… بعد اطلاعه على الإطار المعرفي و الثقافي للمجتمع التطواني ، و دراسة جزء من ذاكرته ، يستنطق الشيخ عبد العزيز بن سعود العويد في رحلته إلى تطوان النصوص التأريخية لثلاثي مؤرخيها من خلال مؤلفاتهم : “نزهة الإخوان في أخبار تطوان” للسكيرْج ، و “عمدة الراوين في أخبار تطاوين” للرْهوني ، و “تاريخ تطوان” لداوُد . لينسج عبارات أدبية فاتنات للحمامة البيضاء ، يتقاطع فيها الشعر مع الفنّ .
و قد رسم الشيخ بفرشة قلمه لوحة فنية كلاسيكية لحاضرة مغربية ذي طابع أندلسي ، يرى من خلالها ، المشاهد و القارئ ، الكثير من تفاصيل العادات و التقاليد العريقة التي تكسبُ المجتمع أهمية خاصة . هي نفائس من كتابات الشيخ ، من جنس آداب الرحلات ، يوَثق فيها خصوصيات مجتمع عربي مسلم ، تعبيراً عن شظايا الروح الإيمانية التي تجمع بين المشرق العربي و المغرب ، في ضوْء سياقها التاريخي و على امتداد الحاضر .
– ما الذي جعل الشيخ يختار حاضرة تطوان ؟ لعلّ الشيخين الكريمين القطريين النزيلين برياض دار أشعاش بتطوان ، أوْحوا إلى هذا العالم في زيارته التوثيقية إلى إفريقيا ، أنْ يخصص بالذكر المجتمع المغربي التطواني ، ليكشف للمشرق العربي قلة فهم المغربي المعاصر الراهن ، وهو جزءُ من اللحمة العربية في أقصى الغرب ، و على ضفاف البحر الأبيض المتوسط و المحيط الأطلسي،في سياق استشرافي . لإيضاح المعالم الحضارية العربية الإسلامية التي حافظتْ عليها العوائل من أصول أندلسية و التي تفرَّدَتْ بها الأسر التطوانية . دراسة جاد بها الشيخ الكويتي ، وهو يشيد بسلوك و أخلاق التطوانيين . جلوساً ، كان الشيخ مع شخصيات علمية رفيعة المستوى ، و هم عالمين من قطر و عالمين من تطوان ، على عشب رياض درا أشعاش . قلَّ من ينتبه من المثقفين ، بعد سقوط غرناطة سنة 1492م/889ه ، و اللجوء لما بقي حياً من الإسبان الأندلسيين المسلمين ، فارين بدينهم من محاكم التفتيش الكنائسية ، إلى الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط ، و قد حطوا رحالهم على أنقاض مدينة تطاوين ، بعد عصر الفاتحين قبل ثمانمائة عام . فكثير من هؤلاء السكان ترجع أنسابهم إلى القبائل العربية من بني تميم ، و منهم القائد أحمد بن تميم . لينصهر الأندلوسيون بالسكان الأصليين الجبليين و الريفيين ، وهي ثلاثية العناصر التي تكوَّنتْ منها اللحمة التطوانية في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) ، و كجميع شؤون النوْع الإنساني اختلطتْ الأجيال بعد الأجيال ، بعوامل الهجرة ، فكان المغربي العربي ينطق بلسان عربي مبين .أنشأوا اسمها في الأرض التي استوحوا منها عنوانها من الواقع ، وهي تطاوين . و “تط”(بكسر التاء) تعني كلمة الماء بالريفية (الأمازيغية) .وهي حاضرة غزيرة المياه الجوفية . وهي أسضاً وعاء لمياه تنحدر من جوْف جبلين (دْرْسَة/غرْغيزْ) لتكوّنَ فرشة مائية لحوْض تطاوين . و بها إلى يوم الناس هذا ، جماعة تسمى حوْمة العيون . تجدر الإشارة إلى أنَّ من بين ما ذكره الشيخ عبد العزيز سعود العويد ، عن حديث بعض الفضلاء، أنَّ أحد الكويتيين تبر{َع بقطعة أرض لجامعة القرويين ، و صارتْ كلية أصول الدين بتطوان ، مع رفض هذا المحسن الإفصاح عن اسمه . لكون علماء تطوان معروفين بالعلم الواسع و الفهم الثاقب ، ولهم علاقات وثيقة بالمشارقة . وكانت قد تعاقدتْ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مع الشيخ محمد بن تاويت . كما كان الشيخ محمد العربي الخطيب قد استفاد عند رحلته إلى قاهرة المعز لدين الإسلام الفاطمي ، من الشيخ رشيد رضا . ثم استطرد بالقول عن طبائع و تقاليد أهل هذه الحاضرة ، ليقرّب الصورة الحقيقية من هذا المجتمع المغربي العربي الأندلسي ، المتماسك في البعد التركيبي و المشهد البحثي و الفكري . و من الظواهر التي تميزتْ بها ، تلك الزيارات العلمية من العلماء ، و من جملتهم ، العالم الجليل الشيخ تقي الدين الهلالي ، و محمد ناصر الألباني و أبو بكر الجزائري الذي استفاد منه الشيخ محمد بوخبزة ، ناهيك عن العالم الشيخ القرضاوي و العالم الشيخ محمد الغزالي ، و آخرون كثر . و قد أجهد أخونا الشيخ الكويتي قلمه ، وما يتوافر عليه من أدوات لغوية و أدبية و علمية ، في تسلسل منطقي من القوة اللفظية و الدلالية ما يكفي لتوثيق دراسة سسيولوجية للمجتمعات الإفريقية و العربية ، آخذاً كنموذج المغربية منها ، و يخص بالذكر التطوانية . و حول التوصيف الجميل لطبيعة أهالي تطوان ، وجداناً و روحاً و انتماءاً ، كقوله : صغيرة المبنى ، لكن عظيمة المعنى ، تحيط بها السّوار بالمعصم . الألفة الحاضرة بين أهلها و لم أجدْ الأنسَ الذي وجدته في تطوان كأنهم بيت واحد . كأنك تعرفهم منذ زمن بعيد ، ممّا أكسبها نوْعاً من الخصوصية . و من جملة الرياض التي زرتها بل وقد تكون أجمل و أنهى حديقة زرتها ، هو(هي)رياض دار أشعاش . في ربوعها الخضراء ، و الحديقة الفيحاء . المدينة العتيقة أندلسية المعمار ، جميلة في أزقتها و دروبها (شوارعها) . أسرُها ظلوا محافظين على عاداتهم ، وقد يلمس ذلك كلُّ من دخل بيتاً من بيوت تطوانية .
– هو الشيخ العالم الذي يتحكم في هوية لغته ، كتعريف ابن سنان الخفاجي في اللغة (466ه/1073م) : هي عبارة عمّا يتواضع القوْمُ عليه من الكلام . وهي ملكة فطرية . من المستملحات الذي ذكرها الشيخ ، و رواها عن أسرة أشعاش (دار المخزن) : أنه حدث ذات مرَّة ، و في زمان القائد محمد أشعاش ، انَّ شخصاً ما ، قام بسرقة حمام ، ، فاختصم المسروق إلى القائد ، الذي جمع رجال الحي للتقصي عن ذلك ، و لمّا عجز عن معرفة الجاني ، لجأ إلى حيلة من حاسة اللمس ، قائلاً : إنَّ ريشة الحمام المسروق أراها على لحية السارق ، فوضع أحدُهم يدَهُ على خدّه ، ثمَّ قال القائد : أنتَ السارق . كانتْ للشيخ مجالس العلم مع الدكاترة القطريين (أحدُهما من أمراء قطر) ، و شيخين مغربيين ،وهما الدكتور توفيق بن أحمد الغلبزوري الإدريسي ، أ. بكلية أصول الدّين بتطوان و رئيس المجلس العلمي المحلي للمضيق ، و الأستاذ أحمد بوزيان ذ. بنفس الكلية (سابقاً) و عضو المجلس العلمي المحلي بتطوان ، في حضرة الأستاذ عمر أشعاش سليل هذه الأسرة و مؤلف كتاب “أسرة أشعاش التطوانية-استرجاع ذاكرة” . قديماً قيل ، وما الإنسان لولا اللسان، وعلى لسان (الرطب بذكر الله تعالى) للشيخ العالم عبد العزيز بن سعود العويد ، وهو يشير إلى شخصية د.توفيق الغلبزوري ، ليقول في حقه :
إنْ أردتهُ فقيها فهو فقيهٌ بلا مرفإ ..وإنْ أردْتهُ خطيباً فهو خطيبٌ مصداق.
أعقبها بأبيات من البحر الطويل للشاعر “أبي تمام” جاء فيها:
هو البحرُ من أي النواحي أتيتهُ ~ فلجتهُ المعروفُ و الجودُ ساحلهُ
كريمٌ إذا ما جئتَ للخير طالباً ~ حباكَ بما تحتوي عليه أناملهُ
ولو لم تكنْ في كفه غيرُ نفسه ~ لجادَ بها فليتَّق اللهَ سائلهُ
و بملكة متألقة يصفُ منزل الأستاذ أحمد بوزيان ، أحد أبناء رجال المقاومة و الجهاد مع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ، وهو كريم بن كرام ، قائلا : من زار تطوان و لم يزر مجلس الشريف أحمد بوزيان ، ما زار تطوان .
– لرحالة الدنيا محمد بن ناصر العبودي مقولة مشهورة : أكرمُ ما رأيتُ من العرب أهلَ المغرب . و يختم الشيخ عبد العزيز بن سعود العويد : و الله ما شهدنا إلا بما علمنا .
– لقد أخبرتني أمي أنهُ يتحتمُ علينا أنْ نتحدث العربية ، و بعباراتها ، أنجزتُ هذا المقال نزولا عند رغبة الدكتور الشيخ جابر الجاسر ، أحد الشيخين الجليلين من دولة قطر الشقيقة ..
عبد المجيد الإدريسي .