الثورة القيمية وتحدي الجماهير للنخب السياسية
جريدة الشمال – مصطفى الحراق ( الثورة القيمية )
لقد أدت هذه الثورة حسب أنجل هارت إلى تغيير جوهري ليس فقط في أجندة الموضوعات السياسية التي يدور حولها الجدل السياسي بين الحكومة والمعارضة وفي فترة الانتخابات، ولكن في بلورة اتجاهات جماهرية عريضة، أثرت على أسلوب الحياة في المجتمعات الغربية المتقدمة، ومن هنا ظهرت قائمة بموضوعات جديدة من بينها نوعية الحياة، وحماية البيئة، وظهور تيارات ثقافية تدعو إلى إحياء الدين.
ويقرر بعض الباحثين أن هذا التغير في الاتجاهات والقيم في المجتمعات الغربية، مرده أساسا إلى آثار الثورة العلمية والتكنولوجية، التي مكنت الدول الصناعية المتقدمة من إشباع الحاجاة الأساسية للمواطنين، مما سمح لها أن تولي بصرها تجاه الجوانب المعنوية في الحياة، وأصبح البحث عن المعنى هاجسا أساسيا لجماهير عريضة في هذه المجتمعات، وإذا ما تم الانتقال من الإشباع المادي، إلى مجال الإشباع الروحي، فلا بد أن يؤدي ذلك إلى حركة إحياء دينية، برزت معالمها في العديد من المجتمعات المتقدمة. وهذه الحركة يفسرها بعض علماء الاجتماع من بينهم الأمريكي (دانييل بيل) بأن مرادها يرجع إلى أن الحداثة وصلت إلى منتهاها، أي أنها وصلت إلى نهاية الشوط التاريخي، ولم تحقق السعادة للبشر، بالرغم من شيوع السلع، وتوافرها في مختلف مجتمعات الاستهلاك، وتحث تأثير ثقافة تحض الفرد أساسا على الاستهلاك الدائم، حتى أصبحت غاية في حد ذاته. وقد أدى ذلك إلى شيوع الاغتراب في هذه المجتمعات، مما أدى في النهاية عودة (المقدس) إلى الحياة مرة أخرى.
وإذا كانت المجتمعات الصناعية المتقدمة قد انتقلت من مرحلة القيم المادية، إلى مرحلة القيم ما بعد المادية، إلا أنها في مجتمعات العالم الاشتراكي ومجتمعات دول العالم الثالث رغم أنها تمر بنفس المرحلة، فقد تبين في هذه المجتمعات أن مقايضة الديمقراطية بإشباع الحياة الأساسية المادية، أدى في التحليل الأخير إلى الفشل في إشباع هذه الحاجات، في ظل القهر المعمم والحرمان من الديمقراطية في المجتمعات الاشتراكية، حيث أصبح الحصول على المواد الأساسية يمثل مطلبا بالغ الصعوبة لجماهير عريضة، وتشوب أوضاع مماثلة في مجتمعات العالم الثالث، نتيجة لتدبدب السياسات الاقتصادية، وجمود التخطيط المركزي، ومحاولة قهر الطبيعة الإنسانية، والقضاء على الحافز الفردي، والاعتماد على الدولة في كل شيئ لسد الحاجات الأساسية، مما أدى إلى نقص الإنتاجية، وتكاثر الديون الخارجية، والتضخم والانخفاض المستمر لمستوى المعيشة.
وهكذا فالتحول الثقافي الذي لحق المجتمعات الصناعية المتقدمة لحق أيضا مجتمعات العالم الثالث، وكذا المجتمعات الاشتراكية، حيث يمكن القول أن هناك بوادر لخلق وعي كوني ، وقد أصبحت مكوناته لا تفصل بين القيم المادية والقيم المعنوية، ولا تعزل المادة عن الروح، ولا ترى تناقضا بين العلمانية و الدين…