الشيخ المبدع الفنان المتألق أحمد بن الحسين الزيتوني الصحراوي -2-
جريدة الشمال – بقلم: : عبد المجيد السملالي (باحث في تاريخ موسيقى الألة المغربية)
الثلاثاء 02 ينايـر 2018 – 11:26:29
•من المزايا الفنية الكبرى التي تطبع مسيرة الشيخ الفنان والمبدع المقتدر أحمد الزيتوني بارك الله في عمره: اجتهاده المتواصل في الارتقاء بأسلوب أداء موسيقى الألة إلى مستوى رصين يحفظ لها أصالتها، وبحثه الجدي عن القوالب الفنية الأصيلة التي تعوض النقص الحاصل في بعض صنائعها، وسعيه الدائم إلى الإبداع الفني الأصيل الذي سار عليه كبار الحفاظ وهواة طرب الألة في العصور المتأخرة، وبفضل تلك المزايا الفنية، وكذا بما أوتي هذا الرجل المبدع الموهوب من مؤهلات كبيرة المتمثلة في حفظه الجيد لنوباتها، واستيعابه التام للصيغ الفنية التي تؤدى بها موسيقى الألة، وبذلك صار في الفترة المعاصرة علما شامخا في طرب الألة، وأحد المراجع الأساسية الذي لا يمكن الاستغناء عنه في رواية الصنعة الأندلسية، وقد اجتهد في إبداع بعض الميازين الموسيقية المفقودة، واهتدى إلى تلحين بعض التواشي كانت مفقودة، كما جمّل عمله الفني ـ الحافل بالمنجزات الفنية الكثيرة جداـ بإتمام بعض الصنائع الناقصة.
جهوده في إبداع بعض الميازين الموسيقية المفقودة:
قائم ونصف النهاوند:
ايمانا من نخبة الفنانين وبعض هواة طرب الألة في مدينة طنجة بأهمية الاستمرار في البحث عن النوبات الموسيقية الأصيلة، وسعيا إلى بعث بعض الميازين المفقودة التي ضاعت ـ مع الأسف ـ مع تراث موسيقي لا يستهان به، لم يلتفت في عصور سابقة إلى العناية به والمحفاظة عليه، وفي نهاية الستينات من القرن الماضي، ندب الباحث الفنان مولاي العربي بن أحمد الوزاني (ت1983هـ) بعض أصدقائه الفنانين إلى بعث ميزان قائم ونصف النهاوند، وهذا الطبع الموسيقي: النهاوند كان متداولا بين الموسيقيين، وجرى تداوله في دائرة المسمعين في بعض الزوايا الصوفية، وكان يسمى عندهم بطبع الساحلي الذي هو قريب من طبع النهاوند، وكان ممن تحمس لفكرة مولاي العربي الوزاني واقتنع بجدواها، ولمس من نفسه القدرة على تلحين ميزان قائم ونصف النهاوند: الفنان أحمد الزيتوني، والأديب الشاعر محمد المختار العلمي بارك الله في عمرهما، فتكفل الأول بتلحين البغية وتوشية الميزان وبعض الصنائع، وقام الآخر بنظم أشعارها وتلحين بعض منها (سبع صنائع من إبداعه)، وهذا ما ذكره لي الأستاذ الزيتوني في إحدى لقاءته به. وقد جاء هذا العمل الفني الجميل في قالب إبداعي رائع، وهو يبرز مدى قدرة الرجل على الابتكار، وحرصه على أصالة الطبع الموسيقي مع المحافظة على الشكل الفني الموروث، وقد سجل هذا العمل بداية في إذاعة طنجة سنة 1969.
ومن جهة ثانية قدم هذا العمل الفني، في المؤتمر الثاني للموسيقى العربية الذي انعقد بفاس سنة 1969م، تحت إشراف الفنان الحاج إدريس بنجلون التويمي وبمشاركة المنشد الحاج محمد باجدوب، وفي هذا المحفل قام مولاي العربي الوزاني مدافعا بقوة واستماتة على ميزان قائم ونصف النهاوند الذي هو ثمرة جهد فني كبير بادر إليه نخبة هواة طرب الألة بطنجة، المذكورون أعلاه، ورفع عقيرته قائلا: ( هذا عمل طنجاوي ..)، بعدما أحس أن هنالك محاولات لنسبة الإبداع إلى غير أهله الحقيقيين.
درج النهاوند:
بعد النجاح الذي لقيه ميزان قائم ونصف النهاوند، والاستحسان الذي تلقاه من قبل هواة طرب الألة، خاض الشيخ أحمد الزيتوني تلحين ميزان آخر: هو درج النهاوند، وقضى في إعداده فترة ليست باليسيرة، وعرضه أول مرة على هواة طرب الالة بمدينة طنجة، وتشرف بتقديمه مع نخبة من العازفين في عرض موسيقي بنادي بوحنتيت الواقع بزنقة تطوان. وممن تقدم بالتعريف بهذا العمل الفني الأستاذ الشاعر محمد المختار العلمي الذي نوه بهذا الميزان وبالجهد المبذول من قبل الفنان الزيتوني. ولعل هذا العرض كان في الثمانينات من القرن الماضي..
وبعد عقد من الزمن من تلحينه، قام الشيخ أحمد الزيتوني بتلقين بعض أجزائه للفرقة الفنية التابع لجمعية الامام الشاذلي للمديح والسماع بطنجة، وهي التي تشرفت أولا بتقديمه في عرض موسيقي بسينما دوليز 2007م. وقدم هذا الميزان ايضا لاحقا من قبل المجموعة المذكورة في موسم مولاي ادريس الأكبر بزرهون 2012م. وسجل ميزان درج النهاوند منذ بضع سنوات باذاعة طنجة في رمضان 1435هـ/ 2014م، ومدة تسجيله 50 دقيقة.
تلحينه بعض الميازين من طبع الحسين:
ميزان قائم ونصف الحسين:
مع بداية سنة 2010م قام الفنان أحمد الزيتوني بإنجاز عمل فني كبير تمثل في تلحين ميزان قائم ونصف الحسين، ومما يحسن التذكير به أن طبع الحسين فقدت نوبته قديما، ولم يعد له ظهور في كناش الحايك إلا من خلال بعض صنائعه اليتيمات، وهي مدرجة في نوبة رمل الماية (وهذه النوبة تضم الطبوع التالية: رمل الماية – انقلاب الرمل – حمدان – الحسين).
وتجدر الإشارة والتنبيه إلى أن ميزان بسيط الحسين ضم بالإضافة إلى ما هو متداول من صنائعه المعروفة، ثلاثة صنائع ألحقت به وهي: صنعة (خاتم الرسل)، وصنعة (لا جمال الا جماله العجيب)، وصنعة (قلبي بك مولع)، ومجموع تلك الصنائع تلقاها مولاي أحمد الوكيلي بتطوان، رواية عن المعلم الشهير والفنان الكبير السيد العياشي الوراكلي الشفشاوني (ت1955م)، الذي كان يشغل يومذاك رئيس جوق المعهد الموسيقي بتلك المدينة الأندلسية بامتياز.
وقد قام بتسجيل تلك الصنائع مولاي أحمد الوكيلي للإذاعة سنة 1974م، بالتماس والحاح من الأستاذ الشاعر سيدي عبد اللطيف خالص رحمه الله، الذي كان مديرًا للإذاعة وقتئد.
وفي سياق اجتهاداته الموفقة دائما، قام مؤخرا شيخ الصنعة الأندلسية أحمد الزيتوني بتلحين صنائع من بسيط الحسين.
وقد اضطلع الفنان أحمد الزيتوني أيضا، معتمدا على كفاءته الفنية العالية وتمرسه الكبير في موسيقى الألة، بوضع تلحين ميزان قائم ونصف الحسين في غرض مديحي، ونسق أجزاءه فلحَّنَ توشية الميزان، كما لحّن فيه بعد ذلك اثنى عشرة صنعة في حركاتها الثلاث: الموسع، والقنطرة والانصراف.
وقد ظهر هذا العمل الفني الرائع إلى الوجود في إحدى التظاهرات الفنية التي أحيتها جمعية البعث للموسيقى الأندلسية بمدينة فاس سنة 2012م.
وقد لقي هذا العمل الفني الجميل استحسانا من لدن هواة تراث الآلة بالمغرب عامة، ومن قبل الولوعين بالطرب الأصيل بمدينة فاس خاصة، الذين أشادوا بمكانة الرجل الفنية وبإبداعه الفريد وبتميزه في الأداء والتلحين.
وقد أبدى الرغبة في أن ينهض بعض الفنانين الأكفاء بتلحين ميزان آخر من طبع الحسين، ويبادرون إلى وضع ميزان تام الأركان الموسيقية المألوفة في طرب الألة، وطلب في هذا الشأن من تلميذه النجيب والفنان المبدع الأستاذ نبيل العرفاوي بتلحين ابطايحي الحسين، وشجعه على خوض هذه التجربة الفنية، واستطاع التلميذ بمباركة أستاذه أن يدرك المبتغى، وينال قصب السبق في هذا المضمار، فأخرج هذا العمل الفني إلى الوجود، وتوفق ـ كما هي عادته ـ في إنجاز هذا الميزان بإتقان، ووضع له توشية بديعة ولحن فيه صنـائـع عدّة .
درج الحسين:
بعد الانتهاء من الميزان السابق شرع الفنان أحمد الزيتوني في تلحين ميزان درج الحسين وأبدع وأجاد فيه، وفي وقت لاحق لقنه لمجموعة الشيخ ابن عجيبة التابعة لجمعية الإمام الشاذلي للمديح والسماع بطنجة،(يرأسها الأستاذ عبدالسلام الدياز)، وقد قدّم هذا العمل الفني الجميل جدا في موسم المولى إدريس الأكبر بزرهون، في شهر غشت من سنة 2014م.
ميزان قدام الحسين:
ومسك ختام هذه النوبة هو تلحينه لميزان قدام الحسين الذي يقع في عشرين صنعة موزعة ما بين شعر فصيح وزجل وموشح، وقد وضع للميزان توشية، كذللك توشية ثانية لصنعة (هو هو النبي …).
ومع هذا العطاء المتدفق والجهود الموفقة في التلحين ووضع التواشي وترميم الصنائع المختلفة، ما يزال الفنان المتألق وشيخ الصنعة الأندلسية، المتجدد في نفسه وروحه وأعماله، يقوم بمراجعات أعماله المرة بعد الأخرى، ويدخل عليها التحسينات الفنية اللازمة، ونجده لا يهدأ له بال إلا بالبحث المستمر عن كل جديد في صنائع الألة، وطرق أدائها المميز، وترميم ما يحسن إبرازه بالترميم المناسب….