… عمل الغرْب أنْ نكون نحن العرب نسخة مُشوَّهةً منه ، و منذ أمد بعيد . فقد أخذنا عنه الخمر و البغاء و المُتاجرة في العبيد ، الذين كانوا يخطفونهم من ذويهم ، من بعض الدول الإفريقية جنوب الصحراء ، و بيعهم في أسواق النخاسة ، ليمتلكهم النبلاء ذات الألقاب “الدُّوق” و “الكونت” و “و اللورْد” ، من الأنظمة الإقطاعية ، الأورو-أمريكية (الشمالية) . فوجئتُ بكتاب يهزُّ المشاعر ، من تأليف الأكاديمي الإسباني “جوزيف لويس ماطييو ديييستي” ، بعنوان : التذكير بالخادمات السود اللائي كانت في ملكية بعض العائلات التطوانية اللواتي كنَّ يشترينهم من سوق الغرسة الكبيرة بتطوان ، حيث كانت تسود تجارة الرق بالمزاد العلني في ذلك العصر . فتغشاني ألمٌ و عجب لانتقال هذه الظاهرة إلى مراكش و فاس و تطوان عن طريق الغرب إلى البلاد الإسلامية ( و إنْ كانت بعض الدول الإسلامية تمتهن هذه الظاهرة ) ، التي لا تجيز الرق ، إذ تعتبر “العبيد” وفقا للشريعة الإسلامية ، بشر يمتلكون الحقوق على أساس إنسانيتهم . لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع : يا أيها الناس إنَّ ربكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، و لا لعجمي على عربي ، و لا لأبيض على أسود ، و لا لأسود على أبيض ، إلاَّ بالتقوى ، الناس من آدم و أدم من تراب . كانوا يُطلقون على الخادمة ذي البشرة السوْداء “طاطا” ، و على الجارية ذات البشرة البيضاء “دادا” ، و من بينهما نساء المنازل اللائي أوْهموهنَّ أنهنَّ إماء لطبقة “النبلاء” ، و عليهنَّ أنْ تهبْنَ مفاتنهنَّ ل”ذئاب” العصر الجاهلي من القرنين التاسع عشر و العشرين ، إلا أنَّ هناك مَنْ يستنكحوهنَّ بعقود شرعية أوْ حتى بفاتحة الكتاب . – يقع الكتاب و بين دفتيه 383 صفحة من القطع المتوسط ، يحضنه غلاف أسود غامق ، و على صدره صورة أمَتيْن من “العبيد” بلباس أبيض ، لا يكاد يتميز محياهما لشدة سواد لون الكتاب ، و على حجر إحداهما يجثو صبيٌّ ذات بشرة بيضاء اسمه عبد السلام الشرْتي صبط الصدر الأعظم أحمد الغنميَة ، آنذاك بمنطقة الحماية الإسبانية ، و عاصمتها تطوان . – و يأتي هذا البحث بقلم متخصص في علم الاجتماع الحائز على دكتوراه من معهد الدراسات الأوربية ب”فلورانسا” سنة 2002م ، من خلال أطروحة حوْل الحماية الإسبانية الكلونيالية بشمال المغرب للفترة بين 1912/1956م ، بعد حصوله على المستر في علم الأنتروبلوجيا . فقد أقبل على تحقيق للصورة النمطية (بين المغاربة و الإسبان ) للأسر المغربية بشمال المغرب تحت الحجر الكلونيالي الإسباني . – عالم الاجتماع هذا أضاف إلى علمه “مهنة الطبّ” ليتسلح بمشرط في غرفة العمليات من أجل تشريح جسد ظاهرة الرق عند بعض العائلات التطوانية في القرنين التاسع عشر و العشرين اللذيْن ساد فيهما هذا الجسم المريض ، ليستشري أيامئذ في ذلك المجتمع . لعلَّ هذا العمل الأكاديمي يرفع القناع عن هذه الحقبة النرجسية ، و الوقوف على أضرارها و خلفياتها ، لنفط الغبار عن الذاكرة ، و عن تلك النفس الأمارة بالسوء التي كانت توحي إلى طبقة محظوظة ماليا من “النبلاء” بنمطية “الأنا” المتسلطة ، مع وجود الاستثناءات . – أوَّلُ لبنة في البناء السوسيولوجي للمجتمع التطواني في القرنين التاسع عشر و العشرين ، بدءً بمجال النهج الأنتروبولوجي لاستكشاف مفهوم انتشار الرقّ بتطوان ، و إحدى أسباب ذلك هي الدول الغربية التي استعمرت الدول الإفريقية ، لأنَّ مصطلح حقوق الإنسان لم ير النور في هذه الدول إلا بعد تبني و اعتماد اتفاقية القمع و إلغاء معاهدة الاتجار بالبشر و استغلال بغاء الغير من لدن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 2/12/1949م . و تنص المادة 4 من الإعلام العالمي لحقوق الإنسان على أنه لا يجوز استرقاق أوْ استعباده ، و يحظر الرق و التجارة بالرقيق بجميع صوَرها . – هذه الدراسة هي مسار حياة ، لعلاقة الفرْد بالمجتمع ، و تهدف إلى فهم كيفية عمل المجتمع ، و كيف تتحول العلاقة بين الإنسان و البيئة . و قد يسعى المؤلف بهذا البحث ملء الفراغ السائد حاليا حول الاسترقاق بشمال المغرب و حصريا بتطوان ، وهو محور اهتمام هذا العمل الذي يأتي لإتمام مساهمات “الناجي” سنة 2018م في كتابه ” جُند و خدم و سراري”، و مساهمات “الهامل” سنة 2020م في كتابه “العنصرية و التمييز العرقي ليس أجنبياً” ، بالرغم من أنَّ الخصوصيات ل” كولدمان”(بثلاثة نقط على الكاف) أثبتت فوائدة هامة سنة 2012/2015م حول مدينة فاس . و بما أنَّ هذه الأبحاث لها أوجه تشابه ملحوظة مع مدينة تطوان . إذ حقيقة الزمان في الأيام الخوالي التي مضت لا سبيل لنا إليها ، فينبغي أنْ لا ننظر إليها (العبودية) إلاَّ في زمانها ، و ليس من منظور زماننا ، إذا بالمعيشة و الحياة في القرنين التاسع عشر و العشرين كانت تأخذ شكلا طبيعياً . و كما هو معلوم فالفرْق بين الواقع و ظاهرة الاسترقاق، و الحقيقة الخفية شاسعة، فقد نراها ببصيرة هذا الزمان . فإذاً لن نستغرب لسيادة الأنظمة الطبقية ، و سيادة طبقة “النبلاء” لاقتنائهم “العبيد” من أجل امتلاكهم أرواحهم ، إذاك سنفهم ، عنذئذ طبيعة الصراعات التي كانت سلاحاً سياسياً في مجتمعات ذلك العصر . ظاهرة الرق كانت خاصة بعليَّة القوْم كيْ تمنحهم مقامات رفيعة في مراكز قوة سلطوية . – بالفعل أظهرت هذه الدراسة خبايا مجتمع مُغلق ، و من الطبيعي أنْ يخلق قلقاً و انزعاجاً لدى القارئ في القرن الواحد و العشرين . استطاع المؤلف من خلال هذا التنقيب أنْ يحصل على شجرة أنساب إحدى الخادمات ، و المنازل أوْ البيوت التي يخدمونها ، و هي من بين قضايا الاتجار في النساء . – إذ لم تكن هناك عبودية قاسية و عديمة الرحمة ، بل كان هناك استرقاق “معتدل” لقول مصدر كلونيالي في تقرير “موضيْر” لسنة 1923م ، مقبول لحماية الاسترقاق ! ذات طابع إنساني ، كما استوْعبت أكثر ، لحالة عبودية أسرية مدى الحياة ، و التي يكون فيها الأكثر رضا ، وهم الخدم ! باستثناء حالات ناذرة. إنَّ ثمة وضوح لا يعني أنْ لا يكون هناك أسرار . كما أنَّ كتمان الشفافية لا ينبغي للمرْء أنْ يستخفَّ بها . فالشهود الذين لم يتحيَّروا كيفية الأجوبة ، بل كانوا يُحدّثون الباحث بنوْع من الحنين ، و يتحوَّلون إلى “أصدقاء” ، فماذا يمكن للكاتب أنْ يطلب أكثر من ذلك ، مما يؤكد أنَّ هؤلاء الشهود على درجة عالية من حرية الفكر و التعبير ، لتكسير الطابوهات ، مع الاشتياق إلى الماضي ، و هذا سلوك بالفطرة و غريزة طبيعية عند الإنسان الذي يحنُّ إلى صباه و نشأته . و من الطبيعي أيضاً أنْ تكون للمتحدثين وجهات نظر مختلفة . و للقراء لهذه الدراسة ، لا شك ، سوف يُعربون عن آراء متباينة ، و خصوصا المسلمين منهم ، لأنَّ العبودية تتعارض مع مبادئ الإسلام السمحة و الذي يدعو إلى العدالة و المساواة ، و ينبذ كل أشكال العنصرية ، مع دفع من يمتلكون “العبيد” ، إلى التخلي تدريجيا عن المتاجرة فيهم و تحريرهم . – و قد احتوى هذا البحث الأكاديمي على ببلوغرافيا من حوالي 230 مرجع ذات الصلة بالإسبانية و العربية و الفرنسية و الإنجليزية ، و على مقدّمة خلدونية ، في سياق سياسات الرق بالمغرب مع الشكر و الامتنان لجميع المساهمين في هذه الأبحاث . و قد جاءت هذه الدراسة على شكل أطروحة في : – ثمانية أبواب ، و تسع و ثلاثين مبحثاً مع الخواتم و المناقشة حول العنصرية . – الباب الأوَّل : في سياق الاسترقاق و تجارة الرقيق ، و به سبعة مباحث . – الباب الثاني : تطوان و منطقتها كمسرح لدراسة الهيكل الاجتماعي و أسواق الرق بها ، و لها مبحثان . أوَّلهما : هيكلة العبودية ، و ثانيهما : أسواق النخاسة . –أ- سيَر عمل السوق . –ب- مقرّ السوق بتطوان . –ج- الرق على الورق و قوانين المُعدَّات المنقولة و التحويلات بتطوان . ثم الشبكة مع بادية جبالة : -أ- الاسترقاق و قلق الخدم ، و العبودية و الرق مع المناطق الجبلية . –ب- الأعراق البشرية و شبكة العلاقات الأسرية بين السادة و الخادمات عند ذكر أسمائهنَّ ك -ياسمين – زيت المال – جوهرة (زوزيو) – حبيبة – طاطا زهرة – امبيريكا (العطار) – العنبر – اطرونجا إلخ …- إنَّ البحث في الهوية مفتوح على مقاربات “فينومينولوجية و اجتماعية ، و تحليل نفسي مع مقاربة جدلية . و قد استثمر المؤلف أرشيف كل من آل بنونة و آل داود ، و سجلات أحباس مساجد و زوايا تطوان ، و أنكحة زواج الأقارب مع المال الرمزي و الاجتماعي لأبناء البلد مع الفوارق الاجتماعية . كما استثمر أيضاً أرشيف المكتبة العامة بتطوان، و المكتبة العامة الإسبانية بمدريد ثم أرشيف بلدية قاديس ، و الأرشيف العام لإدارة صندوق أفريقيا و صندوق باريلا ، و أرشيف مكتبة كاطالونيا (بارشلونا) مع أرشيف معهد الفتوغرافيا (بارشلونا/إسبانيا ) .. – و رسول الإسلام محمد صلى الله عليه و سلم جاء ليصدح بدعوة الحق و يقيم العدل و يحارب الظلم و الفساد ، فكيف للمسامين أنْ يسترقوا عباداً أمثالهم . دار الإسلام رسالة للعالمين و ليس للعرب وحدهم ..
عبد المجيد الإدريسي .