يكاد النقد المغربي يُجمع على أنّ الرواية المغربية، اجترَحَتْها الأنثى في شخص الكاتبة الراحلة أمينة اللُّوه (1926-2015)، بروايتها القصيرة “الملكة خناثة، قرينة المولى إسماعيل”، التي صدرت عن “مطبوعات معهد مولاي الحسن” سنة 1954، ونالتْ بها مؤلِّفتُها جائزة المغرب للآداب في منطقة “الحماية” الإسبانية في السنة نفسها.
وُلِدت اللوه في مدينة الحُسَيْمة المتوسّطية، في أسرة عالمة، وانتقلتْ يافعةً إلى تطوان، حيث أكملتْ دراستَها الثانوية، وواصلتْ دراستها الجامعية في إسبانيا، بالحصول على الإجازة سنة 1957، فالدكتوراه في الآداب سنة 1978 في العاصمة مدريد. واشتغلت بالتدريس وتفتيشه، وعُرفتْ وهي الأمازيغية الريفيّة بتكوينها المتين في اللغة العربية، وبإتقانها للغة الإسبانية، بدليل أنها ترجمتْ مقالاتٍ وألَّفت كتباً، وبزَّت الرِّجال في مضمار الأدب والمعرفة.
أسهمتِ الكاتبة الإسبانية تْرينا ميركادير، رئيسةُ تحرير مجلة “المُعتمد”، بشكل لافت في إدخال اللوه إلى مضمار الكتابة والنشر، فقد بَلَغَها، وهي مقيمةٌ في العرائش أي قبل انتقالها إلى تطوان، أنَّ أمينة حلَّتْ بتطوان، فحرَّضت الشاعر إبراهيم الإلغي على الاتصال بها، ودعوتها إلى التعاون مع المجلة، فكان ذلك، وكان هذا اللقاء بين اللوه والإلغي مفتاحاً لعقد القران بينهما في ما بعد.
“الملكة خناثة” رواية تاريخية قصيرةٌ، تقرأ التاريخَ المغربي من موقعٍ نسوي، وتعيد بناءه تخييليا في عمل أدبي إبداعي، لتُعطيَ وقائِعَ هذا التاريخِ دلالةً جديدةً غير التي صاغتها التقاليد ذات النزوع الذكوري، التي تُعطي البطولة للرجل وتمتهن المرأة بمنحها أدواراً ثانوية ودونية، إنْ لم تكنْ تأثيثيّةً. “الملكة خناثة” رواية المرأة بامتياز، لأن الأخيرة بطلتُها من جهة، وهي من جهة أخرى تتضمّن قصَّةً للقراءة، وتأويلاً لأحداثها أُنجِزتْ من قِبل المرأة أيضا، إضافةً إلى أنها نصٌّ أدبي نسائيّ يرتبط بمحيطه الاجتماعي والثقافي، وينبغي فهمُه في ضوء ارتباطه بلحظته التاريخية التي أُنتِجَ فيها.
لكنّ رواية “الملكة خناثة” بطولةٌ لغويةٌ أيضا، لأن الروائية أظهرت قدرةً على الصوغ الأسلوبي في مستوى “كتابة الرجال”، إنْ لم تكن تتفوَّق عليهم، حتى لكأنّها تُصرِّف خطابا مفادُه أنَّ النساء والرجال لديهم بالتلازم القيمة نفسها على مستوى الكتابة. ولعلَّ هذه العيَّنة كافية للتمثيل على مُستوى الروائية في الكتابة: “فبات المعسكر ليلةً مشرقة، نزلتْ فيها نجوم السماء إلى الأرض، وانطلقت ألسنة النيران من الشهب المرسلة، والألعاب النارية تلحس ظلمات الليل في جوانب الصحراء، حتى كأن الليل تتهاوى كواكبه، أو كأن الشمس لم تغب. وفي كل مكان مُدَّت الموائد الملكية التي لا يُردّ عنها أحد، وقد تصدّر أمير المؤمنين منها مستطيلة، جلس إليها نحو مائة مدعوّ من علية القوم، اختلفت عليها أصناف الطعام وأنواع الملاذ، ممّا لا يدخل تحت حصر، ولا يأتي عليه وصف. ولم يُرَ المولى إسماعيل أبهى ولا أسخى ولا أرضى منه في تلك الليلة، كان يهش ويبش ويؤانس، ويُناقل الأحاديث، ويُبادل الأسمار والأخبار، طرح عنه الكلفة جانبا، ونزع جلباب الأبهة الذي لا يكاد يُفارقه، وقد استمع في آخر الحفل إلى الشعراء يُقدّمون إليه ما جادتْ به قرائحهم، تخليداً لهذا اليوم السعيد، فكان يهتز طرباً، ويفيض بِشرا لأشعارهم الرقيقة التي قابلها بفيض من سخائه الجم”.
تحكي الرواية قصة خناثة بنت بَكّار المغافري (توفيت 1754م)، ابنةِ زعيم قبيلة صحراوية مغربية، كانت غاية في الجمال والعلم والأدب، والتي تقدَّم السلطانُ العلوي المولى إسماعيل (حكم 1672–1727) لاتخاذها زوْجة. قبلتْ خناثة الزواج من السلطان، والقدوم الى مدينة مكناس العاصمة آنذاك، بعد تردُّد واشتراطات، ونجحت في أن تصير مستشارة للسلطان، وأن تُحبط دسائسَ ومؤامراتٍ. بعد وفاة السلطان ونجاحها في تمكين ابنها عبد الله من ولاية العهد وخلافة أبيه، لاذتْ بخلوةٍ صوفية مبتعدة عن حياة البلاط.
لم يكن غريباً أنْ تهتم أمينة اللُّوه بالمرأة، وأن تُقلِّدَها دور البطولة في روايتها، وأن تُبْدِي وعيا نسوياً متقدِّما، فالروائية انتبهت مُبكِّرا إلى حالِها الخاصة، لا محالة، وما أدركتْ من مكانة ضمن مجتمعها الأدبيّ الذي كانت تنشط فيه تأليفا وترجمةً، وأفادتْ من احتكاكها بالنساء المُبدعات والباحثات في الوسط الأدبي والعلمي لمجتمع تطوان على عهد “الحماية” وللمجتمع الإسباني الذي تابعتْ فيه دراساتها العليا. كل هذا جعل من الطبيعي أن تصوغ خطابا نسويّا دالاً، يَنِمُّ عن رغبة في إعادة بناء تاريخ للنساء، صرَّفتْهُ إبداعيا عبر “الملكة خناثة”؛ بطلةِ الرواية التي طالبت عَلَنا بالتغيير الاجتماعي أي بالعدل مع النساء، وبقدرتهنّ على الاندماج في الحياة الاجتماعية والسياسية وإغنائها وتحويلها.
مزوار الإدريسي