المبحث الثالث 3:
ب- الجب: (نموذج بنعمارة):
يشير بنعمارة في هذا النموذج إلى واقعة إلقاء يوسف u في الجب من قبل إخوته([1]) ضمن سياق خاص دال على الفتنة؛ فهناك سائل يريد معرفة مدى استسلام الشاعر لهواه وضعفه البشري أمام فتنة المرأة، إلا أن الشاعر يتجنب الإجابة المباشرة عن السؤال، ويصرف الجواب عنه إلى الحديث عن الفتنة التي يرى أنها خيمت على الكون، للدلالة على ذهوله وانشغاله عن نفسه بهول ما تقبل عليه الأمة؛ فهو “يرى” مدنها وقد بدأت توقَد فيها نيران الفتنة الكبرى بالتخلي عن شرع الله والاعتداء على أبناء الأمة بحيث يتكرر ما جناه أبناء يعقوب u على أخيهم u. على أن يوسف u إن كان آنذاك قد وجد من السيارة من يلتقطه ليكون ما كان من جعله سببا في إنقاذ أهل مصر وغيرهم، فإن يوسفَ هذه المدن، الذي هو رمز هدايتها، متروك في الجب وحيدا لا يدري أحد ما الذي سيحل به، وما سيحل بهذه الأمة من كوارث بغيابه؛ فهذه المدن شبيهة بإخوة يوسف u في اتباعهم أهواءهم وتحديهم لشرع الله بإلقائهم أخاهم في الجب. إلا أن يوسف هذا العصر اكتشف “اللعبة” فطار بأجنحة العشق نحو السماء بدلا من السقوط في البئر:
- يا لَلألْوان
تَوَاطَأَتِ الألوانُ، وَوَزَّعَتِ العَقْرَبُ
أَثْوَابَ الحِكمة
- أوَلم تسقط؟
- قلتُ: بلى
يسقط ريشي في بئر الحكمة
فأطير بأجنحة القلب، وأنشر هذا الشوقَ الصاعد في
الغيم، ويسترني رمز الماء المتدفق بين ترائبه، معجزتي
عشقي: أتوكأ/وأهش به/فيه مآرب أخرى([2])
فالعشق الذي يشغل الشاعر ليس عشق المرأة كما ورد على لسان سائله؛ وإنما هو هذا العشق ذو الطابع الصوفي المتسامي على الوقائع الأرضية، وهو الحل في نظر الشاعر إذا أراد المرء أن يتجنب إغواء الجسد وتسلط الغرائز.
ج- القمصان (نموذج الرباوي):
والمراد بالقمصان؛ القميصان اللذان ذكرهما الرباوي في نموذجه هذا (الثوب الذي اعتُمد في التهمة بالزنا، والقميص الذي أُتي فيه بدم كذب)، والثالث: الذي ارتد به يعقوب u بصيرا وهو الذي ذكره الأمراني على سبيل التشبيه[ينظر الجدول].
والقصيدة التي تدخل هذه القصةُ ضمن نسيجها الشعري تسجيل لتجربة مريرة مر بها الشاعر في وقوعه بين نزوات الجسد وسبحات الروح، وهذه التجربة هي التي دفعته إلى البحث عن الأدوات الملائمة للتعبير بعمق عن هذا النوع من الصراع؛ فكان التناص مع قصة يوسفu الوسيلة المثلى في هذا الجانب، وخاصة باستغلال دلالات القميص بعد إجراء التحويلات اللازمة على عناصر القصة لتتلاءم والموقف الجديد. فالرباوي، هنا، بخلاف يوسفu، ينهزم أمام الإغراء ويسقط فريسة سهلة لرغائب الجسد. وما يحز في نفسه هو أنه يتآمر، كإخوة يوسف، على ذاته ويلقيها في الجب؛ فكأنما هو اثنان: شخص/جسد؛ أصم أعمى، مترع بالنزوات والميولات الشريرة، وشخص/روح؛ سميع بصير بأسباب الهداية والرشاد. والأول هو الذي يلقي بالثاني في جب عميق “متسكع بين فجاج الصحراء”، ولكن كونه لم يأت على قميص الثاني بدم كذِب كما فعل إخوة يوسفu، هو ما جعل التهمة تلاحق الشاعر/الجسد بسرقة ذاته وإضاعتها، ولن تسقط عنه هذه التهمة إلا بعد إعادة تلك الذات. وهذا، بقدر ما هو تعبير من الشاعر عن الضلال الذي يتخبط فيه، هو اعتراف باقتراف الذنب، وإقرار بالضعف أملا منه في رحمة الله وعفوه. على عكس ما قام به إخوة يوسفu من تحايل وكذب.
هناك إذن عدة نقط تشابه واختلاف بين تجربة الرباوي والقصة الأصل، تتحكم في كل ذلك الجذورُ النفسية للشاعر، وقد ركزنا هنا على القميص الثاني لأن الأول(الثوب) لم يعتمد فيه الشاعر على القرآن الكريم وإنما اعتمد فيه على التوراة كما سيأتي في حينه.
l-2: أما قصة موسىu وهي أكثر القصص في القرآن تكرارا؛ إذ وردت في حوالي ثلاثين موضعا([3]). وما اشترك شعراء المتن ثلاثتُهم في استدعائه منها هو معجزة العصا، وهي كذلك العنصر المهيمن على سائر ما استحضروه من تلك العناصر، أما العناصر الأخرى (مثل: نار الهدى، ومصاحبة الخضرu، وتجلي الله سبحانه وتعالى لنبيه…) فمما يكاد ينفرد به الأمراني. ونورد فيما يلي ثلاثة نماذج مما اشتركوا في استحضاره:
ا- يا مَن يَشُقُّ الْقَلْبَ نِصْفَيْنِ وَيَمْشِي
وَيشُقُّ الْبَحرَ نِصفين وَيَمشي
وَيشُقُّ الوَقتَ نِصفينِ
وَيُخْفِي جُزْأَهُ الثّاني في تُرابِ الْمَوتِ
يَنْبُتُ أُقْحُوَاناً في بَسَاتِينِ الحيَاة
سُجُودُ الأَبدِ إِلى مَنْ شَقَّ الْقَلْبَ
وَشَقَّ البحرَ
وَشقّ الوقتَ
وقال:
يَا عَبدَ اللهِ اهْدِمْ أوثانَ الناس
وصُغ أنشودةَ ثورتكَ العذراء([4])
ب- هُوَ البحرُ يَمتَدُّ في نَخلِ ذَاتِي، وَيَرسُمُ فِيها شَواطئ
لا تَنتهِي، أيْنَ في هَذهِ البِيدِ خَيلي، لَعَلَّ سَنَابِكَهَا تَضْربُ
البحرَ، ثُم تَشُقُّ مَدَارِج هذي المياهِ التي بَلعَتْ جَسَدِي
الْمُتَهالِكَ.كيَف الْخُروجُ إلى الشَّطِّ والماءُ غَطَّى جِبالي([5])
ج- أنا سليلُ الحزنِ
لستُ أحتسي كأسي إلا من خَوابي الحزن
يشق لي الحزنُ طريقا يَبَساً في البحر([6])
ا- في نموذج بنعمارة؛ يَرِد “شق البحر” ضمن عمليات شق أخرى هي شق القلب وشق الوقت. وكلها تمثل ملاحظة الشاعر لهذه الثنائية في الكون، وهي ثنائية ناتجة عن الفعل الإلهي؛ ففي الإنسان روح وجسد وفي الوقت نهار وليل ودنيا وآخرة، وفي القلب جانب أيمن وجانب أيسر، وفيه خير وشر… والطرفان المتقابلان في عملية الشق هذه يَفْضُلُ دائما أحدُهما الآخر؛ فالروح والآخرة والبعث…مع الخير في جانب، والجسد والدنيا مع الشر في جانب آخر. أما الثنائية التي يمكن استخلاصها من عملية شق البحر قياسا على الثنائيات الأخرى فهي: الهلاك/النجاة، وما دام الشاعر قد اختار السجود لله تعالى فإنه سينجو من ذاته الشريرة (الجسد) كما نجا موسىu وأصحابه من فرعون وجنوده: ]فَلما تَرَاءَى الْجَمعانِ قَالَ أصْحابُ مُوسى إِنا لَمُدْرَكُونَ قال كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ ربي سَيَهْدِينِ، فَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّوْدِ العظيمِ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ، وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ[([7]).
ب- يمزج الرباوي في هذا النموذج بين طوفان نوح وعصا موسى عليهما السلام، وغرق فرعون، جاعلا من ذاته مسرحا لهذه الأحداث كلها؛ عصا موسى يقترضها من أجل النجاة من طوفان نوح، وبحر فرعون يستعيره ليقوم بوظيفة الطوفان (يبلع جسده ويغطي جبال ذاته)، واستعار لذاته جبالا على سبيل المشابهة مع الابن الكافر لنوح عليه السلام لما طمع في النجاة باللجوء إلى الجبل: ]قَالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِن أَمْرِ الله إلا مَن رَحِمَ، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغرَقين[([8])؛ ففي أعماق البحر/الرحم تنشأ الرغبة في الولادة، وتتفقد الذات خيلَها وسبل هدايتها في “بيداء البحر” أملا في أن يكون انطلاقها عليها بداية الخروج من الظلمة والنجاء من البحر، فالعثور عليها عثور على قدرات الذات التي تستطيع شق البحر كما شقته قبلُ عصا موسىu وخاصة إذا كانت هذه الذات مشابهة في أحد جوانبها لهذا النبي. فالحاجة إلى هذه المعجزة جاءت كما هو واضح في معترك أحداث شبيهة بالعقاب الذي عاقب به الله تعالى فرعون وابن نوح؛ مما يدل على أن ذات الشاعر فيها شيء من فرعونية فرعون، ومن جهل ابن نوح، لكن فيها أيضا شيء من الهداية يجعلها تطمع في نيل رضا الله تعالى وفي منحها معجزة شق بحر الذات للتخلص من جانبها المظلم والولادة الجديدة على الفطرة.
ج- وتستهوي الأمراني، في هذا النموذج، موضوعة الحزن كمقام من مقامات الصوفية([9])، فيعتبر ذاته في الحال التي هي عليها وليدة الحزن، ووجودها رهين بوجوده. وهذا الحزن هو الذي جعله الأمراني في موضع موسى عليه السلام وعصاه؛ الحزن عنده في مقام النبي من الممكن أن يهدي إلى الصراط المستقيم بأقصر السبل لما فيه من تفكير صاحبه في حاله؛ «قال الدقاق: صاحب الحزن يقطع من طريق الله تعالى في شهر ما لا يقطعه عن فقد حزنه سنين. وفي الخبر أن الله تعالى يحب كل قلب حزين. وفي التوراة: إذا أحب الله عبدا جعل في قلبه نائحة، وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا»([10]). فلهذه الأسباب اختار الأمراني الحزن، أو بالأحرى فإن الحزن هو الذي اختاره وهداه سواء السبيل. فهو إذن حزن مرغوب فيه لأنه يحض على السير الحثيث في طريق الله، وينيل صاحبَه رضاه تعالى. ومن هنا “صح” جعله النبي موسى وعصاه حزنا، يستطيع به المؤمن النجاة من ملاحقة فراعنة العصر. والأمراني؛ وإن لم يذكر بعض عناصر القصة هنا، فإن المذكور منها يحيل عليها؛ فتصير بتعبير “يوري لوتمان Iouri Lotman” صمتا دالا، وهذه التقنية من الأمور الأساس في عملية التناص لأن حذف بعض العناصر من النص المستدعى لا يعني دائما الإلغاء، وعليه فإن الأمراني كأنما قال: [مثلي مثل النبي موسى] يشق لي الحزنُ [بعصاه] طريقا يبسا في البحر[للنجاة من فرعون المعاصر وجنوده]؛ استحضارا للآية الكريمة: ]ولقد أوحينا إلى موسى أنْ أَسْرِ بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يَبَسًا لا تخاف دَرَكًا ولا تخشى[([11]).
يشترك الشعراء ثلاثتهم في استدعاء قصة موسىu سواء بالتلميح كما عند الرباوي، وبنعمارة أو بالاقتباس كما عند الأمراني، ويركزون كما رأينا على معجزة نجاته مع ثلة من المؤمنين بشق البحر بعد أن كاد فرعون وجنوده يدركونهم. ومقصديتهم جميعا هي تأكيدُ ما جاء في هذه القصة والنظرُ إلى ما قام به نظرَ تبجيل، وتقديسُ ذلك باعتباره معجزة إلهية، واعتبار ما يمرون به في هذه المرحلة امتحانا عسيرا مشابها لما عاناه موسىu ومن معه من المؤمنين في سبيل الحفاظ على دين الله. على أن العدو، إن كان هنالك خارجيا؛ فهو هنا لدى شعراء المتن داخلي أكثر مما هو خارجي؛ ونجاتهم التي ينشدونها هي نجاة من النزوات والأهواء، إلى ما يعتبرونه ولادة جديدة في أحضان الفطرة والاطمئنان النفسي. وهكذا يتخذ هؤلاء الشعراء من التناص مرة أخرى وسيلة من وسائل التعبير عن أحاسيسهم ولا يلجأون إليه لمجرد التزيين أو التباهي بثقافتهم. وفي لجوئهم إلى القرآن الكريم، بصفة عامة، وإلى قصصه، بصفة خاصة، ما يضمن فوق ذلك تواصلا أكبر مع الوجدان العربي الإسلامي خاصة في مثل هذه الظروف التي فقدت فيها كثير من المذاهب رونقها وأثبتت بمرور الزمن فشلها في رأب الصدع وإعادة الحياة إلى كيان هذه الأمة.
[1] – تفسير القرآن العظيم؛ 2: 570-575.
[2] – مملكة الروح؛ 35-36.
[3] – التصوير الفني في القرآن؛ 156.
[4] – بنعمارة، “وردة السجود”، السنبلة؛ 23،30.
[5] – الرباوي، “منطق الورد”، أول الغيث؛ 7.
[6] – الأمراني، “مقام الحزن”، مملكة الرماد؛ 75.
[7] – الشعراء؛ 61-66.
[8] – هود؛ 43.
[9] – عنوان القصيدة كما مر :”مقام الحزن”، والحزن؛ قال فيه الكاشاني في الأحوال: «الحزن على السلو عن المحبوب،وعلى فقدان الوجد ولوعة الشوق» – معجم اصطلاحات الصوفية؛ 205-207.
[10] – معجم مصطلحات الصوفية، د. عبد المنعم الحفني؛ 77.
[11] – طه؛ 77.
د. المختار حسني