تابع المبحث الثاني
1- النور/المرأة:
أ- خولة كانت في دمي سيفا من النور
يفر من حصار الزنج والقرامطه
(…)تنهض من مملكة الله
كمشكاة بها مصباح
يصعد من عيونها حي على الفلاح([i])
ب – وأبصرتُ نوركِ هذا الصباح
…ولم أحتمل غِبطة النور وحدي
فاستوطن القلبَ شوقٌ
إلى دفقة من بكاء
تصفحت كل الدواوين
طفت مع الشعراء
آه يا جسدا عانق الطين عضوا فعضوا
وروحا تسامق للنور حبا ونجوى
وآنست من شمس تبريز نارا
ولكنها ما أحاطت بنوركِ وصْفا
فمن سيغنيك؟ أو من يصور نورك
في لوحة أو قصيدة؟
فاتشحي نورك القدسي
ومُدي إلى سدرة المنتهى
دعوة من سراج النبوة تبعث هدي الخليل.
أرى عاشقا من بلاد الجليد
يصاقب نورك
أسأله عنك…([ii])
ج ـ وهنا الشاه جهان
وهو من قلعته يشرب من أنوار ممتاز
ويجلو صدأ النفس الكئيبهْ
فاسكبي نورك يا سر نشيدي
في كياني
ما كنت لأبغي قمرا غيرك في ليل وجودي
إن أكن ضيعت مُلكا
فلقد فزت بنور ليس يفنى([iii])
د– ليس لي أن أصادر
لحن الصبايا اللواتي
يرتلن في الحرم الجامعي
نشيد الهويه
ويرفعن للأفق نور القضيه([iv])
هـ- أمامهمو إسلامُك
كل عصافيرك تُقتل
من يتغنى بهواكَ يجوع ويُجلد حتى الموت
ومن يعشقْ فيكَ امرأةً أسطورية العينين
وساحرة تشبه قمرا أورق فيه النور
فمتهم([v])
و- ليلاي
فأنا آمنت بأنك قدري
وبأنك لحن خمري
وبأنك الهادي الآتي
من أودية الجن
ومن أصداء فضاء نوراني عطر([vi])
ز- أيها الطالع من جمر الخُزامى قطرة حمراء تخضر بها كل
بساتين بلادي. بُحتَ بالعشق وليلى
طفلة نَمَّ عليها نورُها الوهاج
بحتَ بالسر…وهذا البوح
كم يفضي إلى تيه جميل([vii])
تبرز هذه النماذج ربط شعراء المتن بين النور والمرأة، وكان الأمراني أكثرهم فعلا لذلك، علما بأن نماذجه أقرب إلى تصوير المرأة الواقعية، أما بنعمارة والرباوي فالمرأة التي يقصدانها هي رمز لدلالات أخرى في حدود الموضوع الذي نحن بصدده الآن.
يستلهم الأمراني في مجموعته “ثلاثية الغيب والشهادة” كثيرا من تجارب النساء المسلمات اللواتي ضربن أمثلة رائعة في الشجاعة والتفاني من أجل إعلاء راية العقيدة. ويخلص من “قراءته” للتاريخ إلى أنها كانت صانعة للثورة؛ يفعل ذلك استنهاضا لهمة المرأة المسلمة المعاصرة للاقتداء بهن. وقد لاحظ د. عماد الدين خليل بحق أن هذه المجموعة الشعرية «تغري بوقفة نقدية لدراسة المرأة». ومن بين النساء اللواتي أعجب بهن الأمراني واتخذهن قدوة ونبراسا “خولة” الواردة في النموذج(ا). فهذا الاسم العربي للمرأة مُحَمّل في الحقيقة بتواريخ ودلالات عدة في التراث الأدبي على الخصوص. فقد يتبادر إلى أذهاننا اسم “خولة” صاحبة طرفة بن العبد([viii])، أو خولة أخت سيف الدولة التي كان يحبها المتنبي([ix])…إلا أن السياق العام للقصيدة وذكر الشاعر للنور وحركةِ الزنج والقرامطة؛ كل ذلك يدل على أن “خولة” المقصودة هي خولة المسلمة المدافعة عن الإسلام ضد مظاهر الانحراف والارتداد التي تخيم على الأمة: فهي سيف من النور يضيء للشاعر الطريق في هذه الفترة المظلمة، وهذا شبيه بفعل خيال المسلمين بشخصية “خولة بنت الأزور” إبان ضعف الأمة وتعرضها لتهديد الغزو الخارجي «فالأمة وهي تعيش ذل الانكسار والتمزق تجد في ماضيها الذهبي ملاذا تلجأ إليه…فخلقت أبطالا ليس لهم وجود تاريخي كشخصية خولة…التي أبلت في المعارك بلاء يعجز عنه الأبطال…حتى خالها الناس خالد بن الوليد»([x])؛ فخولة هنا حلم بالنور الذي يأمل الشاعر أن يقطع به أوصال الظلام ويجعله يشيع ويعم جميع بلاد الإسلام.
وفي نماذجه(ب) و(ج) و(د) لا يخرج الشاعر عن إطار هذا الحلم ولكن بطريقة أخرى؛ حيث يرصد الهوية الإسلامية المبثوثة في كل مكان من العالم ويبعثها في ذهن المتلقي حتى لا يطمرها النسيان. ورغم أن أمجادها قد ولت إلا أن الشاعر يعتبر ذلك مجرد كمون ينتظر من يستثيره في يوم من الأيام. وكان للشاعر أن يعبر عن هذا الحلم بغير المرأة، ولكن يظهر أنه يولي اهتماما خاصا للمرأة المسلمة المعاصرة حتى يخلصها من الرؤى الضالة المضلة التي تحاول أن تصورها مجرد بضاعة بينما يشهد لها التاريخ بالبطولات والأثر القوي في الأمة.
أما بنعمارة والرباوي فحديثهما هنا عن المرأة رمز يحيل على ميادين أخرى غير المرأة. فبنعمارة في نموذجه(هـ) يوجه الخطاب إلى المسلم المعاصر مذكرا إياه، ليس بما يتعرض له هو فحسب من محن وشدائد، ولكن بما يلحق أيضا كل من تعاطف معه و”تغنى بهواه” من تجويع وتعذيب واتهام بالخيانة. ويجعل بنعمارة السر الذي يجلب هذا التعاطف مع هذا المسلم الغريب هو ما يحمله بين جوانحه من عقيدة وصحوة شبهها في شدة إغرائها ب”امرأة ساحرة أسطورية العينين شبيهة بقمر أورق فيه النور” وهي صورة شديدة الغرابة لكثرة ما ركب فيها الشاعر من عناصر متباعدة يشكل النور فيها عنصرا توضيحيا أساسا؛ لأنه المحيل الرئيس على أن المقصود بهذه المرأة هو الهدى والإيمان، أما كونها امرأة فقد جاء بها الشاعر لتأدية دلالة الإغراء إشارة منه إلى الانجذاب الذي يحسه المرء تجاه هذه الصحوة في ظل قساوة الحضارة المعاصرة. ولا تخرج “ليلى” بنعمارة في نموذجه(و) عن هذه الدلالات.
ويتخذ الرباوي”ليلى” رمزا للوطن في نموذجه (ز) إذ يخاطب المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الآتي من الخزامى (الاسم القديم للحسيمة)([xi]) عاشقا لليلى/الوطن مضحيا في سبيلها بكل ما يملك من أجل أن يموت يوما على صدرها إلا أنه مات خارج الصدر/الوطن؛ إذ كانت وفاته بالقاهرة([xii]). فهو قد أحب ليلى عشقا لتجلي النور عليها؛ أحبها لهويتها الإسلامية وإن كانت لم تبلغ بعد الرشد؛ فكان من ثم البوح بحبها طريقا إلى هذا التيه. وقد جعلها الرباوي غير راشدة بعد إشارة إلى أن الصحوة كانت “غِرا” تنقصها التجارب فكان (ربما) على هذا المجاهد في نظر الشاعر أن ينتظر بلوغها الرشد. وقد استحضر الرباوي للتعبير عن هذا المعنى بيت ابن الملوح في قوله[الطويل]:
تعلَّقتُ ليلى وهْي غِرٌّ صغيرةٌ ولم يَبدُ للأتراب من ثديها حجمُ([xiii])
[i] الأمراني،” المجنون”، ثلاثية الغيب والشهادة؛ 14ـ16.
[ii] الأمراني، “البستان”، ثلاثية الغيب والشهادة،،37ـ46.
[iii] الأمراني، “تاج محل”، يا طائر الحرمين؛ ضمن ديوان المغرب الشرقي،44ـ47.
[iv] – الأمراني، “الزلزلة”، المجد للأطفال والحجارة؛ 62.
[v] – بنعمارة، “غنائيات النوارس الحزينة”، نشيد الغرباء؛ 32.
[vi] – بنعمارة، “ليلى غزلية الوضوح الغامض”، العلم الثقافي؛ 19 نوفمبر 1994.
[vii] – الرباوي، “مغربنا وطننا”، أول الغيث؛ 11.
[viii] – يقول في معلقته[الطويل]:
لـِخــــــــولـة أطـلال بـــــبُرقـةِ ثَـهْـمـَد تـَلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليدِ/
-المعلقات العشر؛ 95.
[ix] – المتنبي، د.محمود محمد شاكر؛ 333-355.
[x] – خولة بنت الأزور بين الحقيقة والخيال، د.محمد علي دقة؛ 34. – الأعلام؛ 325:2.
[xi] – هو ما أخبرني به الشاعر في إحدى رسائله بتاريخ؛ 19-9-95. وفي:-كتاب المغرب، للأستاذ الصّدّيق بلعربي؛ 124.أن هذه المدينة كانت تدعى “المزمة”، وقال: «وكانت “المزمة” من أولى المدن التي أسسها العرب ببلادنا في عصر الفتح الإسلامي، وكانت عاصمة لإحدى الإمارات التي قامت على ضفاف البحر المتوسط وهي إمارة بني منصور». وورد ذكر هذا الاسم في تاريخ ابن خلدون؛ 409:1. -المقدمة819:2. قال: «ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعُشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس وادعى أنه الفاطمي واتبعه الدهماء من “غمارة” ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد “الـمَزْمَة” فقُتل بها غيلة ولم يتم أمره».
[xii] – الشرح للشاعر.م.س.
[xiii] – ديوان مجنون ليلى؛ 186.
د. المختار حسني