كتابات في تاريخ منطقة الشمال
و للاقتراب من عناصر توهج الشهيد، احتوت مقدمة الكتاب على تفاصيل دقيقة لا شك وأنها تساهم في إلقاء الضوء على عناصر توهج سيرة الرجل النضالية والكفاحية وخاصة بالمشرق العربي. فهو من مواليد مدينة تطوان سنة 1911، واستشهد يوم 12 دجنبر 1949 بعد سقوط الطائرة التي كانت تقله في طريق العودة بعد المشاركة في المؤتمر الدولي الاقتصادي الإسلامي الأول بمدينة كراتشي الباكستانية. تزوج بالسيدة زبيدة أفيلال التي لازمته في مسيرته النضالية في المجالات السياسية والديبلوماسية بالقاهرة، ورزق منها بولد وحيد ازداد بعد وفاة الأب بستة أشهر وحمل اسمه. تدرج امحمد بن عبود في مساره التعليمي بين الكتاتيب القرآنية بتطوان، ثم في الدار البيضاء، قبل أن ينتقل إلى جامعة القرويين بفاس حيث استقر هناك من سنة 1935 إلى سنة 1937. بعد ذلك، توجه إلى مدينة القاهرة لدراسة الحقوق بجامعة فؤاد الأول خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1937 و1943. وبعد إكمال دراسته العليا، عاد إلى مدينة تطوان قبل أن يعينه الخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي رئيسا للوفد المغربي باللجنة الثقافية التابعة للجامعة العربية بالقاهرة.
انطلق نشاطه السياسي مباشرة بعد استقراره بالعاصمة المصرية، حيث شارك في مؤتمر المغرب العربي بالقاهرة في فبراير 1947، وهو المؤتمر الذي كان قد خرج بتوصية تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة، وبذلك، فقد كان الشهيد ابن عبود أحد مؤسسي المكتب المذكور، وكان له دور بارز في ترتيب عملية تحرير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي عقب وصوله إلى مدينة بور سعيد يوم فاتح يونيو 1947، وهو الدور الذي جعل اسمه يبرز كأحد أقطاب العمل الوطني المغربي والمغاربي بالمشرق العربي خلال هذه المرحلة. وبهذه الصفة، فقد مثل المغرب الخليفي في مؤتمرات دولية عدة، نذكر منها المؤتمر الثقافي العربي الأول، الذي انعقد في العاصمة اللبنانية بيروت سنة 1947. كما شارك في مؤتمر اليونسكو الذي احتضنته مدينة بيروت سنة 1948، وفي المؤتمر الدولي الاقتصادي الإسلامي الذي انعقد بمدينة كراتشي الباكستانية سنة 1949.
ويمكن القول إن الفترة التي استقر فيها ابن عبود بالقاهرة قد منحته –على قصرها- فرصا هائلة للانخراط في العمل الوطني والديبلوماسي، بعد أن نجح في نسج شبكة علاقات واسعة مع قطاعات عريضة من نخب المشرق العربي، وتحديدا من دوائر صنع القرار بأعلى هرم السلطة السياسية بمصر، إلى جانب مسؤولي الأحزاب السياسية ورجالات الفكر والفن والثقافة والإعلام بمصر أربعينيات القرن الماضي. فعلى الرغم من قصر المدة الزمنية لنشاطه الوطني والديبلوماسي بالقاهرة، فإن عطاءه كان كثيفا ومتنوعا شمل مجالات عدة، منها تنظيم الاتصال بديوان الملك فاروق، وبملك المملكة العربية السعودية، وببعض الزعماء الذين اتخذوا من القاهرة مستقرا لهم، مثل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. كما نسج علاقات وطيدة مع رموز الفكر والثقافة والإبداع بمصر الأربعينيات، من أمثال عميد الأدب العربي طه حسين، وكذلك بشخصيات قانونية بارزة مثل رئيس مجلس الدولة المصرية الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، وبعض الزعماء الوطنيين المغاربيين ومن آسيا، من أمثال الدكتور الحبيب ثامر والحبيب بورقيبة وعلال الفاسي وعبد الخالق الطريس وجواهر نهرو وعلي الحمامي…
و إلى جانب ذلك، انخرط ابن عبود في حملة إعلامية واسعة للتعريف بالقضية المغربية في الصحافة العربية، وخاصة بالعاصمتين دمشق والقاهرة. وكان شديد الحرص على دوام الارتباط والتنسيق مع وطنيي المنطقة الخليفية، مثلما تعكسه مراسلاته الثرية مع رموز النضال التحرري بهذه المنطقة، وعلى رأسهم عبد الخالق الطريس والطيب بنونة وعبد الله كنون، مما جعله يتحول إلى زعيم عربي بارز، استطاع أن يجعل القضية الوطنية المغربية شأنا مصريا خالصا ومحور اشتغال الجامعة العربية وعموم المؤسسات المرتبطة بها. لذلك، لا عجب أن يرتبط اسمه بمؤسسة “مكتب المغرب العربي بالقاهرة”، وأن يتحول التوثيق لسيرته توثيقا لتجربة المكتب المذكور خلال مرحلة أربعينيات القرن الماضي، باعتباره نواة صلبة أثمرت الكثير من المبادرات المغاربية الرائدة خلال المراحل اللاحقة، وعلى رأسها تجربة “لجنة تحرير المغرب العربي” التي ترأسها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.
هذه سيرة ابن عبود وهذا عطاؤه، رجل قرن المبدأ بالممارسة، واستطاع أن يصنع مسارات على مسارات داخل مدارج العمل الوطني الأصيل، بل وأن يتحول إلى كتاب مفتوح، ما أحوجنا للنبش في طلاسيمه، وقبل ذلك لتجميع ذخائره صيانة للذاكرة التحررية المشتركة لمغاربة الأمس واليوم.