بين تصريحات وتصريحات مضادة لقادة الحرب، سياسيين أو عسكريين، بين أخبار و أخبار مضادة لإعلام الحرب، بين اصطفاف مع هذا أو ذاك من طرفي الحرب، بين وبين… يجري على الأرض قتال ضروس و قصف و قصف مضاد، تقدم و انسحاب و استعادة و اجتياح…، بين و بين… تخلف الحرب بأهوالها مآسي و جراح و أحزان، هدم أوطان، تشريد عائلات، سلب حيوات، وتحطيم آمال…، بين وبين.. تحيي الحرب بعماها كل نوازع الشر من حقد و ضغينة و انتقام…
من كرسيه الوثير يشاهد أحداث الحرب أو يتابع مستجداتها على هاتفه أو حاسوبه المحمول…، يرى و لا يرى، يسمع و لا يسمع… فرق شاسع بين أن يكون الإنسان جزءا من الحدث أو تحت تأثيره المباشر في الواقع و شاهدا عليه و أن يكون مشاهدا أو متابعا له من بعيد، فقد يتعاطف، قد يتذمر، قد يحلل، قد ينتقد…لكن لا يعرف الحرب حقيقة إلا من عاشها، رأى شظاياها، سمع زلزلاتها و استنشق دخانها…الحرب ليست نزهة، كل من يدخل إلى مستنقعها يتلوث، يفقد شيئا من إنسانيته بشكل أو آخر، يخسر…
من التاريخ وترسباته تهب علينا بقايا الحروب وقصصها المأساوية سواء كانت حروبا قبلية، أم عرقية أم أهلية، أم دينية، أم استعمارية، أم امبريالية…: داحس والغبراء، البسوس، الحروب الصليبية، الحرب العالمية الأولى والثانية، حرب البوسنة والهرسك، الحرب العراقية-الإيراينة، الحرب الأهلية اللبنانية و الحرب الأهلية الرواندية، حرب الخليج الأولى و الثانية، حرب أفغانستان، الحرب السورية، حرب اليمن، الحرب الليبية، الحرب الروسية-الأوكرانية…الحروب مهما كان زمنها ومهما كانت طبيعتها و أسبابها و مدتها…، فإنها تبقى حروبا من حديد ونار ودموع، لكن شتان بين المعتدي والمعتدى عليه، بين المدافع عن الحق وسالبه، بين المتغطرس و الضحية…، و إن كانت أتون الحروب وحماها تنأى بالبشر عن الأخلاق و الضمير و القيم في غالب الأحيان. هيهات؟ !.
“إذا أردت السلام استعد للحرب/Si vis pacem, para bellum” هذه العبارة اللاتينية سرت لقرون و ماتزال سارية في العقل الاستراتيجي المتحكم في الدول، ولعل السباق النووي أو توازن الرعب هو أحد التمظهرات الجنونية لهذا العقل في عصرنا، إذ لم تفلح عبر(بكسر العين وفتح الباء) التاريخ و ملايين الضحايا و هول الخسارات في إحداث رجة سلمية في العقل البشري، بل هناك من يعتقد أن الإنسان لا يمكنه أن يستمر دون حرب، وما يمكن فعله مع هذا القدر البشري هو، فقط، التحصن بالمواثيق و القوانين و فرض العقوبات و توسيع إمكانيات العمل الإنساني لتضميد الجراح…
بعد الحرب العالمية الثانية التي تعدى ضحاياها أربعين مليونا أو خمسين تجند العالم، الذي انقسم رابحوه إلى معسكر شرقي و معسكر غربي، من أجل اختراع هيئة أممية للردع و التحكيم و ضمان السلم العالمي، هذه الهيئة و إن عمرت طويلا و قامت بالعديد من الأدوار، فإنها لم تستطع الحد من غطرسة الكبار و الحماية الكاملة للصغار، و لم تتمكن كذلك من تحقيق التوازن الأمثل بين الكبار في السباق المحموم، الظاهر والخفي، على استمرار الهيمنة بجميع أشكالها و خاصة الاقتصادية و المالية…
قبل سنة كنا نتحارب بشراسة مع وباء كوفيد 19 الذي خيم تهديده (بالموت) على العالم، و منذ بداية العقد الأخير و التحذيرات من عواقب الاحتباس الحراري على استمرار الحياة تتصاعد، بل إن أصوات تتعالى و لا تخفت ضد استعمال الطاقة النووية لأهداف سلمية في الغرب كما الشرق ذلك لأن هذا الاستعمال قد تنتج عنه كوارث قاتلة في حالات معينة (كشيرنوبيل و فوكوشيما)، إلا أن مصدر الغرابة و الاستغراب هو استمرار العديد من الدول و على رأسها الكبرى (خاصة الدائمة العضوية في مجلس الأمن)، و كأنها تسبح ضد تيار الإنسانية، في الاستثمار، المادي و اللامادي، في السلاح النووي الذي له قدرة أكبر على القضاء على كل أشكال الحياة في حالة استعمالاته القصوى؛ و ما يتم التلويح به حاليا في صراع القوى العظمى الدائر حول الحرب الروسية-الأوكرانية أو حرب الإخوة (أوكرانيا، كما يعرف الجميع، كانت إلى عهد قريب جزءا لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي قبل تفكيكه) لا يبشر بخير بل يضع على الإنسانية و كل القادة و الحكماء و المؤثرين عبر العالم مسؤولية عظمى للنضال و العمل من أجل الدفع، باستعجال، بإعادة صياغة العلاقات الدولية و فق مبادئ واضحة، قوية و عادلة، رادعة و ضامنة للتوازنات و السلام، وبالتالي التقنين الصارم بل منع كل أشكال التسلح التي تهدد الحياة على الأرض، هذه الحياة التي تعتبر هبة إلاهية و لا حق لأحد العبث بها أو التهديد بنسفها لسبب أو آخر يتعلق بمصلحة دولة أو مجموعة من الدول… فهل من المثالية أن نطمح إلى انبثاق ضمير إنساني جديد في عصر الثورة الرقمية و الذكاء الاصطناعي وكل التقدم العقلي والعلمي… وبعد كل الخبرة الروحية التي اكتسبتها البشرية على امتداد قرون من الزمن…؟؟؟.
إن التوتر “النووي” الذي يهز العالم و الذي بلغ أشده في الأسابيع الأخيرة، لا يشكل مصدر تهديد مباشر للدولتين المتحاربتين و الدول المجاورة لها و عامل قلق متزايد للبشرية جمعاء فقط، بل إنه يضعف الثقة في المستقبل و في الأدوار التي يمكن أن تلعبها الدول الكبرى في الحفاظ على السلم العالمي، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه الانفراج و استعادة الأنفاس بعد أكثر من سنتين من الوباء، تشتد الأزمة و انعكاساتها السلبية الممتدة على حياة معظم الناس، و من المفارقات أن من كانوا يسارعون إلى البحث عن الدواء ضد الوباء هم من يسارعون إلى التصعيد ضد بعضهم البعض و كأننا أمام مشهد حربائي لا نعرف فيه تمييز الخير من الشر، والحرب ،كما يقول الحكماء، ليست نزهة؟؟؟.
عبد الحي مفتاح