عبدالحق الريكي
لم تستطع القوى المعادية لربيع الشعوب في العالم العربي من الانتظار أكثر، مخافة أن يصبح المواطن سيد نفسه وقراره، فقررت استعمال آخر ورقة لديها وهي محاولة تكسير – جسديا وماديا ومعنويا – بؤرة أكبر حراك مجتمعي في أكبر وأهم دولة وهي مصر…
لقد اقتنعت أمريكا وأوربا ودول عربية عديدة بضرورة إيقاف المد الشعبي الجماهيري الذي بدأ في تونس وانتقل إلى مصر والعديد من الدول العربية. تحرك الشعوب يصبو إلى الاستقلال الوطني الفعلي والاقتصادي ومن تم فهو يتعارض تماما مع مصالح الغرب في المنطقة، خاصة حماية دولة إسرائيل، وتدفق البترول والغاز، وكذا ملايير البترودولار كسيولة أساسية لانتعاش الأسواق المالية الغربية، دون إغفال صفقات مشاريع ضخمة تدبرها شركات غربية أمريكية وأوربية هي في أمس الحاجة لها.
هذا هو جوهر الصراع وكلنا نعرف ذلك ونتحدث عنه، لكن الأحداث اليومية وقوة التوجيه الإعلامي في الغرب ومن طرف القوى المعادية للثورة والتي تمتلك المال والإدارة والإعلام وأجهزة الأمن، تجعلنا أحيانا ننسى من نحن وماذا نريد وننغمس في القيل والقال، هذا إخواني، هذا يساري، هذا قبطي، هذا يهودي، هذا علماني، هذا ليبرالي، هذا ضدي…..
كلنا نعلم أشياء أخرى ذات أهمية قصوى في التحليل. الأولى، كون أكبر وأقوى قوة منظمة في المجتمع هي الجيش. فلا غرابة أن كل فريق يسعى إلى التقرب من العسكر. الثانية، كون الحركات الإسلامية هي القوة الأكثر تنظيما وتأثيرا في المجتمع. فلا غرابة إذن أن كل المحاولات لكسر وحدة وقوة الشعب ستمر حتما عبر ضرب أولا هذا المكون الشعبي. الثالثة، غياب قوى ليبرالية وحداثية منسجمة وقريبة من الشعب. مما جعل أهم رموز هذا التيار ينحازون إلى الجهة الغالبة دفاعا عن مصالحهم الضيقة وبمصوغات تبدو جميلة كالحرية الفردية ومحاربة أسلمة المجتمع. الرابعة، غياب النخبة العاقلة والمؤثرة في المجتمع والقادرة على فتح الحوار مع مختلف الفرقاء. وأخيرا غياب العلم والتربية والثقافة والديمقراطية…
إذا نظرنا بعمق إلى كل هذه الأمور، فلا مناص من الاستنتاج كوننا نعيش صراعا مجتمعيا وتاريخيا قويا، ما بين وضع التخلف الذي نحن موجودون فيه، ووعينا وطموحنا لتجاوزه لبناء مجتمعات عصرية تمكننا من السيطرة على ثروتنا وتوجيهها نحو تكوين الإنسان، القادر على امتلاك العلم والتربية والثقافة كما هو الشأن بالنسبة للغرب… لقد وصلنا لدرجة لا مفر من أن نفتح بابا جديدا يؤدي بنا إلى الانخراط في عداد الدول الديمقراطية… لكن هذا الولوج له ثمن… وهذا الثمن يمكن أن يكون باهظا…
دول عديدة في العالم العربي تعيش على إيقاع هذا الصراع، كلا حسب وضعه التاريخي والمجتمعي. دولة مصر دخلت مرحلة جديدة وهي النزاع الدموي ما بين قوى الثورة والقوى المضادة… إنها أعلى درجات الصراع المجتمعي التي يمكن أن تؤدي إلى بداية حرب أهلية طويلة أو إلى تصدعات داخل أهم القوى تمكن الغلبة لهذا الطرف أو ذاك أو تفرض توافقات جديدة…
كلنا نعلم أن الحرب هي استمرار للسياسة بطرق أخرى رغم القتل والدمار والأحزان، نفس الشيء فإن ما يقع من مجازر في مصر هو استمرار للسياسة عبر استعمال العنف عبر تدخل الجيش وقوى الأمن في فض اعتصام “الإخوان المسلمين” ومن وراء ذلك محاولة تكسير ربيع الشعب المصري… يصعب التكهن بالنتيجة لأن المعطى الرئيسي غائب عند “السيسي” قائد الانقلاب العسكري ورمز حركة “تمرد” من جهة وعند “البلتاجي” أحد أهم القيادات الميدانية لحركة “الإخوان المسلمين” وللشعب المصري… ألا وهو موقف ودور “الشعب العميق”…
لقد كان الاصطدام أمرا متوقعا لكن ما كان يغيب هو توقيته وطريقته… أعدت القوى المعادية للثورة مخططا كبيرا جديرا بالدراسة – والغالب أنه تم صياغته في مراكز القرار الاستراتيجي في الغرب – لتكسير ربيع الشعوب وبدأت في تنفيذه على مراحل وحسب الظروف، وكان من أهدافه الكبرى فك وحدة الصف ما بين الحركة الإسلامية وكل المكونات الشعبية الأخرى، وهذا ما لحظناه حين انقسام الشارع المصري ما بين “الإخوان” من جهة وجبهة عريضة تضم العسكري والتمردي والليبرالي والنوري السلفي والقبطي والأزهري والفلولي… ثانيا تم تقزيم كل محاولات الحوار الممكنة ما بين الأطراف المتصارعة وتم توسيع الهوة والخلاف ما بين الفرقاء السياسيين، دون إغفال الأخطاء التي وقع فيها عمدا أو بدون قصد العديد من القوى، إسلامية وليبرالية…
لكن هذا المخطط الذي أدى إلى حدوث انقلاب عسكري وعزل واعتقال الرئيس المنتخب ديمقراطيا لم يكن كافيا لخلق وضع جديد وإنهاء الحراك الشعبي… فتحرك الشارع “الإخواني” أولا وبدأ رويدا رويدا يلتحق به الشعب الآخر الذي تم التغرير به في لحظة ما… فكان من الضروري على القوى المضادة للثورة المرور لمرحلة أخرى وهي المواجهة المسلحة الجسدية في الميادين… وهي التي نعيش تداعياتها هذه الأيام… وهي مرتبطة بمدى صمود شعب الإخوان من جهة واتجاه تحرك الشعب العميق…
ما يقع في مصر سيقع في بلدان أخرى، لذا من الضروري استنتاج بعض الدروس لعل وعسى تسعفنا في تجاوز صراعاتنا المجتمعية وتسويتها بالحوار عوض الاقتتال…
الجيش يبقى قوة فاعلة ومؤثرة في المجتمع ما دام بعيدا عن الصراعات السياسية لأنه بمجرد انغماسه في السياسة كطرف يفقد وحدته وتماسكه وبالتالي لا يعلم الله مصيره ما دام الجيش نسخة مصغرة من الشعب وصراعاته…
الحركة الإسلامية ذات الحضور القوي عليها أن تدرك أن استمرار قوتها مرهون بتحالفاتها مع قوى مجتمعية أخرى أحيانا متناقضة مع مشروعها…
القوى الليبرالية عليها الوعي أن تحالفها مع العسكر ضد الإسلاميين مرحلي إذ حالما ينجح الجيش سينقلب ضد الحداثيين…
اليسار مطالب بتحديد مواقفه وحل تناقضاته فيما يخص موقفه الإيديولوجي من الحركة الإسلامية وصراعه من أجل مجتمع الحرية والعدالة والكرامة وهي نفس شعارات “الإخوان”…
النخبة الصادقة مطالبة برفع رأسها والدفاع عن أفكارها وقضاياها التي تتقاطع مع مطالب وطموحات الشعب…
الحقيقة أن الخيارات هي ما بين كتلة تاريخية شعبية، من إسلاميين وليبراليين ويساريين، تحافظ على وحدة الوطن والشعب، وتشكل قوة تفاوض مع الغرب ومصالحه في اتجاه سياسة “رابح، رابح”، وما بين إدخال دولنا وشعوبنا في نفق مظلم من الحروب الأهلية ودول قمعية مستبدة لن يستفيد منها سوى الغرب الرأسمالي وعملائه المحليين…
أنحاز في بلدي المغرب ومع أشقائي في مصر للصمود وإقناع مختلف الأطراف بإعمال العقل والبصيرة والحوار والتنازل عن بعض المواقف والمطالب وإيجاد حد أدنى مشترك مع كل القوى الراغبة في الإصلاح التاريخي في إطار السلم والاستقرار…