بعد ظهور مصطلح التناص تناول النقاد مشكلة السرقات من جديد في ضوء هذا المفهوم الوارد من الغرب، وإن كانوا لم يتجاوزوا الاستعراض والتنبيه إلى التشابه والاختلاف بين هذا وذاك منصرفين جزئيا أو كليا إلى تعريف التناص كما ورد علينا من الغرب ومجرين مفاهيمه بحذافيرها في تطبيقاتهم على النص العربي، لا نكاد نستثني منهم غير د. محمد مفتاح الذي اتجه في تنظيره إلى تركيب المفاهيم المختلفة، لجعلها أكثر إجرائية وعلمية في التناول، بغض النظر عما يقال عن تطبيقاته. وقد كان المغاربة بهذا سباقين إلى الموضوع تعريفا وتطبيقا وتنظيرا، خاصة في كتابات د. محمد بنيس، ود. محمد مفتاح، بالإضافة إلى تطبيقات عبد الله راجع السائرة على هدي ما سطره د. محمد بنيس في (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب). وأخيرا دراسة د. محمد علي الرباوي الموسعة عن شعر المغرب الشرقي.
وهذا لا يعني عدم اهتمام النقاد والدارسين العرب من الأقطار الأخرى بالموضوع، فقد انتشرت، منذ سنوات الثمانين، وبسرعة، الدراسات التي تعنى بهذه الظاهرة، ولكننا نكتفي هنا بتقديم قراءة خاصة لأحد الرواد المغاربة في هذا المجال، وهو د. محمد بنيس.
تناول د. محمد بنيس ظاهرة التناص في رسالته “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” وفي أطروحته “الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها”. وطبعتها نفس الرؤية، وإن كانت الاستفادة من الأدوات المعرفية أوسع في الثانية منها في الأولى. وفي البحثين معا، احتفل، في الجانب النظري، بما أنجز في الغرب، منطلقا من فكرة مسبقة، هي أن القراءة المحدثة تسلك سبيلا مغايرا و”متقدما” عما كانت عليه قديما(1)، دون أن يقدم على صحة الدعوى أي دليل من هذا القديم “المتخلف” !. وإذا كان القديم لا يستحق أن يُبحث له عن مسوغات القدح فيه (يكفي أنه قديم في نظر هذه الحداثة). فعسى، إذن، أن يكون لدعوى تقدم القراءة المحدثة من الأسس والأدوات والتأويلات ما يجعل القارئ مقتنعا بها مسلما بطروحاتها.
لهذه الغاية يستعير د. محمد بنيس ثلاثة معايير من كريستيفا؛ Kristeva وهودبين Houdbine(2 ) يعتبرها بمثابة “قوانين” يقيس بها مدى “الوعي” الذي يتحكم في قراءة الشعراء للنصوص الغائبة(3 )، وهذه القوانين هي: الاجترار، والامتصاص، والحوار.
ا – فالاجترار، في نظره، كان سائدا في «عصور الانحطاط…حيث تعامل الشعراء مع النص الغائب بوعي سكوني(4)»
ب – والامتصاص مرحلة أعلى من المرحلة الأولى ، يقر بأهمية النص الغائب وقداسته «يعيد صوغه وفق متطلبات تاريخية لم يكن يعيشها في المرحلة التي كتب فيها(5)».
ج – أما الحوار فهو القانون الأعلى في تعامل النصوص مع النص الغائب إذ «يعتمد النقد المؤسس على أرضية عملية صُلبة تحطم مظاهر الاستلاب مهما كان نوعه وشكله وحجمه، لا مجال لتقديس كل النصوص الغائبة مع الحوار…فالشاعر أو الكاتب…يغير في القديم أسسه اللاهوتية ويعري في الحديث قناعاته التبريرية والمثالية…»(6 ). وفي هذه المرحلة “العليا” يصعد د. محمد بنيس من لهجته خاصة في وصف هذا “القانون” بالصلابة والقدرة على التحطيم والنسف والكفاءة في جرف كل ما هو مقدس. وهي لغة إيديولوجية عنيفة ما انفك يؤاخذه عليها النقاد(7 )، يقول د. محمد العمري: «ومن الأكيد أن كتابة صفحات من التمجيد للشعر المعاصر والقدح في تقاليد وقوانين الشعر عند العرب وفي الاجترار والمجترين من شأنه أن يشغل الباحث عن النظر في آليات تطور الأشكال وفاعليتها (8)».
والظاهر أن الباحث استعار هذه “القوانين” من الغرب دون أن يجري عليها أي تغيير يخضعها للمجال التداولي الجديد فاكتفى ب”اجترار” تلك المصطلحات بمفاهيمها الأصلية، وكأنه أراد بذلك أن “يكرر” تجربة (تيل كيل) في دعوتها إلى التمرد والنسف والهدم لكل القيم بعد فشلها في الميدان السياسي. وقد انتبه د. محمد مفتاح إلى أن اختزال بعض الدراسات، التناصَّ أو الحوارية في السخرية مرتبط بهذا المد الاحتجاجي والاعتراضي(9) على مستوى الواقع الإيديولوجي «فالمفهوم [كما يقول] نشأ في ظروف اعتراضية: الاعتراض على المؤسسات السياسية والثقافية والعلوم الرائجة. وكانت شعارات المرحلة هي القطيعة، والإبدال … والفوضى … والعماء… والتناص من زمرة هذه المفاهيم الثورية (10)».
إن هذه المصطلحات (الاجترار، والامتصاص، والحوار) ذات الحمولة المغرضة تؤدي في النهاية إلى تمجيد بعض النصوص بحسب “درجة وعي” أصحابها، واتهام آخرين بعدم الوعي. أو على الأصح، بحسب درجة الهدم للمقدس أو عدمه. فالشعرية، بهذا المنظور، يكمن سرها في هذا الهدم، وهو المقياس الذي سبق لأدونيس أن رفع به شاعرية وحداثة جبران(11 )، وأراد به د. محمد بنيس الرفع من شأن شعر اليسار؛ إذ هناك شعر حديث، فشعر حر، ثم شعر “معاصر” هو شعر اليسار(12) .
هذه بعض المنطلقات النظرية للباحث، سرد بعدها، في “ظاهرة الشعر المعاصر” مجالات التناص، زاعما أن اهتمامات الشعراء المغاربة “المعاصرين” : «بلغت حدا لم يكن يخطر على بال الشعراء الذين سبقوهم من كلاسيكيين ورومنسيين…ذلك أن الشاعر المغربي المعاصر اتجه بعقله ووجدانه نحو العلوم الإنسانية قديمها وحديثها مع اعتبار تشعباتها في ميادين التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة ثم الفنون غير الأدبية من تشكيل ومعمار وسينما ورقص ومسرح بالإضافة إلى العلوم السياسية والاقتصادية والقانونية، بل يصل الأمر في بعض الحالات إلى العلوم الرياضية والتجريبية»(13 ) . ومثل هذا الكلام الذي يدخل في باب المزايدات أكثر مما يدخل في باب العلم، هو الذي وصفه د. أحمد المعداوي بأنه أشبه ما يكون بالحديث عن أبطال الأساطير. وقد صدر منه هو أيضا ما يندرج تحته يوما ما فما تمالك عنه حتى سرد بعضا منه واعترف بتفاهته قائلا: «وبالطبع فإن هذا الكلام الذي يبدو لي الآن أشبه ما يكون بحديث السحرة والراجمين بالغيب إنما أريد به تضخيم ثقافة الشاعر الحديث ومعاناته لتأخذ تجربته وما تتضمنه من رسالة شعرية حجما يؤهلها»(14 ). وهذه “الذخيرة” الثقافية كما يسميها د. محمد بنيس استفاد الشعر منها، في موضوع التناص، في المجالات التالية:
I-الذاكرة الشعرية: ويقصد بها “جميع الشعر الإنساني” سواء أكان قديما أم حديثا، عربيا أم أجنبيا، باللغة الفصحى أم بالدارجة(15 ) مما يعلق بأذهان الشعراء، وقد ينسونه، ومع ذلك يتسرب إلى ما يكتبون، وهو ما يعلق كذلك بأذهان القراء فيذكرون منه ما يذكرون وقد تستثير فيهم هذه النصوص ما أنسوه. وهنا يحترس د. محمد بنيس فيسجل ما يكتنف القراءة من صعوبات، وما قد تسقط فيه من زلل غير مقصود ما دام النص الشعري شبكة من النصوص الشعرية الأخرى تمر خلال شبكة من النصوص التي تكون ذاكرة القارئ( 16). وبعد هذا التقديم للذاكرة الشعرية يعين المتون الشعرية الكامنة في الشعر المغربي المعاصر كنصوص غائبة فيحددها في:
1.المتن الشعري العربي المعاصر
2.المتن الشعري العربي القديم
3.المتن الشعري الأوربي
4.المتن الشعري المغربي
لينتقل إلى المجالات الأخرى من مجالات التناص:
II- الحضارة العربية: ويجمل في هذا المجال الحديث فيحدد أوجه الحضارة العربية التي يستحضرها الشعر المعاصر في القرآن الكريم، والنص التاريخي والموروث الأسطوري والخرافي والقصصي، والمعارف العلمية والفلسفية والصوفية(17 ).
III-وجوه الحضارة المغربية: وهذا المجال هو الذي يميز الشعر المغربي عن باقي الشعر العربي في نظر الباحث، ويأتي التاريخ في رأس القائمة بأحداثه وبطولاته، يليه النص الصوفي والفقهي فالخرافة، وغير ذلك من المرويات والمقيدات(18).
IV- الثقافة الأوربية: وعنها يقول الباحث «ويمكن القول بأن هناك مجالين استبدا أكثر من غيرهما بالشعراء الذين ندرسهم؛ وأولهما: الفكر الوجودي…وثانيهما النص الأدبي الاشتراكي»(19 ) مع قلة اهتمامٍ بالأسطورة اليونانية اهتمامَ الشعراء العرب المشارقة.
بعد المنطلقات النظرية السابقة للتناص، والحصر النظري للنص الغائب في هذه المجالات الأربعة، يصل الباحث إلى مجال التطبيق الذي لا بد وأن القارئ كان ينتظره ليلمس عن قرب “تقدمية” السبيل الذي تزعم القراءة المحدثة بأنها تسلكه. ففي مجال الذاكرة الشعرية، وفي الوجه الأول (المتن الشعري العربي المعاصر)، يورد د. محمد بنيس نموذجا من شعر عبد الكريم الطبال بعنوان “أغنية إلى الصيف”:
مِنْ أَجْلِ أنْ تحمِلَ في يديك يا مسافرا في كل عصرْ
يا تاجرا في الذهب والفجرْ
هديةً لكل واحد من الأهل
المنَّ والسلوى للتائه الغريق في الرمل
النارَ للمنفى(20 ) في فلاة الموت
النورَ للأعمى، البُرْءَ للأبرص
الأغنياتِ للأطفال البكم
الخيلَ للفرسان
فرشنا الأرض بالورد
حملنا التمر والحليب
جمعنا كل الحب في الأحضان(21 )
وبعد ذكر هذا النموذج مباشرة يقول الباحث: «هذا النص إعادة كتابة لنص البياتي (من أجل الحب) الذي جاء فيه:
من أجل أن نضحك للشمس
على شواطئ البحار
ونجمع المحار
ونقطف النرجس من حدائق النهار(22).».
ولنتساءل نحن: هل يعتبر نص “الطبال”، فعلا، إعادة كتابة لنص البياتي ؟ ما هي أوجه التناص بينهما ؟ ما هي العبارات المتشابهة بينهما ؟ هل هي عبارة “من أجل أن” التي وردت في بداية كل من النصين ؟! هل هي كلمة “الحب” التي وردت في آخر نص “الطبال” وفي عنوان نص “البياتي” مما لا يمكن اعتباره بحال تناصا ؟ …إن الباحث يصمت عن هذا ويكتفي في “تحليله”، إن عُدّ تحليلا، بالقول: «إن إعادة كتابة نص “البياتي” في نص “الطبال” تمت عن طريق امتصاص النص الغائب…وتَمَازَج بالتأكيد مع نصوص أخرى ليظهر على هذا النسج»( 23). فهو لم يحدد مظهرا واحدا من مظاهر التناص المزعوم بين هذين النصين، ولم يستطع، من ثم، إقامة دعواه، وهي واحدة، على ساقها، وطفق، مع ذلك، يتخذها متكأ لإطلاق دعاوى أخرى حين “يؤكد” وجود نصوص أخرى في ذلك النص. فإلى من، يا ترى، يكل ذلك ؟
وللتأكد من صعوبة تلمُّس الظاهرة في بعض النماذج التي يوردها، وللوقوف على التحليل الفقير الذي يصاحب جل، إن لم نقل كل، النماذج التي يعتمدها، يكفي الرجوع إلى رسالته. لكن، مع ذلك، نورد بعض الأمثلة الأخرى على سبيل الاستئناس؛ فمما صَعُب على الباحث تلمسُ ظاهرة التناص فيه، مثلا، نموذج محمد الميموني مع نص صلاح عبد الصبور، ونقتطف هنا عرضه للنموذجين وتعليقه عليهما دون تصرف لتبين ذلك:
«- نموذج 3- الغروب والشمس المصلوبة- محمد الميموني:
يا أهلَ هذي القريَةِ الكرامْ
مُحْسِنُكُمْ أَتى – ككل عامْ-
ليفرشَ المسجد والضريحْ
ويملأَ الأسماع بكلامه الفصيحْ(24 )
وهنا أيضا نلتقي بإعادة كتابة لنص صلاح عبد الصبور:
معذرةً يا صُحبتي، لم تُثْمر الأشجارُ هذا العامْ
فَجِئتُكم بأردأ الطعامْ
ولستُ باخلا، وإنما فقيرةٌ خزائني
مقفرةٌ حقولُ حِنطتي(25 ).
إن النص الأول يعيد كتابة النص الثاني من غير أن يتغير جوهره، وهذا يدل على أن الميموني تعامل مع النص الغائب كنموذج قابل للاستمرار والتجدد، ومن ثم فإن إعادة كتابته اعتمدت على قانون الامتصاص(26).
انتهى كلام الباحث دون أن نعرف أين يتجلى كل هذا ؟!
أما الشعر القديم، فبعد انتقاده لطريقة حسن الطريبق الذي تعرض لعبارة المجاطي الشعرية المشهورة :
تُسْعِفُني الكأسُ ولا تُسعفني العبارة( 27)
المتداخلة مع بيت مسلم بن الوليد في قوله:[الطويل]
قصيدٌ وكأسٌ كيف يَـلـتقيـان سَبيلاهُـما في القلب يَـختـلـفانِ(28 )
د. المختار حسني