يعتبر الأستاذ محمد الشريف واحدا من بين أبرز المؤرخين المغاربة المتخصصين في تحولات تاريخ بلاد الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط. فعلى امتداد العقود الزمنية الثلاثة الماضية، بادر الأستاذ الشريف بتحقيق تراكم علمي غزير في مجال تخصصه، تعزز بإسهاماته المتميزة في تطوير درس التاريخ بالجامعة المغربية من موقعه كأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وبانخراطه في الجهد الأكاديمي المرتبط بالبحث في تاريخ المغرب والأندلس، وهو الجهد الذي أثمر صدور سلسلة من الأعمال المرجعية المؤسسة، سواء على مستوى تحقيق المتون الدفينة، أم على مستوى توسيع آفاق البحث المونوغرافي المجهري، أم على مستوى الانفتاح على عوالم الترجمة، أم على مستوى إنجاز دراسات قطاعية رصينة مرتبطة بمجال تخصصه. لكل ذلك، أضحى الأستاذ محمد الشريف مرجعا لا يمكن تجاوزه في كل جهود دراسة تاريخ الغرب الإسلامي، بضفافه المتوسطية الأوربية والإفريقية، بدون العودة المسترسلة لاستثمار النتائج الكبرى لأعمال الأستاذ الشريف، باحثا ومنقبا ومحققا ومترجما ومؤطرا. ويكفي أن نستدل –في هذا الباب- بحصيلة أعماله الأكاديمية حول تاريخ مدينة سبتة المحتلة، ليس –فقط- على مستوى التطورات السياسية للعصر الوسيط، ولكن –أساسا- على مستوى التطورات “الطويلة المدى” التي أضحت مثار اهتمام مدارس التاريخ الراهن، مثل قضايا التراث الرمزي والصوفي، وقضايا الهامش، وتحولات البنى الاقتصادية والاجتماعية،…
واعتبارا لأهمية هذا الوضع الاعتباري المتميز، أصدرت كل من جمعية تطاون أسمير والجمعية المغربية للدراسات الأندلسية، عملا ضخما في تكريم الأستاذ محمد الشريف، اختارت له عنوان “المغرب والأندلس في العصر الوسيط وبداية العصر الحديث”، وذلك سنة 2021، باللغتين العربية والإسبانية، في ما مجموعه 476 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول، إن صدور هذا العمل بحلته الأكاديمية الرفيعة، وبمساهمة باحثين من المغرب ومن خارجه، يشكل أسمى التفاتة في حق باحث أعطى الشيء الكثير لمجال الدراسات المغربية الأندلسية، ولازال يتابع مساره بالكثير من عناصر الثبات والجرأة والصبر المنتج والخلاق. ولقد أجملت الكلمة التقديمية التي وضعها منسقا مضامين الكتاب الأستاذان جعفر ابن الحاج السلمي ومحمد رضى بودشار، الإطار العام لصدور الكتاب الاحتفائي بتجربة الأستاذ محمد الشريف، عندما قالت: “لقد شارك في هذا الكتاب الجماعي استجابة لدعوتنا باحثون مقتدرون مرموقون بإخلاصهم لهذه الدراسات من كل من المغرب والجزائر والعراق وإسبانية، بعضهم من الشيوخ، وبعضهم من الشبان، وفي كل خير. وقد تنوعت فيه الدراسات تنوعا كبيرا من التاريخ السياسي إلى التاريخ الذهني، وجمع بينها جميعا هذا الارتباط العلمي المنهجي بتاريخ الغرب الإسلامي. وكل هذا أعطى للكتاب طابعا شموليا ومكن الباحثين من مشارب متنوعة من أن يغنوه بجهدهم وتعبهم وخبرتهم إغناءً يجعله محط الاعتبار والتقدير العلمي…” (ص. 10).
في هذا الإطار، افتتح امحمد بن عبود مضامين الكتاب بدراسة حول منهجية ابن بسام الشنتريني التاريخية، وساهم جعفر ابن الحاج السلمي بدراسة حول مفهوم النقابة بين التوجه الشرعي والصيرورة التاريخية في المغرب الأقصى. واهتم رشيد الحور بقضايا التصوف والصدقة في الغرب الإسلامي من خلال “تحفة المغترب” للقشتالي باعتباره مصدرا مناقبيا من فترة بني الأحمر خلال القرن 14م. وعاد محمد البركة لرصد تفاعلات إعمال شهادة الضعف أو الفقر خلال العصر الوسيط استنادا إلى وثيقة العُدم بالأندلس ودواعي القول بالإصلاح. وتناول سعيد بنحمادة قضايا الأخلاق والتحول المجتمعي بالغرب الإسلامي من خلال تقديم تركيب مصدري لإشكالية القيم في العصر الوسيط. ومن جهته، اختار عبد القادر بوباية التوثيق لسيرة الأستاذ محمد الشريف في مجال تحقيق المخطوطات، من خلال نموذج كتاب “المستفاد في مناقب العباد”. وعاد إبراهيم القادري بوتشيش لدائرة الجدل حول النص التاريخي في كتب الآداب السلطانية من خلال كتاب “الشهب اللامعة” لابن رضوان المالقي الأندلسي. واهتم محمد رضى بودشار بموضوع الولاية الصوفية خلال القرن السادس الهجري، وتناول عبد الهادي البياض سياقات ترسيم المذهب المالكي بالغرب الإسلامي من خلال كتب التراجم والطبقات في منتصف القرن الهجري الثاني إلى منتصف القرن السادس الهجري. وفي سياق آخر، ساهم حميد حداد بدراسة حول تبادل المصالح الاقتصادية والاجتماعية بين مكونات مجتمع الغرب الإسلامي من خلال كتب النوازل. وتوقف عبد السلام الجعماطي عند بعض مضمرات “السر المصون فيما أُكرم به المُخلصون” لطاهر الصدفي. واهتم بلال الداهية بموضوع علاقة الدولة العثمانية بتوطين الجاليات الأندلسية في شرق المتوسط والأناضول ومصر والشام. وقدم أحمد السعيدي قراءة نقدية في تجارب تحقيق “أجوبة ابن ورد”. وعاد حسن السمان للنبش في السيرة الذهنية لابن عربي بين “سر الدهر الأول” وعلوم “مداوي الكلوم”. أما مصطفى شقروف، فاهتم بموضوع موقع طنجة من خلال المصادر العربية الوسيطية. واهتم محمد العمراني بإشكالية توظيف مصطلح الثورة ومرجعية تفسيره في زمن المرابطين والموحدين بالمغرب الأقصى والأندلس. وتوقف هشام المتوكل لرصد تطور مفهوم الدولة في العصر الوسيط. وتتبع رشيد مصطفى علاقة آل الجنوي بتاريخ تطاون المبكر من خلال نص في “تحفة الإخوان” للمرابي. وأثار خالد مراحة إشكالات مدينة سبتة بين ضيق الجغرافيا ورحابة التاريخ، في حين توقف مصطفى نشاط عند واقع مركز غساسة في العصر المريني، واهتمت أحلام حسن النقيب باستثمار المراسلات والمعاهدات والاتفاقيات بين مملكة غرناطة الإسلامية ومملكتي أراغون وقشتالة النصرانيتين خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1296 و1492م. وإلى جانب كل هذه المواد العلمية، احتوى الكتاب كذلك على مادة توثيقية للسيرة الذاتية العلمية للأستاذ محمد الشريف، إلى جانب دراسات إسبانية مرتبطة بتاريخ الغرب الإسلامي الوسيط لكل من خافيير ألباران، وفيرجيليو مارتينيث، وكريكوري لازاريف، وسانتياغو بلاسيوس أونتالفا.
وبهذه المواد الثرية والمتنوعة، استطاع الكتاب تقديم نموذجا احتفائيا راقيا بسيرة علمية مثيرة، هادئة ومنتجة، صارمة ومنفتحة، أصيلة ومجددة، لا شك وأنها تجعل من السيرة العلمية للأستاذ محمد الشريف تعبيرا عن سمو عناصر النبوغ والتميز داخل عطاء الدرس الجامعي المغربي لمرحلة العصر الوسيط بالضفاف الغربية للبحر الأبيض المتوسط.
أسامة الزكاري