رســـالـــة لــــنــيـــل شـــــــــهـــادة الــــــدكـــتـــوراه
الخميس 23 فبراير 2017 – 13:24:15
نــوقِشت يــوم الخميس 18 جمادى الأولى 1438 – 16 فبراير 2017 أطروحة الأستاذ الباحث الغزواني المتيوي في موضوع ‹‹النص الصوفي بين قلب المعنى ومعنى القلب›› بكلية الآداب بتطوان، وقد نال صاحبها درجة الدكتوراه في الآداب بميزة مشرف جدا مع تنويه اللجنة بها لتوفرها على قدر عال من الوجاهة العلمية والمنهجية، وهذا تقرير عنها:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سيدي الرئيس، سادتي أعضاء لجنة المناقشة، إخواني الطلبة، أخواتي الطالبات، أيها الحضور الكريم. يسعدني أن أقف بينكم اليوم كي يتم البت في القيمة العلمية لرسالتي المنجزة لنيل شهادة الدكتوراه في إطار تكوين “النص الأدبي العربي القديم”. وهي دراسة عنوانها: ” النص الصوفي المغربي بين قلب المعنى ومعنى القلب دراسة في نماذج”.ما انصَبت دِراستي على إشكالية القلب والتقلُب المعنوي عندَ الصُوفيــة، اعتَمَدَت فيها نَظرا تحليليا وتأويليا مركبا لنصوص صوفية مشرقية ومغربية أندلسية، قديمة وحديثة. ووجهت قراءتي فيها أفقيا وعموديا؛ أي تاريخيا ومضمونيا؛ مراعيا في ذلك سياقنا التداولي: اللغوي، المعرفي، العقدي، الأخلاقي. وكان رهاني المبدئي، رد الاعتبار لتلك النصوص التي جمعت بين عمق العرفان وروعة البيان وقوة التأثير في الذوق والوجدان؛ نصوص تنوعت مشاربها وأغراضها، لكن جمع بينها نسب معنوي واحد؛ واشتملت على أفق متطور في الرؤى الدينية لأصحابها. وقد بدا لي أن النص الصوفي لا يفهم إلا في سياقه الخاص، ويحتاج إلى تقريب من جنسه؛ سواء من حيث البنية أو الوظيفة، وتأكد لي من خلال اشتغالي على النصوص أن قضايا التصوف لا تدرك معالمها وتفهم مقاصدها إلا في مجالها: إبداعـًا وتَلقِيــًا.
ومن ثمة، قمت بالآتي:
ـ في مدخل الدراسة: ضبطت موضوع دراستي وبينت أهميته ورسمت أهدافه وحددت منهجه وشكل مناولته؛ فأبرزت الأطر العامة المكونة لسياقه التداولي: تاريخيا ومعرفيا وإشكاليا ومفهوميا، تمهيدا للكشف عن منظور مختلف لأهم إشكالية فيه وهي “إشكالية التقلب المعنوي وعلاقتها بالتقلب القولي”، وبناء على ذلك طرحت دعوى بحثي وهي أن :”مبدأ التقلب في مراتب التجربة الروحية لا يحجب المعاني بل يكشفها ويوضحها أكثر”؛ ويمكن من خلال هذا المبدأ فهم الخطاب الصوفي وسبر أغواره واستيعاب قيمه ومقاصده. لذلك قسمت دراستي قسمين:
ـ في القسم الأول من الدراسة الذي ضم فصلين: حللت ـ في الفصل الأول ـ نماذج ثلاثة من النصوص لكبار صوفية المشرق: الجنيد والحلاج والنفري. فرصدت مبدأ التقلب في التوحيد مع الجنيد؛ وفي الأحوال مع الحلاج؛ وفي المقامات والمنازل مع النفري. فجاء هذا الفصل بمنزلة التمهيد والإسناد للفصل الثاني. وفي الفصل الثاني؛ سبرت بإسهاب مبدأ التقلب في نظرية الاعتبار والاستبصار عند ابن مسرة وامتداداتها عند ابن برجان، ثم بسطت القول فيها مع الحرالي في سعيه ابتكار قواعد لفهم القرآن وتفهيمه وتجاوز ثنائية التفسير والتأويل، وختمت هذا الفصل بتوضيح ذلك المبدأ في نظرية التطور عند ابن عربي. وكان علي أن أناقش في هذا القسم الكثير من الدعاوى حول التصوف وأهله وبيان تهافتها، بناء على نصوص الصوفية أنفسهم وعلى الشواهد والأدلة التاريخية. فبذلت جهدي في إبراز قيمتها التأسيسية للوعي الديني المغربي الأندلسي، وآفاقها العرفانية الثرة التي تمد الاختيار المغربي في التدين بقيم الجمال والكمال المعنوي الذي هو مدار العمل التزكوي الحي.
ـ في القسم الثاني من الدراسة والذي تضمن فصول أربعة: انصب جهدي التحليلي والتأويلي على دراسة ثلاثة نصوص صوفية مغربية تنتمي للفترة الحديثة، ثم ختمت هذا القسم بتحليل أنموذج خطاب صوفي حي. وقد سعيت في هذا القسم بيان إسهام الصوفية المغاربة في إغناء التراث الأدبي المغربي، وكيف أثروا مجاله التداولي بقيم روحية وأخلاقية مستقاة من صميم العمل التزكوي الذي ترسخ في عمق الهوية الدينية للمغاربة عبر أجيال. وقد حاولت أن أبقى وفيا لدعوى دراستي؛ فأثبت أن التقلب القولي ـ في خطاب النماذج المختارة ـ موجَّه بتقلب معنوي غير قابل للفصل عن التجربة الروحية لأصحابه : لكون نظمة القول لديهم، لا تقبل الفصل عن حكمة الذوق؛ والوعي المبثوث في ثنايا خطابهم لا يفهم إلا في إطار الرؤية المتقلبة التي حكمت سيرهم وعلاقتهم بالله، بالعالم وبذواتهم. لذلك لاحظت ترجيحهم لمعاني الخطاب ومقاصده على حساب مبانيه وصوره. وهكذا، فككت في الفصل الأول بنية خطاب أنموذجين في التفسير ـ المسمى إشاريا ـ لقصة الخضر وموسى عليهما السلام؛ لكل من الشيخ سيدي أحمد بن عجيبة وسيدي محمد المصطفى ماء العينين؛ فبينت أصولهما ومقاصدهما التأويلية؛ وتبين لي أن تلك الأصول والمقاصد ـ رغم ما تضمنته من سعي للاجتهاد والإبداع ـ بقيت في وسائلها المنهجية متحفظة وفية للمنطق التأويل العباري؛ مقيدة بتراث تأويلي حجب المعاني الغنية الموجودة خلف رموز تلك القصة: شخوصها، أحداثها، فوائدها الدينية والتربوية؛ والقيم المتوخاة ـ دلاليا وتداوليا ـ من وراء وسياقات ورودها وتنزيلها. أما في الفصل الثاني؛ فقد تناولت خطاب سيدي علي الجمل العمراني حول حقيقة الإنسان من المنظور الإحساني؛ وذلك من خلال كتابه “اليواقيت الحسان في تصريف معاني الإنسان”، وما استتبع ذلك من ظواهر لغوية جدلية دالة على تقلب معنوي نوعي يستحضر الأضداد والنقائض والمفارقات، ويحاول تجاوزها في تركيبات خاصة؛ ومن ثم سعيت ـ قدر الإمكان ـ بيان مكامن القوة في ذلك الخطاب، وكشف قيمته بالنسبة للفكر والفعل والذوق.
وفي الفصل الثالث، ركزت نشاط الفهم والتأويل على قصيدتين هما: تائية سيدي محمد الحراق وتائية سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني؛ فكشفت عن منطق التقلب المعنوي فيهما بنية ووظيفة، وكيف أن تلك الوظيفة استوعبت قصد الشاعرين؛ وكيف أن القوالب والصور الشعرية لديهما كانت وسائل للإقناع بقيمة الخطاب وتبليغ معانيه المتوهجة في كل مستويات البوح الإشاري للإرادة الشاعرة. ثم خصصت الفصل الرابع؛ لأقوال سيدي حمزة بن العباس القادري بودشيش، بهدف إبراز استمرارية العمل الصوفي الحي في مجالنا التداولي المغربي، وأنه لم ينقطع عطاؤه فيه. ومن ثمة سعيت توضيح المرجعية التربوية لأقوال الشيخ سيدي حمزة وآفاقها العرفانية، التي تجتنب ما أمكن الخوض في الحقائق، وتفضل التركيز على الطابع العملي المباشر للتجربة الروحية ذوقا وحالا واتصافا؛ باعتبار أن الحاجة التزكوية للمريدين/ المخاطبين، أملت على العارف تقليب خطابه وتنزيله بحسب مقتضيات الأحوال والمقامات التداولية الخاصة؛ مع ربط كل ذلك بالسياق المعاصر للتصوف ورهاناته الإنسانية والأخلاقية، في عالم يتغير في اتجاه تغليب قيم المادة والحس والغفلة على حساب قيم الروح والمعنى والذكر.
وختمت عملي باستنباط أهم الخلاصات والنتائج التي استفدتها من دراستي للنصوص المذكورة؛ والتي تأكد لي من خلالها أن مبدأ التقلب المعنوي وسيلة صالحة للفهم الخطاب الصوفي وإدراك أصوله ومقاصده، بنيويا ووظيفيا؛ وأن الفكر الصوفي فكر نسقي يمكن الإمساك بنظامه، وإن بدا في شكله مفككا، وأن الصوفية المغاربة والأندلسيين وظفوا ذلك المبدأ وطوروا من خلاله نظمة القول الإشاري، ودفعوا بالرؤى والتجارب الصوفية إلى معانقة ممكنات وجودها ووجوبها، في انفتاح بصير على الكل الإنساني. والحق أنني، بذلت وسعي مسترشدا بتوجيهات المشرفين لكي أستثمر كل ما اكتسبته وتعلمته من مناهج وآليات البحث في الآداب والعلوم الإنسانية، وتطبيقها على نوع خاص من النصوص التي لا يتناولها الباحثون في العادة عموديا، بل يكتفون بتحليلها من الخارج وبكيفية أفقية، فيركزون على البعد التاريخي والسياسي والوظيفي الاجتماعي؛ وهو في الغالب مسلك محمود، لكنه لا يقدم صورة كاملة لتراثنا الأدبي الصوفي؛ الذي هو إنتاج معنوي للروح وهو يتوجه إلى هذه الروح. إن افتتاحي هذه الدراسة بتحليل أنموذج النصوص بالجنيد، يسير وفق الاختيار المغربي في التدين، الذي يجمع بين فقه مالك وعقيدة الأشعري والتصوف السلوكي، لكن ذلك لم يمنعنا من بسط النظر في تجارب صوفية أندلسية مغربية نعتبرها تأسيسية أيضا، لا سيما مدرسة ابن مسرة الجبلي سواء من حيث نشأتها أو امتداداتها اللاحقة مع ابن برجان والحرالِّي وابن عربي. وفي الواقع ذهل الباحث من كثرة الدعاوى التي سفهت رجالات هذه المدرسة، فكان لزاما عليه رد الاعتبار لهم بالرجوع إلى أدلة تاريخية وشواهد نصية. ومن الأمور التي غيرت نظرة الباحث للتراث الصوفي المغربي الأندلسي، أنه اكتشف في نصوصه قضايا ورؤى جد متطورة للدين وللحقيقة الدينية، ونزعة إنسانية رحبة قادرة على استيعاب الكل الإنساني رغم اختلافاته الإثنية والمذهبية والثقافية.
وهذا في الحقيقة ليس غريبا عن المغاربة، الذين أبدعوا نظمة تربوية وروحية منفتحة على محيطها الإنساني محليا وكونيا. لذلك نرجو ـ في توصية عامة ـ من الباحثين والمهتمين بالشأن الديني المغربي في هذه المرحلة التاريخية الصعبة، أن يعيدوا النظر في كثير من الأحكام السائدة حول التصوف وأهله، وأن يكشفوا عن طاقاته المعنوية وقيمه الأخلاقية للجمهور؛ فهي قادرة على تحرير إنساننا وتنويره وتربيته وإصلاحه، وجمع الخلق على الكلمة السواء التي تصون الأبدان والأذهان من التخريب المعنوي والتلويث الديني، الذي يؤجج العنف والكراهية والبغضاء بين الخلق؛ ويسمم حياتهم اليومية الخاصة والعامة. كما نرجو ـ في توصية خاصة ـ من الباحثين وأطر البحث العلمي، العمل على توثيق علمي وعصري لتراثنا الصوفي، وتمكين الدارسين منه؛ فهذا وحده القادر على تجديد وعينا الديني وشعورنا الجمالي بهويتنا المغربية في خصوصيتها وكونيتها.
ولا بد أن ننوه في هذا الصدد بالدور الذي قامت به الجامعة المغربية وكلية آداب تطوان على وجه الخصوص في تحقيق النصوص الصوفية من خلال العديد من الرسائل والأطاريح، ونستحضر هنا بنوع من الإجلال ما قدمه المرحوم سيدي عبد الله المرابط الترغي من وسع وطاقة في تحقيق النص التراثي ولا سيما النص الصوفي المغربي، وما قدمه تلامذته من بعده. غير أن ذلك كله يعد يسيرا قياسا إلى ضخامة تراثنا الفكري والديني والعلمي والأدبي، والذي لا يزال مستورا أو مطمورا، حبيس الخزانات الخاصة والعامة، ولا يستفيد منه أحد. لا بد إذن من فك الحصار عن التصوف والنصوص الصوفية المغربية، لأنها غنية بقيم الفكر والفعل والشعور، والتي إن استثمرت جيدا علميا وفلسفيا وفنيا أمكننا إبداع ثقافة عالمة تصلح القلوب والأبدان وتصون الأذهان وتنور الوجدان. والله نسأل أن يمد في العمر وينسأ في الأجل حتى نكمل ما بدأناه في هذه الدراسة، فنزيل اللبس والإشكال وأنماط التشويه والتشويش التي لحقت بكثير من القضايا المتصلة بموروثنا الفكري الصوفي والفلسفي. منها:
ـ أصول الفكر الصوفي المغربي الأندلسي ووسائله ومقاصده.
ـ دور الصوفية المغاربة في التنوير والتحرير الدينيين للقلوب والعقول.
ـ علاقة التفلسف بالتصوف في الغرب الإسلامي.
ـ منطق الفكر ومنطق الوجدان وصلتهما بمنطق الفعل عند الصوفية.
ـ كيف فهم الصوفية الصلة بين نحو اللسان ونحو القلوب؟
ـ مفهوم العقل والتعقل عند الصوفية…