تقديم:
يسرّ هيئة جريدة الشّمال، أن تعيد -من خلال هذه الحلقات- نشر هذا النّص السّردي المتعلّق بقصّة فتاة مغربيّة كانت لها مكانة في البلاط الإسماعيلي، نسجتها من خيوط التّاريخ والخيال، الدّكتورة آمنة اللوه رحمها الله، والذي نالت به جائزة المغرب للآداب عام 1954م.
(5)
الـى مـرتـبـة الملكة
وفي المساء جلس المولى للنساء كما جلس للرجال ينثر الجواهر والأعلاق النفيسة على الحاضرات، ونادى العريقة الكبرى وآذنها على مرأى ومسمع من نساء الحـريم بأن خناثة سيدة الحريم منذ اليوم، وأن أمرها مطاع نافذ في مرتبة الملكة لا يخالف أحد عن أمرها مهما كان. فلما سمعت خناثة هذا أيقنت أن الله أجاب فيها دعاء أبيها، فعاهدته سبحانه أن تكون لولي نعمتها زوجة صالحة ناصحة تسعى في مرضاته مدى الحياة.
رحـيـل
وبعد ذلك بيوم أصبحت واحة الغفر قاعاً صفصفاً، وخلاء بلقعاً لا صهيـل ولا رغاء ولا جلبة ولا ضجيج، وإنما هو هدوء شامل وسكون قاتل.
استقل الركب عنها واحتمل واغتدى، والطير ما زالت في وكناتها، يخب صوب الشمال والشمس ما زالت في خدر أمها. سار سيرته ورجع أدراجه إلى سهول المغرب وفجاجه الفيح التي اشتاقت إلى رؤية بطلها وإلى رؤية عروسه الحسناء، فكانا يلقيان التجلة والإكرام أينما نزلا، وتتقدم إليهما الوفود على طول الطريق بتهنئتين: بسلامة الوصول، والزفاف الميمون.
ولما ألقى الركب عصا التسيار بالحاضرة المكناسية لم تبـق مخدرة إلا برزت من خدرها لترى ملكة المغرب خناثة، وظهرت العاصمة في أزهى حللها وأبهي زينتهـا يخالها الرائي بغداد تستقبل زبيدة الرشيد، أو الكنانة تستقبل شجرة الدّر، وما درى الناس أي اليومين أعظم، أيوم الصحراء الأغر، أم يوم مكناس الأزهر، لقد وجدوا أن الأفراح قد سبقتهم إليها فظلت متصلة بها أياما وليالي فرحا بمقدم العروسين. وأما القصور السلطانية فقد لبست يومئذ أحسن ما عندها، وتبرجت وازّینت مرحبة بملكها المظفر الذي دخل اليها متابطا ذراع مليكته وعلى رأسيهما تاج الجلالة والمهابة، سارا يخترقان صفوف الجواري والقيـان عن ذات اليمين وذات الشمال وهن يرجعن أناشيد الهناء ويرددن آیات الولاء، إلى أن حلا بقبّة السعد في الدار الكبرى دار الخلافة العلية.
تـطـواف
وفي اليوم التالي خرج العروسان ترعاهما العناية، وتحوطهما المهابة، يطوفان بالقصور السلطانية، فقضيا سحابة يومهما في التطواف والتّجوال، تناولا الفطور بقصر البهاء، واصطحبا بجناح الأمان، وجدفا ببركة المنـى و تفرجا على الحيوانات بروض السندس، ثم جلسا إلى مائدة الغداء بقصر الخلد واستمعا الى عزف القيان في بستان التماثيل، وبعد ذلك صعدا عند الأصيل إلى صرح شاهق يتعالی فوق برج کبرج بابل، ليشاهدا عن قرب منظر بقية القصور والمصانع التي تحيط بها أسوار القصبة المنيعة وأبراجها الحصينة، وليشاهدا عن بعد منظر المدينة بحذافرها ومنظر جنان الحمرية الخضراء اليانعة التي فيها من كل فاكهة أزواج .
الستـيـنـيـة العـظـمـى
وهناك أدركهم الليل، فجعلا ختام المطاف القصر الفخم الذي لا نظير له، قصر الستينية العظمى، فلما توسطاه قال المولى لمولاته: عن قصد جعلت هذا القصـر خاتمة المطاف لتبقى فيه على الدوام، فهذا قصرك، خالـص لك، هو وجميع ما يتعلق به من دور وأجنة وبساتين. فاهنئي به وانعمي، زيادة على أني جعلت لك الإشراف على بقية القصور، فما هنا غيرك، فأنت الملكة وسيدة الكل ولم يكتف المولى اسماعيل بهذا القول الحميد بل أتبعه بالفعل المشاكل له، إذ اصدر مرسوما إلى كافة رعاياه يشيد فيه بالسيدة خناثة ويعدد ما انفردت به وما اقتضى رفعها إلى درجة السلطنة، معلنا أنه أسند إليها كثيراً من شئون الدولة، لما آنسه منها من صدق الرأي وبُعد النظر، وأنها بالنسبة إليه مستشارة، ينزل عند رأيها ويصدر عن حكمها. فزادها ذلك قدرا في الأوساط، وتمكن حبها في القلوب، ومن ثم كانت وفود ذوي الحاجات لا تنقطع عن بابها متوسلة مستشفعة.
ولكن ذلك كله لم يفتن خناثة ولا ازدهاها، فهي بعيدة في مناعة خلقها ومتانة دينها عـن بطر النعمة وعن عجب السلطان. وذلك أنها ديّنة تقيّة، عاملة بثلاث وصايا ألقاها اليها أبوها يوم ودعها ووضع رجلها في غرز دابتها: ألا تجعلي للدنيا إلى قلبك سبيلا، ألا تدعى قنوتك ما حييت، ألا تستأثري عن أحد بشيء … وصايا ثلاث نقشتها خناثة على قلبها ثم نقشتها على خاتمها فكانت دستورها المتبع، ومرشدها الأمين.
بشری !
وإنها يوما في باحة بستان لها مع صديقتها خناس التي اصطحبتها من الصحراء واتخذتها كبرى وصيفاتها، إذ صدرت منها نأمة عجبت لهـا خناس وقالت:
-ما بك يا مولاتی ؟
-أمر أسره إليك لم يعلم به أحد، إنّنی حبلی!
-يا له من خبر عظيم ! أعلم به مولای ؟
-كلا، فأنت أوّل من يعلم به.
– إذن دعيني أزف إليه البشرى فأنال منه البشارة ولا شك أنها ستكون ثمينة .
– انت وذاك يا خناس.
فمرت شهـور إذا بخناس نفسها تقبل مسرعة في ليلة من ليالي الربيع بين ممرات القصر فتقتحم الباب على سيدها لتحمل إليه بشارة أخرى: أن ولد له ولد ذكر في غاية الجمال والكمال… فلم تنقلب منـه ذلك اليوم إلا بسوارين کسواري کسری. عقّ الولد وسمته أمه عبد الله، وكانت حفلة العقيقة ملوكية رائعة نالت حياتها وبركاتها كلّ مولود علق في ذلك اليوم.
تقاليد
غدت الأمّ مفتونة بالولد يملك عليها آمالها وأحلامها. وكانت تقاليد العائلة المالكة تقضى أن يتولى حضانة الولد جواري القصر المولّدات، إلا أن الملكة خناثة ثارت عن هذه التقاليد وأبت أن تدفع فلذة كبدها إلى أحد، فكانت هي نفسها تتولى القيام عليه بمساعدة الوصيفات إلى أن نما ودرج وظهرت عليه مخايل النجابة. ثم اصطدمت بتقاليد أخـرى تقضي أن يرحل الولد الي بادية سجلماسة ليستتم تربيته بعيداً عن أوخام الحاضرة وأخلاط القصـور. وهي سنة عربية قديمة أحياها المولى إسماعيل لتكون أربی لأولاده وأزکی مغرساً، غير أنه أبقى عبد الله بجانب أمه من زيادة البرور بها وبه.