى أصالتهم، وهو ما يُنتج اختلافا بين بعض الروايات وتعددا في صيغ بعض النصوص، مما أدّى بنا إلى أن نُقدم- في بعض الأحيان- أكثر من صيغة للمثل الواحد، حتى نَضع بذلك أمام القارئ بعض جوانب التغيير اللغوي الذي يرتبط في الغالب باختلاف المناطق ولهجاتها. مع أننا كُنّا– في عملية الجمع– نجنح دوما إلى المسنات والمسنين من ذوي التجارب الطويلة والخبرات العديدة، لأنهم أعرف من غيرهم بالأمثال الشعبية وأدرى بمقاصدها ومراميها، ولأنهم– كما ألمحَ إلى ذلك بعض روادنا- يتمتعون بسلامة الفطرة وصفاء الجِبِلَّة ونصاعة الطبع، فهم يروُون الأمثال على ما هي عليه في متونها الأصلية، دون تشدق أو اختلاق أو تحريف.[3]
د. محمد أملال
[1] الدكتور عباس الجراري، القصيدة: الزجل في المغرب، مطبعة الأمنية، الرباط، 1970، ص. 2.
[2] د. نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ص. 4.
[3] الحسين بن علي بن عبد الله، قصص وأمثال من المغرب، الجزء الأول من ” أ – خ ” دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 2014، المقدمة، ص. رمز : ي.