يعتبر الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش رائد البحث التاريخي الوطني المتخصص في الحقبة الوسيطية لبلاد المغرب والأندلس. لقد استطاع هذا الباحث المجدد تحقيق تراكم تأصيلي في مجال تخصصه، سواء على مستوى التأطير المنهجي، أم على مستوى التنقيب البيبليوغرافي، أم على مستوى الجرأة في اختراق حقول الطابوهات التي ظلت تكتنف تاريخ بلاد الغرب الإسلامي الوسيط. في هذا الإطار، ظل الأستاذ القادري بوتشيش دائم الحضور العلمي، متقصيا تفاصيل التاريخ المنسي، وباحثا في جزئيات تاريخ الهامش والمهمشين الذين أسقطتهم الإسطوغرافيات التقليدانية من دوائر اهتماماتها التدوينية، وطارحا للأسئلة الملتهبة حول مسارات تكون البنى المجتمعية وأنظمة السلط والتراث الرمزي والنظم المعيشية التي انتظمت في إطارها حياة الفرد والجماعة بالمغرب الوسيط.
لم يكتف الأستاذ القادري بوتشيش بحلقات الدرس الأكاديمي في إطار وظائفه المهنية الجامعية، ولكنه ارتبط بمجال النشر الأكاديمي وبمجال تعميم المعرفة التاريخية من خلال الوسائط الحديثة مثل الندوات، واللقاءات العلمية، والنشر الألكتروني،… لقد طرح الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش أسئلة مركزية في فهم بنية الدولة والمجتمع المغربي الوسيط، ليتجاوز –بذلك- انغلاق المتون الكلاسيكية، وليضع قواعد علمية رصينة لإعادة قراءة “بياضات” هذه المتون من جهة، ثم لإعادة تفكيك الخطاب الكولونيالي الوظيفي حول تاريخ المغرب الوسيط من جهة ثانية. لم يقدم الأستاذ القادري بوتشيش أجوبة جاهزة في دراساته، ولم يدافع عن التنميطات المنهجية المستنسخة والمرتبطة بتطور مناهج البحث التاريخي المعاصر، ولم ينبهر ببريق المدارس التاريخية الغربية المتخصصة في تاريخ الغرب الإسلامي الوسيط، ولكنه اختار –في المقابل- الطريق الشاق في العودة للموضوع بحس نقدي يعيد طرح الأسئلة المركزية في البحث وفي التنقيب، ويعيد تفكيك المدونات الإسطوغرافية الكلاسيكية والمجددة، ويعيد ترتيب أولويات البحث والتقصي، قبل أن يعيد تركيب نتائج الجهد النظري والمنهجي في البحث وفي التأصيل لمعالم توجه أصبح عنوانا للبحث الأكاديمي والجامعي الوطني المتخصص في تاريخ المغرب الوسيط.
واعترافا بقيمة هذا الوضع الاعتباري المتميز الذي أضحى للأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، نظمت الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية ندوة تكريمية لفائدة هذا الباحث المجدد، سنة 2018، بمدينة تطوان. وقد صدر الجزء الثالث من أعمال هذه الندوة العلمية الرفيعة سنة 2020، تحت عنوان “التاريخ الاقتصادي والاجتماعي وتاريخ الذهنيات بالمغرب والأندلس- قضايا وإشكالات- الجزء الثالث: تاريخ الذهنيات والأفكار”، وذلك في ما مجموعه 472 من الصفحات ذات الحجم الكبير، احتوت على دراسات غزيرة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية. وبخصوص الإطار العام الذي وجه المضامين العامة لمجمل المداخلات، نقرأ في تصدير الكتاب: “تروم هذه الأبحاث التي خطتها أقلام مجموعة من المؤرخين والشخصيات العلمية الوازنة في عالم الفكر والتاريخ من العالم العربي وأوربا وآسيا، تحيين موضوع التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والذهني والثقافي، وإعادة السؤال حول دور هذا الثالوث (الاقتصاد، المجتمع، الذهنيات) في إنتاج خطاب معرفي جديد يقدم فهما آخر للتاريخ، ويفتح ملفات اجتماعية مهملة في المتون التاريخية، وإلقاء الضوء على الفئات الاجتماعية التي أسقطتها كتب التاريخ. كما يرصد الكتاب مجموعة من المشاهد حول المجتمع المغربي الأندلسي، وعاداته وطقوسه وتمثلاته الشعبية، ومنظومته الاقتصادية، مما يجعله قيمة مضافة للدراسات المغربية الأندلسية، وموردا لإنتاج أسئلة جديدة يؤدي تناسلها إلى تحويل تاريخ المغرب والأندلس إلى درس متجدد”.
في إطار هذا التصور العام، احتوى الكتاب على دراسة لعز الدين جسوس حول الأسطورة والمتخيل في تجربة السلطة الموحدية، ودراسة لعبد الهادي البياض رصد فيها أثر التغيرات المناخية في التمثلات الشعبية بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط. ومن جهته، ساهم جعفر ابن الحاج السلمي بدراسة حول الكيمياء في الغرب الإسلامي، وقدم علي بن سعيد الريامي قراءة في دلالات الخطاب الكرامي عند الدرجيني من خلال كتابه “طبقات المشايخ بالمغرب” كمساهمة في دراسة ذهنية الإباضيين بالغرب الإسلامي. واهتم سمير أيت أومغار بموضوع الحرائق في المدينة المغربية الوسيطية كتجل للعلائق المتعارضة بين الإنسان والنار. وتناول عبد الجيد بهيني البعد الأنتروبولوجي- الثقافي في رحلة ابن جبير الأندلسي. واهتم رابح مغراوي بالبحث في مميزات الشخصية الغرناطية من خلال تقديم قراءة تحليلية في اللهجة والسحنة واللباس. وتوقف عمر لمغيبشي عند العوائد الجنائزية ليهود تطوان، في حين ركز طارق بشسي على إبراز إسهام المقاربة الطوبونيمية التاريخية في فهم ذهنية المجتمع المغربي من خلال التركيز على نموذج مدينة فاس خلال العصر الوسيط. أما مصطفى نشاط، فتناول –في دراسته- مقدمات التعاطي للقنب الهندي بالمغرب الوسيط، وقدم محيي الدين صفي الدين نماذج من السلوكات الجنسية المحرمة في الأندلس الأموية. وتناول محمد البركة موضوع الرشوة والاجتماع البشري وعلاقة ذلك بخراب العمران. وتوقفت صباح علاش لرصد بعض الجوانب من عقليات الريف خلال العصر الوسيط، مركزة على واقعة ادعاء حاميم للنبوة. وفي سياق مختلف، اهتم محمود إسماعيل عبد الرازق بموضوع فلسفة التأويل الديني للتاريخ بين الفلاسفة والمؤرخين. وتناول وجيه كوثراني موضوع ابن خلدون بين موقف المؤرخ الوضعي المجدد ووطأة الفقيه الإيديولوجي المحافظ. وقدم صالح بن محمد السنيدي قراءة في نظرية إجناثيو أولاجوي في فتح الأندلس. وتوقف أنطونيو بلليتيري عند تصور المستعربين الصقليين لشخصية الرسول (ص)، واهتم محمد رزوق بموضوع موقف ابن عاصم من أزمة الأندلس. وطرح محمد حبيدة سؤالا منهجيا عميقا حول التحقيب التاريخي المؤطر لمضامين الكتاب: “كيف ابتكر المؤرخون العصر الوسيط؟”. واهتم إدريس بوهليلة بإبراز أهمية الوثائق المخزنية باعتبارها مصدرا لتاريخ المغرب الاجتماعي. وتناول سعيد بنحمادة موضوع ثقافة النظافة والتجميل بمجتمع المغرب والأندلس. وفي نفس السياق، توقف رامي ربيع عبد الجواد راشد لرصد مظاهر الوحدة الفنية بين غرناطة النصرية وفاس المرينية وتلمسان الزيانية خلال القرنين 13- 14م. واهتم طارق منصور بقضية يحيى الغزال باعتباره سفير الغرام في بلاط ملك المجوس. وقدم محمد الشريف دراسة حول ظاهرة خطف البنات وهروبهن بالمغرب نهاية العصر الوسيط. وتناولت سعيدة الأشهب عادات المرأة وأدوارها في العائلات الشريفة بشمال المغرب خلال القرن 13ه. وعادت نادية لعشيري للبحث في موضوع الجمال الأنثوي بالأندلس، وختم امحمد بن عبود مضامين الكتاب بدراسة حول المكونات الثقافية المغربية الأندلسية.
وبهذه المواد الغزيرة والمتنوعة، والتي أشرف الأستاذ محمد الشريف على تنسيق مضامينها، أمكن تقديم عمل غير مسبوق في مجال تخصصه، لا شك وأنه يفتح الباب واسعا أمام جهود إعادة قراءة صفحات تاريخ المغرب الوسيط، بانغلاقاته، وببياضاته، وبطابوهاته، وقبل ذلك، بأسئلته النقدية الجريئة.
أسامة الزكاري