من المكتبة الشعرية المغربية المعاصرة :
الشعر المغربي وجذور الشعر العربي المعاصر
بقلم : عبدالجبار العلمي
يُمكن اعتبار الدواوين المغربية التالية : “ براعم ” لعبدالمجيد بن جلون وديوان ” مصطفى المعداوي ” وديوان ” الحرية ” لعبدالكريم بنثابت ، ممثلة لمرحلة التأسيس والتمهيد للقصيدة المغربية المعاصرة ، لاسيما فيما يتصل بالبنية الإيقاعية ، حيث يلاحِظُ الذي يرجع إلى هذه الدواوين ، أن أصحابها كانوا يبحثون عن أشكال شعرية جديدة ، فكتبوا بالإضافة إلى الشكل العمودي في عدة أشكال ضمن الشعر المقطوعي: 1 ـ شكل المربع 2 ـ شكل المخمس 4 ـ شكل المقطوعة بالإضافة إلى شكل الموشح ألذي خرج المغاربة فيه عن القواعد التي أرساها ابن سناء الملك في كتابه ” دار الطراز ” كما يرى الدكتور عباس الجراري في مصنفه الفريد ” موشحات مغربية ” ، ثم يلاحظ الدارس كذلك عدة مظاهر للتحرر من بعض قيود القصيدة العمودية ، مثل تنويع الأضرب في قصيدة واحدة كما نجد ذلك عند الشاعر عبدالمجيد بن جلون في قصيدة ” صلوا للسلام ” على سبيل المثال ، حيث يستخدم ضربين : الأول صحيح
( مُتَفاعِلُنْ ) والثاني مذال ( مُتَفَاعِلانْ ) .. وقد أثبت د. محمد علي الرباوي في أطروحته الجامعية القيمة ” العروض / دراسة في الإنجاز ” أن الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة في شعرنا العربي المعاصر ، كانت لها جذور في تراثنا الشعري ، ومن أهم تلك الجذور الموشحات .يقول : ” وفي دراستنا القصيدة الحرة ، تبين لنا أن جذورها هي القصيدة والموشح وشعر الإحيائيين والرومانسيين ، ثم القصيدة الغربية ” ، ( ص : 518 من الأطروحة المرقونة ، ومن المنتظر أن تصدر في كتاب مطبوع في مستقبل قريب ). فما الذي يمنع أن نستفيد من الغِنى الذي يتوفر في موسيقى الشعر العربي : استخدام الأوزان المختلفة في نص واحد، كل مقطع على تفعيلة معينة حسب الإيقاع النفسي والتدفق الشعوري للذات الشاعرة ـ عدم الاقتصار على الأوزان الصافية كما دعتها نازك الملائكة ـ بل الإفادة من كل الأوزان الشعرية المركبة( المختلفة التفاعيل ) الأوزان المجزوءة ـ عدم التقيد بالأضرب الموحدة سواء في القصيدة أو في قصيدة الشعر الحر ـ استخدام شكل قصيدة النثر باعتباره أحد الأشكال الشعرية ـ المزج في قصيدة واحدة بين الأبيات موزونة وأخرى منثورة ـ استعمال القافية أو تركها حسب السياق والمناسبة الجمالية . نحن نسعى إلى إغناء القصيدة وليس إلى إفقارها لغوياً وموسيقياً .
ومن الدواوين المغربية التي تميزت باستخدام أشكال متنوعة بشكل بارز ديوان ” براعم ” لعبدالمجيد بن جلون ، مما يدعو إلى القول إن الشاعر كان بصنيعه هذا يبحث عن أشكال شعرية جديدة ، وأنه و بعض الشعراء المغاربة ممن ذكرنا بعضهم أعلاه، كانوا يطمحون إلى تجديد القصيدة العربية في المغرب سواء من حيث البناء أو الدلالة . ويمكن اعتبار هذه التجارب بمثابة التمهيد لظهور القصيدة المعاصرة أو الشعر الجديد، بالإضافة إلى العوامل الخارجية المتمثلة في المنجز الشعري المعاصر في المشرق العربي : في العراق ومصر وسوريا ولبنان، الذي كان المغاربة يتابعون تطوره وظواهره الجديدة بدأب واهتمام.
ومن الجدير بالذكر هنا بخصوص ديوان “براعم “هذا الديوان الرومانسي الذي تزدان به المكتبة الشعرية المغربية اليوم ، ويُعتبر خطوةً جادة في مرحلة التأسيس للقصيدة المعاصرة في المغرب ، أن صاحبه كان على وشك التخلص منه باعتباره مجرد براعم لا ترقى إلى مستوى النشر على الملأ في ديوان. لقد كان
عبد المجيد بن جلون متعدد الاهتمامات ، فهو كاتب مقالات وقصاص وروائي ـ إذا اعتبرنا ـ كتابه في الطفولة رواية سيرية ، والحقيقة أنه لو اقتصر على كتابة الشعر ـ في نظري المتواضع ـ لأنشأ عدة دواوين ولأغنى المكتبة الشعرية المغربية بشعر مليء بالخيال والموسيقى ، للأسف أضحينا الآن نفتقر إليهما فيما نقرأ من شعر على صفحات الجرائد والمجلات أو بين دفتي ديوان. ولست أدري لماذا تم إغماط حق هذا الشاعر المبدع ؟ هل لإنتاجه الغزير في مجالات أخرى يد في ذلك ؟ حيث انصب الاهتمام على مؤلفاته النثرية وخاصة عمله الرائد « في الطفولة » ( سيرة ذاتية ) أو عمله القصصي ( وادي الدماء) ، أم أن الدارس المغربي قل اهتمامه بالشعر، وخاصة الشعر المغربي الذي قيل في فترة طغت فيها الرومانسية ، ولم يعد يعتد إلا بالشعر المعاصر الذي يتخذ التفعيلة أساساً لبنائه ، ويمتلئ بالهم الإيديولوجي خاصة مع بروز القصيدة المعاصرة في سنوات الستين من القرن الماضي وبروز نقد إيديولوجي مواكب لها ؟
ويبدو أن الشاعر نفسه ، كان في قرارة نفسه ، يعتبر أن ما كتبَ من شعر إنما كان مجرد محاولات أولية لأديب ناشئ ، كان ما يزال يبحث لنفسه عن الجنس الأدبي المناسب للتعبير عن همومه ومشاغله ، وأفكاره . وأنه لا يرقى إلى مستوى الأدب الرفيع . ولعل عمله في الصحافة أن يكون له دور أساس في إبعاده عن الكتابة الشعرية، لأن الخوض في غمار الكتابة الصحفية لمن شأنه أن ينزل بالمرء إلى نثر الحياة اليومية.
والحقيقة أن ابن جلون يعبر بنفسه في مرحلة لاحقة من حياته الأدبية عن دواعي ابتعاده عن قول الشعر و انتقاله إلى فني المقالة والقصة في مقالة بعنوان: «نظرات في القصة» ، نشرها في مجلة “المناهل “. ولولا وفاؤه لمرحلة زاهية من عمره هي مرحلة الشباب ، قضاها بين أحضان أرض الكنانة، يستنشق نسمات النيل ، ويصيخ بسمعه المرهف إلى موسيقى مويجاته في الليالي القاهرية المقمرة ، لعزف عن نشر الشعر وبقي لديه ركاماً من الأوراق ، وحزماً من البراعم سرعان ما تذبل ويجف نسغها وتطويها يد النسيان. والمقدمة القصيرة التي صدَّر الشاعر بها ديوانَه بعنوان «وفاء» غنية بالدلالة على تواضع الشاعر وإحساسه بالمسؤولية إزاء هذا الجنس الأدبي الصعب المراس. لذلك اعتبر شعره مجرد « براعم » لا غير ، ما زالت في حاجة إلى أن تنمو وتزدهر ويشتد عودها. وما هي إلا نتاج فتى كان في العشرين من عمره . وما نشره وهو في سن يتجاوز الأربعين ليس إلا وفاءً لذلك الفتى الذي كانَه. وليس من حقه أن يحرم ذلك الفتى من نشر أعماله على الناس ، فهي في الحقيقة ملك لذلك الفتى ، وليست ملكا له . وحسناً فعل، فلولا صنيعُه هذا، لحرم شعرنا المغربي من متن شعري متفرد فيه تجريب لأشكال متعددة . ويبدو أن روح المسؤولية أمام الكلمة، والإحساس بالتهيب من هذا الفن الحارق ، والاحترام الشديد الذي كان يكنه الأديب المغربي لقرائه ومتلقيه ، كان يجعله يحس بكثير من الحرج قبل أن يذيع شيئاً من إنتاجه بين الناس.
إن وفاء عبد المجيد بن جلون لشعره الذي يمثل مرحلة من مراحل تجربته الأدبية ، لم يجعله ينشر قصائده الطويلة المتنوعة الأشكال فقط ، بل إننا لنجده يثبت بيتين شعريين من البحر البسيط في زاوية من زوايا الديوان بعد فاصل بينهما وبين قصيدة «نوم» ،عز عليه أن يفرط فيهما، هما :
الْكَوْنُ لَمْ يَزْدَهِرْ إلاَّ بِأَوْهَامـِــي
فَقَدْ بَرِمْتُ بِأَحْدَاثِي وَأَيَّامِــي
فَلَيْتَ أَنَّ حَيَاتِي أَصْبَحَتْ حُلُمِي
أَوْ لَيْتَنِي كُنْتُ أَحْيَا بَيْنَ أَحْلاَمِي
والملاحظ أنهما وردا بدون عنوان بخلاف كل قصائد الديوان التي وردت كلها مصدرة بعناوين.
وأتمنى أن يسعف الجهد والوقت لرصد ما تتوفر عليه المكتبة الشعرية الحديثة والمعاصرة من دواوين شعرية كادَ بعضُها تطويهِ يدُ النسيان ، خاصةً وأنه لم يتح لها طبعها طبعة ثانية.
والجدير بالإشارة أن مجلة ( الثقافة المغربية ) التي تُصدرها وزارة الثقافة، اضطلعت في المدة الأخيرة بإعادة طبع بعض المصنفات الهامة في مجال الشعر المغربي المعاصر، ومن أهمها
” كتاب الأدب العربي في المغربي الأقصى” لمحمد بن العباس القباج الذي طبعه صاحبه سنة 1929 م. في كتاب واحد من جزأين. وقد وزع الكتاب مع عددين من أعداد المجلة ، مع كل عدد جزء واحد هديةً للقراء ، كما أعادتِ المجلةُ طبعَ الجُزء الأوَّل من كتاب ” فواصل الجُمان في أنباء وزراء وكُتاب الزمان ” لمحمد غريط ، ووزِّع أيضاً هديةً مع المجلة.