قال أبو علي الروذباري (ت 322هـ) رحمه الله: “الصوفي من لبس الصوف على الصفا، وأطعم الهوى ذوق الجفا، وكانت الدنيا منه القفا، وسلك منهاج المصطفى”. فالتصوف هجر وبعاد، وهو قرب وتوحد، وبينهما علاقة جدلية تجعل من تحقق الحالة الثانية رهين بالمرور عبر الحالة الأولى، ينتقل الصوفي من الدنيا إلى حضرة الأعلى باحثا عن الخلاص، ساعيا إلى تحقيق الطهر الباطني، فتتلبس به حالة من الحالات العظيمة يصفها وليس هو بواصف، يعبر عنها وليس هو بمعبر، وهو في ذلك يتقيد بأركان تخضع تجربته الروحية لإشراط الظرفية الاجتماعية والسياسية، وتتحكم في طبيعة الوظائف الملقاة على عاتقه في علاقته بالنسق المحيط به.
وقد لعب الخطاب الصوفي دورا حاسما في تنشيط وتمتين الحركة الاجتماعية بالغرب الإسلامي، كما أن الواقع القبلي السائد والمتضافر مع عوامل الضعف والوهن الذي كثيرا ما كان يعتري السلطة المركزية، خلق الأجواء الملائمة لعمل المتصوف على صعيد العمل الاجتماعي والديني والسياسي.
توجهات الخطاب الصوفي: التوحيد الديني
إن أساس التصوف يستند إلى الرباط، وبغض النظر عن كثرة التفسيرات التي تحمله مضامين تعبدية أو جهادية، فالأكيد أنه: “عبارة عن الموضع الذي تلتزم فيه العبادة”، كما ذهب إلى ذلك كثير من المتصوفة الذين خصصوا حيزا كبيرا في كتبهم للرباط، وأفردوا المرابط بشروط وآداب عديدة. والرباط هنا أساس ينضاف إليه مفهوم الزاوية كأساس ثاني، وبغض النظر عن التداخلات التي طالت المفهومين معا، سواء على مستوى التعريف أو الممارسة الواقعية، فالثابت أنهما شكلا معا وجهان لعملة واحدة بتوفير العامل الأساسي لتجميع المريدين حول وحدة الطريقة، كزاوية الحجاج بمكناس، وزاوية النساك بسلا. وبذلك استطاعت الزوايا خلق المناخ الملائم للترغيب عن الدنيا والترغيب في الآخرة بالدعوة إلى القيام بحق الله، ونشر دينه، والتوبة إليه، من الاهتمام بالدنيا والتفريط في حقه، ومن ذلك ما ذهب إليه ابن الخطيب بالأندلس وكذا ابن زمرك.
غير أن ما تجدر الإشارة إليه أن دور الزوايا في تحقيق الوحدة الدينية ظل محكوما بالاعتبارات العصبية والقبلية، حيث كان المجال الجغرافي لانتشار تأثير الزاوية وأفكارها يتطابق إلى حد كبير مع امتداد القبلية ونفوذها؛ حيث تحكمت في ظاهرة التصوف جغرافية العرقين المصمودي والصنهاجي حسب ما ذهب إلى ذلك معظم الباحثين، وهذا المعطى لم يخلق الاختلاف على مستوى الممارسة التعبدية فحسب، بقدر ما كانت له نتائج ذات أبعاد اجتماعية وسياسية كذلك.
التوحيد الاجتماعي: ظل دور الصوفي، في البادية خصوصا، نابعا من حاجات المجتمع اليدوي القائمة، كالتدخل لفض النزاع حول الماء والأرض، والقيام بالاستسقاء أيام الجفاف، والتحكيم بين المتنازعين في القبيلة، والتدخل لدى السلطة لرفع مظلمة ودفع مغرم على فرد أو جماعة. أما في المدن الكبرى، حيث تضمحل النعرات القبلية، وتتكون كيانات تربط بينها المصالح المادية في المقام الأول، في إطار كيان عام في مجال موحد، فإن دور الصوفي كان عظيما ومتكيفا مع الحاجات المستجدة. فتوارد السكان على المدينة من جهات شتى، وقد يكون بعضهم من دون سند مادي ولا عائلي، جعل بعض الصوفية في خدمة الغريب المريض والسعي في أمره. كما كان بعضهم يسعى في تفريق الصدقة على الفقير والمسكين، وإطعام الطعام، وتزويج الأعزب. ووجود القاضي والمحتسب والشرطي في المدينة لم يمنع الصوفي من القيام بدوره أحيانا كثيرة؛ فكان يتدخل ليعيد للمظلوم حقه من خصمه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكانت الزاوية والرباط ملجأ المستضعفين وأبناء السبيل، كما حدد ذلك مؤرخو العصر المريني وأدباؤه. ولذلك بني الكثير منها بالمدن لاستقبال الوافدين بعد أن تكون المدينة قد أغلقت أبوابها، وكان بعضهم يلجأ إلى السلطات إذا تجاوز الأمر ما يمكن فظه بسهولة، مثل اللجائي والرجراجي والصنهاجي. على أن بعضهم كان يمتنع عن لقاء السلطات ويكتفي بنصحه، وكان يعتمد على بركته عندما تكون النازلة فوق البشر كالأمراض المستعصية.
التوحيد السياسي:
كان للمتصوفة دور مهم وأساسي في تحقيق شروط التوحيد السياسي، وقد علت منزلتهم وتأثيرهم في العصر المريني، إذ أدركت الدولة أهميتهم السياسية والاجتماعية والدينية، وأدخلتهم ضمن بنياتها السياسية، فكان مستشارو السلطات يتكونون من مشايخ القبائل والفقهاء والمتصوفة، وأقطعتهم الإقطاعات ليتوارثوها خلفا عن سلف، وأعفتهم من المغارم، وعينت مرتبات جارية لهم، وأصدرت ظهائر تتعلق بذلك، وجعلتهم من بين الوفود الرسمية الذاهبة إلى الحجاز، بل أسندت لهم قيادة الركب. وكان من الوزراء المرينيين من ينتمي إلى إحدى الطوائف الصوفية، فعامر بن فتح كان له انتماء إلى كبار من الأولياء، كسيدي أبي زيد الهزميري، وأبي عبد الله بن تجلات.
وكان أبو الحسن يخصص أيام الاثنين والخميس والأربعاء لزيارة الصلحاء إن كانوا أحياء، وزيارة قبورهم إن كانوا أمواتا، سواء كانوا في الشمال أم في الجنوب. وقد نال الصوفية هذا المركز لما كانوا يقومون به من وسائط بين الرعية والسلطات، حيث كانوا يسدون النصح ويبلغون السلطات بحالة الرعية، ويعتنون بها ليكثر العلم والعدل، وتحبيب السلطات إليها من جهة أخرى ليبذل الناس جهدهم بأيديهم وألسنتهم وقلوبهم. كما كانوا يقومون بوساطات بين السلطة المركزية وبعض عمالها لإصلاح ذات بينهم، فقد توسط ابن مخوخ للصلح بين الأمير أبي يوسف يعقوب المريني وبين طلحة بن محلي، فجنح الأمير للصلح على شروط.
توظيفات الخطاب الصوفي:
خضع توظيف الخطاب الصوفي للظروف العامة التي كان يعيشها المغرب خلال هذه الفترة، سواء فيما يتعلق بحالة المد والجزر التي ظلت تعرفها السلطة المركزية، أو فيما يتعلق بطبيعة المجموعات القبلية المستقرة التي كانت تعيش حياة اللاأمن، سواء مع بعضها أو مع السلطة أو مع الطبيعة السائدة.
التوظيف السياسي: كان هم الدولة في الغالب فرض المغارم والمكوس وبعث البعوث (التجنيد الإجباري) للحرب أو الجهاد، وكان المتصوفة يستغلون كراماتهم وخوارقهم في مسائل تتعلق بالحكم، فإذا ما حاول عامل أن يثير الفتن بين القبائل، يدعو عليه فيغرب ويسجن، وقد يقصد عامل أحد الأفراد لقتله أو صلبه، فيتحرم المقصود بالشيخ فيدعو على العامل فيموت بمرض طارئ. وكثيرا ما كانت القبيلة تأتي سيدها لتشكو جور العامل له، فيغضب ويدعو عليه وحده أو مع قبيلته فيستجيب الله دعاءه. وأمام هذا، صار العمال يرهبون المتصوف ويلبون رغباته، فتعددت مشاغله؛ فكان يشفع للناس إنقاذا لهم من القتل، ويتدخل للإعفاء من البعوث.
التوظيف الرحلي: كان المغرب يعيش جوا من انعدام الأمن والاستقرار، حيث ظلت العلاقات فيما بين القبائل خاضعة للتوتر المستمر، خاصة وأن القبائل الرحل كانت تعيش على الإغارة والسلب، وبما أن الطرق كانت غير آمنة نتيجة انتشار اللصوص والحروب المستمرة، ولا غرابة في هذه الحال أن يظهر الصوفي قاهرا لهذه الصعاب كلها، بل ومتغلبا عليها بأنجع الوسائل. وهكذا نجد بعضهم فيما تروي الكرامات يمشي على قوس قزح، أو تأتيه دابة تشبه الجمل، فيركب عليها ولا يدرى أين تذهب به، أو يمشي في الهواء، أو يطير في هيئة الغرانيق. كما أن بعضهم كان يمشي في البحر على الماء ولا يمس الماء من القدم إلا باطنه. وباعتبار وسيلة السفر الغريبة التي تصور في شكل دابة تشبه الجمل، أو دابة بيضاء كأنها ناقة صارت تطوي لهم الأرض، فيصل المسافر منهم من أغمات إلى مكة في يومين، وقد يصلي العشاء بجامع تاسماطت (قرب مراكش) ويبيت بمكة، أو يضع رجلا بالمغرب ورجله الأخرى بمكة.
التوظيف النفسي: لقد كان المجتمع المغربي يعجز عن مجابهة الأمراض التي تهدده وخاصة في البادية، فكان حتما والحالة هذه أن يتوجه المريض إلى من له كرامات وخوارق ليستشفوا به. وتقدم لنا كتب سير الصالحين صور الكثير من هذا النوع، فكان الصوفي يبرئ أحيانا كثيرا من الأمراض المتنوعة، فكان يداوي البرص بريقه، ويشفي من داء الصرع، ويرد البصر لفاقده، وإذا كان ميتا يستشفى بقبره فيحصل الشفاء… وأما إذا كان مجمعهم العام شمالي إقليم دكالة على ساحل المحيط الأطلسي، فإن أصحاب العلل المزمنة كالمقعدين يأتون من كل مكان ليشاركوهم حلقات الذكر، ويلتمسون الشفاء مما هم فيه، فكان الصوفية يبذلون كل سعي لجعلهم أصحاء معافين.
دة: نبيلة كامل