السيرة النبوية: دروس وعبر -2 –
الجمعة 21 أكتوبر 2016 – 17:10:31
لقد هيأ الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الحفظ والرعاية ما جعله جديرًا بتلقي الرسالة الخاتمة لهداية البشر. فقد حفظه صغيرًا بداية من إرضاعه واصطفائه من أوسط النسب وأشرفه، وولادته من نكاح صحيح وليس من سفاح باطل. وبعد وفاة والده يسر له كفالة جده عبد المطلب ثم كفالة عمه أبي طالب بعد وفاة جده، وفـي ذلك ما فيه من المنعة والمنعة والتربية الصالحة.
ثم حفظه سبحانه وتعالى شابًا من أن يقع فيما يقع فيه الشباب من الفحش والخنا، وحفظ قلبه فلم يعبد إلهًا غير الله عز وجل، ولم يسجد لصنم، ولم يتمسح بوثن، ولم يحلف بغير الله. واشتهر بينهم بحسن المعاملة، والوفاء بالوعد، واستقامة السيرة، وحسن السمعة، مما رغب خديجة في أن تعرض عليه الاتجار بمالها في القافلة التي تذهب إلى مدينة (بصرى) كل عام على أن تعطيه ضعف ما تعطي رجلا من قومها، فلما عاد إلى مكة وأخبرها غلامها ميسرة بما كان من أمانته وإخلاصه، ورأت الربح الكثير في تلك الرحلة، أضعفت له من الأجر ضعف ما كانت أسمت له، ثم حملها ذلك على أن ترغب في الزواج منه، فقبل أن يتزوجها وهو أصغر منها بخمسة عشر عاما، وأفضل شهادة له بحسن خلقه قبل النبوة قول خديجة له بعد أن جاءه الوحي في غار حراء وعاد مرتعدا:” كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”. وقد سافر صلى الله عليه وسلم مرتين خارج مكة، أولاهما مع عمه أبي طالب حين كان عمره اثنتي عشرة سنة، وثانيتهما حين كان عمره خمسا وعشرين سنة، متاجرا لخديجة بمالها، وكانت كلتا الرحلتين إلى مدينة (بصرى) في الشام، وفي كلتيهما كان يسمع من التجار أحاديثهم، ويشاهد آثار البلاد التي مر بها، والعادات التي كان عليها سكانها.
وكان صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بسنوات يخرج إلى غار حراء – وهو جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من مكة، على قرب منها- يخلو فيه لنفسه مقدار شهر يفكر في آلاء الله، وعظيم قدرته، واستمر على ذلك حتى جاءه الوحي، ونزل عليه القرآن الكريم. وقد بشر به الأنبياء والرسل قبله بسنين، فبشر به عيسى عليه السلام كما ورد في القرآن الكريم: ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (. كما وردت في الإنجيل عبارات مصرحة باسم النبي صلى الله عليه وسلم، مبشرة بقدومه ومبعثه، منها: (أجاب التلاميذ: يا معلم! مَن عسى أن يكون ذلك الرجل الذي تتكلم عنه، الذي سيأتي إلى العالم، أجاب يسوع بابتهاجِ قلبٍ: إنه محمد رسول الله).
وفي التوراة كان الإخبار والتبشير بنبوته صلى الله عليه وسلم، ولكن يد التحريف طالتها، قال الله عز وجل: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). قال ابن تيمية (والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم). هذا عدا ما كانت تحدث به يهود، ورهبان النصارى، والعرب وكثير من الأمم بأن نبيًا قد اقترب زمانه وآن أوانه. والبشارات ببعثته وصدق نبوته صلى الله عليه وسلم كثيرة، يضيق المقام عن حصرها.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة شهد بنيان الكعبة، وتراضت قريش بحكمه فيها ، وكانوا قد اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود مكانه فاتفقوا على أن يحكم بينهم أول داخل يدخل المسجد، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين ، فقال: هلموا ثوباً ، فوضع الحجر فيه وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من نواحيه وارفعوه جميعاً ، ثم أخذ الحجر بيده فوضعه في مكانه. وقبل أن نتحدث عن مبعثه صلى الله عليه وسلم وابتداء نزول الوحي عليه لابأس أن نستحضر بعض أوصافه وسماته، فقد كان صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير ، ولا بالأبيض الشديد البياض، ولا بالأسمر ، أزهر اللون (أبيض مشرق) ، مشرباً بحمرة في بياض ساطع ، كأن وجهه كالقمر حسناً ، ضخم الكراديس (المفاصل) ، أوطف الأشفار (طول شعر الجفنين) ، أدعج العينين (شديد سوادها وبياضها مع اتساعها) ، في بياضهما عروق حمر رقاق ، حسن الثغر ، واسع الفم ، حسن الأنف ، إذا مشى كأنه يتكفأ (يندفع إلى الأمام) ، إذا التفت التفت بجميعه، كثير النظر إلى الأرض ، ضخم اليدين لينهما، قليل لحم العقبين، كث اللحية واسعها، أسود الشعر، ليس لرجليه أخمص (باطن القدم)، إذا طوّل شعره فإلى شحمة أذنيه (أسفلها)، وإذا قصّره فإلى أنصاف أذنيه، لم يبلغ شيب رأسه ولحيته عشرين شيبه وكان على نُغض (العظم الرقيق) كتفه الأيسر خاتم النبوة كأنه بيضة حمام، لونه لون جسده، عليه خيلان (جمع خال وهي الشامة)، ومن فوقه شعرات .
لقد حبّب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتعبّد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، حتى نزل عليه الوحي، فجاءه الملك جبريل عليه السلام فقال له: اقرأ، قال ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني – أي ضمّني ضماً شديداً – حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطّني الثالثة، ثم أرسلني فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ،عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زمّلوني زمّلوني – أي ضعوا عليّ غطاءً – ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية، مطلعا على الكتب السماوية السابقة، فقالت له خديجة: يا ابن العم اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة: هذا النّاموس الذي نزّل الله على موسى – يعني جبريل عليه السلام-، يا ليتني فيها جذعٌ – أي شاب -، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب – يلبث – ورقة أن توفي، وفتر الوحي – أي انقطع فترة ..
يتبع