الوحدة بين المسلمين
جريدة الشمال – د. محمد كنون الحسني ( أمّة واحدة )
الخميس 18 فبراير 2016 – 16:48:28
ليست ثمة قضية أجمع عليها المسلمون قديمًا وحديثًا مثلما أجمعوا على خطورة التفرق والتنازع في دين الله، وأن الاجتماع قوة تتضاءل إلى جانبها كل القوى المتفرقة، ورغم حالة الإجماع هذه إلا أن هناك حالة أخرى من الانفضاض عن هذه الفكرة بشكل يبعث على التساؤل والدهشة، فحالات التنازع والفرقة التي يغرق فيها المسلمون حتى آذانهم تأكل أخضرهم ويابسهم، وتأتي على جهودهم للنهوض والتقدم، وتُفْشِل كثيرًا من ممارساتهم تجاه محاولات التجمُّع على كلمة سواء .
والمستفيد الأول من حالة التنازع ما بين المسلمين هم أعداء هذا الدين، سواء في الداخل أو الخارج، فتشتيت الجهود غاية كل أفاق، وأمل كل أفاك، فوحدة المسلمين سر نجاحهم وتفوقهم، ومصدر غلبتهم وقوتهم، لأن الضربات المتفرقة غير موجعة، والضربة الصادرة عن أيادٍ مصهورة في يد كبيرة قوية لا شك أنها ضربة قاصمة رادعة، توقف المنافقين ومبتغي الفتن عند حدودهم، وتردعهم عن مزيد من حملات تشويه الصورة وإسقاط الرموز.
إن إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، والوقوف على مواطن القوة فيه، والتي كان من أهم أسبابها وحدة المسلمين قلبًا وقالبًا، وانضواؤهم تحت راية واحدة هي راية الإسلام، وعدم تخوين بعضهم بعضًا، هي الاستفادة الحقيقية من التاريخ، فليس التاريخ مجرد قصص وحكايات تُقضى بها الساعات وتُقتل بها الأوقات، وليست عيشًا في الماضي، وإنما هي دروس وعبر تدفع الأمة دفعًا نحو المستقبل، بفكر واعٍ وقلب نابض بالحياة.
لقد شرع لنا ديننا الإسلامي الحنيف كل ما يقوي عوامل الألفة والاتحاد، ويزيل عوامل البغضاء والكراهة والاختلاف والفرقة، فأمرنا بالسلام وربط بينه وبين الإيمان وبين دخول الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) ،
ونهانا أيضًا عليه الصلاة والسلام عن الهجران؛ لأنه يسبّب الكراهة والبغضاء والبعد والحقد والتناحر والتدابر والتنازع والتفرق، فقال: ((لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) .
ولما كان الاختلاف مفسدًا لدين الله ودنيا الناس فقد اعتبره الإسلام انفصالاً عنه وكفرًا، فقال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِىشَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُم إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ . إن الفُرقة شطط كبير وجرم عظيم يبدّد المجتمع ويمزّق وحدته، عاقبته وخيمة: خيبة في الدنيا وخسارة في الآخرة، ومآله شر مآل، ويجر إلى أسوأ الأحوال.
ومن أعظم أنواع الخلاف وأشده على الناس، الخلاف في الدين والتفرّق في فهمه شِيعًا متناحرة وأحزابًا متلاعنة كما فعل الأولون، فقال الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم .
إن الاختلاف في الدين والتفرق في فهمه، والتعصب في تأويل نصوصه يخلق الفتنة بين الناس، والاختلاف والتباعد والتناحر، فيخطئ بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم بعضا، ويخرج فريقا منهم آخر من الدين، ويكون ذلك أعظم وأجل إذا جاء من تطاول الجاهلين، وتأويل المغرضين، وتجاسر من لاعلم له ولا معرفة على شرح النصوص وتأويلها، وإصدار الفتاوى وتنفيذها، ونصح الناس بغير علم، ووعظهم بغير معرفة، فتجد بعضهم لاعلم له بكتاب الله، ولا بسنة نبيه، ولا بالفقه وأصوله، والتفسير وأبوابه، والحديث وعلومه، والعربية ومعارفها، ولم يسمع بأقوال السلف وما أثر عنهم، ومع ذلك يتصدر للفتوى، ويخطيء العلماء، ويقف للوعظ في المناسبات وهو في أمس الحاجة إلى التعلم، بل تجده أحيانا لايعرف حتى الكتابة والقراءة، ولاحتى الضروري من علوم الدين، وهو يحلل ويحرم، يعلم ويفتي، ويعترض على أقوال العلماء، ويكفر من شاء ويخرج من الدين من أراد، بل ويحكم عليه وينفذ.
فياعجبا من هؤلاء وأشباههم من كل جاهل يدعي العلم، وأمي يتصدر المجالس يُحرِّف كلامَ الله وفقَ نعَراتٍ عصبيَّة، وأهواء حِزبيَّة، ومصالِح ذات أجندَةٍ وتبَعِيَّة، فيعمَد إلى تخصيص عامِّه ومُجمَله، أو حملِه على غير محمَلِه، يفرق الجموع ويخلق النعرات حتى داخل البيوت وبين الإخوة، فتجد من يقاطع أباه أو أمه أو أخاه لأنهم خارجون عن الملة بحكم هؤلاء الجهلة، أو مخالفون للسنة بفتوى أمي لايعرف الكتابة والقراءة، وتجد من يبتعد عن الصلاة مع الجماعة لأنهم في رأيه مخالفون للسنة مبتدعون وهو لايعرف حتى معنى السنة والبدعة.
وهذا التطفيفُ في نصوص الشَّرع الحنيف والجُرأةٍ على تفسير النصوص الكتاب والسنة، هي أساس الخلاف والفرقة بين المسلمين، وما الكوارِثُ الأليمة التي أسَّست لشرخها العميق في خاصِرة الإسلام إلا نتيجةٌ للذين اختزَلوا حقائقَ الإسلام العِظام، ومعانِيه السامِية الفِخام، وقِيَمه التي بلغَت من العدل والحكمة والرُّشد التَّمام. اختزَلوها في أسماء مُستعارة، ومُصطلحات مُستحدَثة غرَّارة، وألقابٍ وشِعارات وافِدةٍ ختَّارة، تمترَسَت خلف التطرُّف الفكريّ والشُّذوذ العلميّ، الذي تنصَّل من الاعتدال والوسطيَّة، واتخذُوهما وراءَهم ظهريًّا.
إن الشقاق يضعف الأمم، ويوهن المجتمعات القويّة، ويميت الأمم الضعيفة، واحرصوا على وحدة أمتكم المذهبية والعقدية، وخذوا العلم من أفواه العلماء، المشهود لهم بالعلم والاستقامة، وأعرضوا عن كل جاهل متطاول على الشرع وعلومه، متصدر للخطابة والموعظة وهو لايعرف حتى الكتابة والقراءة، يحلل ويحرم، وهو جاهل بأحكام الدين، يفسر الآيات والأحاديث ولا علم له بالعربية، يفسر القرآن وهو لايعرف أسباب النزول، ولا الناسخ من المنسوخ، ولا يفرق بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، وهي علوم لابد للمفسر من الإلمام بها ومعرفتها، كما لابد لكل متصدر للحديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون عارفا بعلم الحديث ومصطلحه، وبأنواعه ومراتب رواته، وبعلم الرجال والجرح والتعديل وغيرها، كما لابد لكل متحدث على أحكام العبادات أن يكون ملما بالفقه وأصوله، وبمصادر التشريع، وبكيفية استنباط الحكم الشرعي من أدلته الشرعية التفصيلية.
إن من أعظم مشاكل هذا العصر وآفاته أننا أصبحنا نرى في مجتمعنا في البيوت، والمقابر، والأندية، وفي كل مناسبة من يقف للخطابة، ويتقدم الجموع للكلام ينصح الناس ويعظهم، ويرشدهم، ثم يتخطى ذلك إلى الرد على العلماء، والتصدي لتفسير القرآن، والافتاء في الدين وهو أبعد الناس عن العلم والمعرفة، يحفظ بعض ما يسمعه على القنوات ويردده دون معرفة بأصوله ومقاصده ومراميه، فيصح فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم. ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا))؛.
لقد جاء ديننا الحنيف بالحث على التآلف والمودة واجتماع الكلمة ووحدة الصفوف والتحذير الشديد من التنافر والفرقة والشقاق والتنازع، لما للوحدة والتضامن والاجتماع والإخاء من منزلة عظيمة وآثار فريدة، ولما للفرقة والخلاف والتنازع والشقاق من آفات وأمراض كثيرة وشرور مستطيرة ، فكان من أهم ما جاء به الإسلام بعد عقيدة التوحيد توحيد الكلمة ولمّ الشعث وجمع الشمل؛ لأن في ذلك سر بقاء أهل الإسلام، وضمانة انتصارهم على أعدائهم، وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم))، وقد ضُمنِت لهم العصمة من الخطأ عند اجتماعهم، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقت، وستفترق على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلَّمة من عذاب النار، وهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي وأصحابه.
فلنحافظ على وحدتنا الدينية ولنلتزم بما عليه جماعة المسلمين من وحدة مذهبية وعقدية، ارتضاها المغاربة منذ قرون، ودرسها علماؤهم وألفوا فيها وبينوا أصولها من الكتاب والسنة، ولا نبتعد عنها باتباع المذاهب والآراء، ولنحافظ روابط الإخاء الإسلامي بينكم، ونغذّي وشائج الصدق والمحبة في مجتمعنا، ولنعلم أنه لا علاج لداء الفرقة والخلاف والتفكك الاجتماعي إلا بتتبع أسبابه وأعراضه، والجد في القضاء عليها، يصحب ذلك نية صالحة وعزيمة صادقة ورغبة وقناعة واحتساب فيما عند الله من الأجر والثواب، وتحكيم للشرع الحق والعقل الفذ، والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ، وليكن كل واحد منا جادًا في علاج هذا الداء العضال، مفتاحًا للخير والفضيلة، مغلاقًا للشر والفتنة والقطيعة والرذيلة.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي أنه نهى أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، كما نهى عن التدابر والتقاطع والتحاسد والتباغض، وأن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، فعمل على التحريش بينهم، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ، إن الشيطان كان للانسان عدوا مبينا ، وإنه حينما ترفع الأعمال إلى الله في كل يوم اثنين وخميس يغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا.
إن حقًا على كل متشاحنين لا سيما من القرابة والأرحام والإخوة في الله أن يصطلحوا، وأن يجمعوا قلوبهم، وأن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يستعيذوا بالله من نزغات الشيطان الرجيم.
ألا وإن من أهم أوجه الوحدة والبعد عن الخلاف وحدة العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله وائتلاف قلوبهم والتزامهم بالجماعة، وتفويت الفرص على الجهلة المتربصين، وفقه الخلاف وضوابط الحوار، والتعقل والحكمة وسلامة الصدور؛ ليتحقق لهم الخير الذي يريدون..