تقرير حول مؤتمر حازم القرطاجني وقضايا تجديد الرؤية والمنهج في البلاغة العربية القديمة
جريدة الشمال – فرح الشويخ، وأبو مدين شعيب تياو، وأبو الخير الناصري ( تقرير )
الثلاثاء 05 شتنبر 2017 – 11:47:35
• نظّمَت شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، مؤتمرا علميا دوليا في موضوع “حازم القرطاجني وقضايا تجديد الرؤية والمنهج في البلاغة العربية القديمة” وذلك يومي الثلاثاء والأربعاء 14 و15 من نوفمبر 2017م بقاعة العميد محمد الكتاني بالكلية.
وقُدّمت في هذا المؤتمر أبحاث لعلماء وباحثين من مصر والمغرب، وتوزعت أشغاله على جلسة افتتاحية، تلتها ثلاث جلسات علمية، فجلسة ختامية…
الجلسة الافتتاحية
بعد افتتاح أشغال الندوة بتلاوة آيات من كتاب الله تعالى رحّب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان الدكتور محمد سعد الزموري، بالمشاركين والحاضرين، ونوَّه بعَقد هذا المؤتمر الدولي، واصفا إياه بكونه يبعث رسائل من بينها أنه يحتفي برمزٍ من رموز الانفتاح والتفاعل الإيجابي مع الآخرين والتواصل مع الفكر اليوناني، وهو حازم القرطاجني، وقال إن هذا المؤتمر يستبطن دعوة للانفتاح والتفاعل الإيجابي مع منجزات الحضارات المختلفة. ووعد السيد العميد في كلمته بطبع أعمال الندوة في كتاب يُضاف إلى المنشورات العلمية للكلية.
تناول الكلمة بعد ذلك رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها بالكلية الدكتور محمد الحافظ الروسي، فرحّب بدوره بالمشاركين في المؤتمر والحاضرين، وأشار إلى جملة من مميزات حازم القرطاجني التي جعلته يتبوأ مكانة رفيعة في تاريخ البلاغة العربية، كقدرته على الإحاطة بأعقد المسائل، وكونه نظر إلى القضايا التي تعرض لها من جهة جديدة، وبمنهج مبتكر، اعتمادا على المقولات العشر الأرسطية حينا، وعلى قواعد الفقه المالكي حينا آخر، وعلى ما توصل إليه علماء اللغة والبلاغة والعروض من أهل العربية إلى زمانه في كل الأحيان.
أما رئيس اللجنة العلمية المنظمة للندوة الدكتور عبد الرحمن بودرع فمما جاء في كلمته أن مركزية كتاب “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” لحازم هي الدافع لعقد هذا المؤتمر “احتفاءً بهذا العَلَم، وإحياءً لعِلْمه، ووَصْلا له ببعض مباحث العصر مما جَدَّ في الدرس البلاغي واللساني الحديث”.
وختم د.بودرع كلمته بشكر الباحثين المشاركين الذين حضروا إلى تطوان، وعبر عن أسفه على عدم تمكن بعضهم من الحضور من خارج المغرب لأسباب مرتبطة بطرق استصدار التأشيرات من بعض الدول، كما شكر عمادة الكلية وإدارتها وجميع الذين أسهموا في إنجاح هذا الحدث العلمي الكبير.
الجلسة الأولى برئاسة الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي
قُدّمت في هذه الجلسة أربعة أبحاث أولها بعنوان: “المعاني الثواني عند حازم: كشفٌ وبيانٌ ونَمْذجة” للدكتور محمد الحافظ الروسي. وقد مهَّد لبحثه بالقول إن حديث حازم في المعاني الثواني هو مِنْ أَغْمَض كلامه في “منهاج البلغاء وسراج الأدباء”، وإن الدارسين قد تَحامَوا الوقوف عند هذه المسألة لغموضها، وخلطوا بين المعاني الثواني عند حازم وبينها عند عبد القاهر الجرجاني، مضيفاً أن السبيلَ لتيسير نظرية حازم هو التمثيلُ لها، خصوصا أن صاحب “المنهاج” تَرك التمثيل لنظريته.
لذلك ركز د.محمد الحافظ على كشف المراد بالمعاني الثواني عند حازم، سعيا منه لرفع اللبس الواقع في فهم هذا المصطلح، وجاءت مداخلتُه في أغلب فقراتها تحليلاً لنماذج من الشعر العربي (كقصيدة الأعشى التي مطلعُها: شريحُ لا تتركني بعدما علقتْ/// حبالك اليومَ بعد القِدّ أظفاري)
و بيَّنَ المعاني الأُوَل والمعاني الثواني في كل قصيدة من القصائد التي درسها، ليؤكد أمورا من أبرزها:
– أن المعاني الأُوَل عند حازم هي تلك التي لها علاقة مباشرة بغرض القصيدة.
– وأن المعاني الثواني هي التي ترد على سبيل الإحالة، كذكر واقعة تاريخية على سبيل الاستدلال أو التشبيه مثلا.
– وأن المعاني الثواني لا يكون ذِكْرُها مقبولا إلا بأحد شرطين:
أحدهما: أن تكونَ أشهرَ من المعاني الأُوَل، وتأتي حينئذ للتوضيح.
وثانيهما: أن تكونَ مُساوية للمعاني الأُوَل في الشهرة، وتأتي حينئذ للتأكيد.
بعد ذلك تناولت الكلمة الدكتورة بشرى تاكفراست، وتحدثت في موضوع “نظرية الشعر عند حازم القرطاجني، قراءة في مفهوم الأسلوب ومعنى التناسب الشعري”. وجعلت دة.بشرى مداخلتها في محورين:
محور أول أفردته لبيان خصائص حديث حازم في الأسلوب، موازِنَةً بينه وبين ما قاله ابن قتيبة والجرجاني في الأسلوب، ومنتهيةً إلى نتائج من بينها أن الأسلوب عند حازم ضرْبٌ من النظم مخصوص بالمعاني، قائلة – في هذا الجانب – إن صاحب “المنهاج” تأثر بالنظرية الجرجانية في دراسة الأسلوب، وذلك حينما ربط الأسلوب بالصياغة.
ومحور ثان قاربتْ فيه تصور حازم للتناسب الشعري، فنَفَتْ أن يكونَ المرادُ بالتناسب هو مفهوم الوحدة العضوية كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، وذكرتْ موضوعاتِ هذا التناسب في “المنهاج” كتناسب الحرف مع اللفظ، وتناسب المعنى، وتناسب الغرض والأوزان..لتخلص، في آخر مداخلتها، إلى خلاصاتٍ منها كَوْنُ حازم صاحبَ أنضج تصور في النقد العربي، وتَجاوبُ نظريته مع المنطق والفلسفة والإبداع.
أما البحث الثالث فعنوانه “مفهوم الشعر وقضاياه لدى حازم القرطاجني”. وانطلق فيه صاحبُه الدكتور مصطفى اليعقوبي من تعريف الشعر في اللغة، ثم عرج على تعريفاته عند النقاد والبلاغيين قبل أن يفرغ للحديث في مفهومه عند حازم، وبيان مميزات تعريفه له عن تعريفات غيره.
ومما توقف عنده د.اليعقوبي الصفات الأربع للشعر في “المنهاج”، وهي الشعر الحقيقي، والحَسَن، والمنظوم، والمُرَوّى، مبينا رأيَ حازم في كل منها.
كما بسط القول في قضايا الشعر عند حازم، ومنها أغراضه، وصلته بالمعاني العلمية، والشعر بين الصدق والكذب، وتأثر حازم بفلاسفة الإسلام الذين لخصوا كتاب الشعر لأرسطو، مع الاستشهاد، عند الحديث عن كل قضية قضية، بنص من “المنهاج” وشرحه لبيان تميز نظرة حازم إلى الشعر.
وخُتمتْ هذه الجلسة ببحث للدكتورة أمان أبو الفتوح، نابتْ عنها في قراءته الدكتورة أسماء الريسوني، وهو بحث بعنوان “المحاكاة والتخييل، رؤية جديدة للتصوير الشعري عند حازم القرطاجني”.
وقد مهَّدت الدكتورة أمان لموضوعها بالإشارة إلى تميز “المنهاج” عما سبقه من مؤلفات بلاغية ونقدية، قائلة إن حازما كان واعيا بتفرّد مسلكه في دراسة قضايا البلاغة والنقد. وجعلت الباحثة حديثها عن التصوير الشعري في سبعة محاور هي:
1/ معنى الصورة عند حازم.
2/ منهاج البلغاء: جِدّة الدرس وغياب القسم الأول من الكتاب.
3/ التخييل والمحاكاة والتصوير الشعري.
4/ الأصول الحاكمة للصورة الشعرية عند حازم (ومنها: التناسب والنظام، ومراعاة العُرف اللغوي عند العرب…).
5/ خصائص الصورة الشعرية عند حازم.
6/ موقف حازم من التجديد في الصورة الشعرية.
7/ وظيفة الصورة الشعرية عند حازم.
واستشهدت، في جميع هذه المحاور السبعة، باقتباسات من كتاب “المنهاج” لبيان تصور حازم للمحاكاة والتخييل والتصوير الشعري.
الجلسة الثانية برئاسة الدكتورة سعاد الناصر
قدّمت في هذه الجلسة أربعة أبحاث علمية:
أما الأول فقد كان بعنوان “بناء النص الشعري عبر منظومة حازم القرطاجني الاصطلاحية” ألقته الدكتورة سحر محمد فتحي عبد العليم. وقد بينتْ في بدايته كثرة المصطلحات التي يحفل بها كتاب “منهاج البلغاء وسراج الأدباء”، ومركزيتها في نظرية حازم القرطاجني، إذ لا يمكن فهم هذه النظرية إلا بضبط تلك المصطلحات وفهمها، ومن أجل ذلك قامت برصدها وتتبعها وتحديد مفاهيمها، وتصنيفها، والوصول إلى أنها على ثلاثة أضرب:
1- مصطلحات قديمة، كانت متداولةً في كتب الذين سبقوا حازماً.
2- مصطلحات قديمة، لكن وضع عليها حازم بصمته الخاصة.
3- مصطلحات مبتكرة، وضعها حازم نفسهُ.
وقد تعرضت الدكتورة سحر لبعض هذه المصطلحات بالبيان والدراسة، وتكلمت عن مفهوم الشعر عند حازم القرطاجني، وعن مقوماته، وما ينبغي أن تتوفر فيه من عناصر كالمحاكاة والتخييل، مما يجعله قويَّ التأثير في المتلقي، ويترك فيه هزةً.
كما تعرضت للمعاني الذهنية، ولفصول القصائد –أي المقاطع -، وتكلمت عن التناسب الذي يكون بين التأليفات اللفظية من جانب، وبين الغرض والوزن من جانب آخر، وغير ذلك، مما أفاضت فيه الكلامَ، وتناولته بدراسة مبسوطة.
وأما البحث الثاني فهو: “مظاهر التجديد في التفكير النقدي عند حازم القرطاجني” وألقاه الدكتور محمد القاسميّ.
وقد ذكر المحاضر في أول كلامه تأثيرَ المذاهب الكلامية والاتجاهات العقدية والفلسفية في تحديد النقاد لمفهوم الشعر ومقوماته، وظهورَ ثلة منهم ركزوا على بيان ماهية الشعر وأدواته، ومنهم أبو هلال العسكري، وقدامة بن جعفر، وابن طباطبا العلوي، فهؤلاء حرصوا على بيان مفهوم الشعر، وعلى تمييز جيده من رديئه، وتحاشوا الكلام عن السياقات الاجتماعية والأخلاقية، وانحصرت نظريتهم في عناصر الشعر الشكلية، كاللفظ والمعنى والوزن.
وتكلم الدكتور عن استفادة حازم القرطاجني من جهود سابقيه في ضبط الصناعة الشعرية، وعن دعوتِه إلى تجاوز الأمور الشكلية التي وقف المتقدمون على رسومها، وثنائياتٍ أسرفوا فيها كالصدق والكذب، وكذلك دعوته إلى وضع نظرية شاملة وقوانين منطقية تقوم على حسن المحاكاة وفاعلية التعجيب.
وقد حاول الأستاذ الدكتور تفكيك هذه المفاهيم وبسط الكلام في دراستها، فتكلم عن التخييل وكونه بؤرة نظرية حازم، لحضوره في مختلف عناصر الصناعة الشعرية كاللفظ والمعنى والوزن والأسلوب، كما تكلم عن المحاكاة، وعن الغرابة التي هي مكون جوهري في الخطاب الشعريّ، وعن التناسب الذي يبعِّده من التنافر بين الألفاظ والتضاد بين المعاني، وهو – عند حازم – القانون الذي تعود إليه عملية الإبداع الشعري، واستشهد المحاضر على ذلك كله بنصوص من “المنهاج” مبينًا مظاهر التجديد في نظرية حازم القرطاجني، ومقارِنا حينا بينه وبين النقاد الآخرين كعبد القاهر الجرجاني.
أما المداخلة الثالثة فكانت بعنوان:”النظم عند حازم القرطاجني: دراسة في المفهوم والمصطلح”، وألقاها الدكتور عدنان أجانة. وقد تكلم في البداية عن مصطلح النظم، وعن معناه ومفهومه الذّائع عند كل طائفة من العلماءِ، فذكر مفهومه:
– عند الأدباء والنُّقّاد الذين يستعملونه في مقابل النثر تارةً، وبمعنى نمط تأليف الكلام تارة أخرى، ومن هؤلاء ابن المقفع والآمدي وابن قدامة وغيرهم.
– وعند المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة الذين يريدون به الطريقة أو الضمّ على طريقة مخصوصة، فهؤلاء على اختلاف مشاربهم استعملوا كلمة النظم وجعلوها مدارَ الإعجاز، ومنهم الجاحظ، ومن جاء بعده كعبد القاهر الجرجاني الذي حاول وضع أصول النظم وتحرير مباحثه، وذلك في كتابيه “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز”.
– وعند الفلاسفة كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وهؤلاء لم ينظروا إلى النظم نِظرة الطائفتين المتقدمتين.
وذكر أن حازما لم يطلع على جميع ما كتبه هؤلاء في النظم ولا على مناهجهم فيه، وأن عمدته عند تأليف “المنهاج” كانتْ غالبا على سرّ الفصاحة لابن سنان، ونقد الشعر لقدامة، والعمدة لابن رشيق، وهي كتبٌ لا تحتوي على النظم بمفاهيمه المختلفة، ومع ذلك فقد أسهمتْ في تشكّل نظريّة النّظم عند حازم، وساعدته على الإضافة والتجديد مفهومًا وتوظيفاً.
وخصص الدكتور عدنان القسم الثاني من مداخلته للكلام عن مُصطلح النظمِ في “المنهاج”، وبين أنه يرد في الكتاب على معنيين: الأول في مقابل النثر، والثّاني: في مقابل المعاني واللفظ والأسلوب، وكل أولئك تتبعه الأستاذ المحاضر، وبيّن ما يمتاز به النظم عند حازم، وتخالفه والنظمَ عند عبد القاهر الجرجاني. وذكر أيضا مفهوم النظم عند حازم، وأنه: «صورة كيفية الاستمرار في الألفاظ والعبارات والهيئة الحاصلة عن كيفية النقلة من بعضها إلى بعض وما يعتمد فيها من ضروب الوضع وأنحاء الترتيب» أو أنه «هيأة تحصل عن التأليفات اللفظية» كما تكلم عن القسم الثالث من «المنهاج» الذي خصصه حازم للكلام عن النظم وما تعرف به أحواله من حيث يكون ملائما للنفوس أو منافراً لها من قوانين البلاغة، وجعله قائما على أربعة مناهج:
المنهج الأول: في الإبانة عن قواعد الصناعة النظمية.
والمنهج الثاني: في الإبانة عن أنماط الأوزان في التناسب.
والمنهج الثالث: في الإبانة عما يجب في تقدير الفصول وترتيبها ووصل بعضها ببعض وتحسين هيآتها.
والمنهج الرابع: في الإبانة عن كيفية العمل في إحكام مباني القصائد وتحسين هيآتها.
وبذلك يكون حازم – كما ذكر الأستاذ المحاضر – قد حاول أن يؤصل بلاغة النظم على نمط لم يسبق إليه.
وقد ختمت هذه الجلسة العلمية بمداخلة رابعة للدكتور أبي الخير الناصري عنوانها:”إشكال الأصول بين حازم القرطاجني وميثم البحراني”، قدم فيها موازنة بين العالمين الجليلين، واستهل حديثه بتعريف مختصر عن ميثم البحراني – وهو أحد علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية، وله مؤلفات منها “أصول البلاغة” و”شرح نهج البلاغة -، ثم تصدى للكلام عن منهج تصرف حازم في أصوله النقدية والبلاغية، وذكر منها: 1/ إغفال ذكر الأصل (كالنصوص التي أخذها عن “سر الفصاحة” لابن سنان الخفاجي، و”العمدة” لابن رشيق القيرواني). 2/ وأخذه ما في الأصل دون تغيير (كوصية أبي تمام للبحتري التي أخذها حازم من “العمدة”). 3/ بالإضافة إلى إتمام ما في الأصل من نقص (كما في تعقيبه على رأي أرسطو في القوانين الشعرية، إذ بيَّن قصور هذه القوانين؛ لأنها موضوعة حسب مذاهب اليونان في الشعر).
ثم بين الباحث منهج ميثم البحراني في التصرف في الأصل الذي أخذ منه، وهو “نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز” للرازي، وذكر من طرق تصرف ميثم ما يلي: 1/ تغييب سياق كلام الرازي، ونبه أن سبب ذلك يعود تارة إلى أن السياق لا يتناسب ومذهبَ ميثم الكلاميَّ. 2/ وحذف مواضع الخلاف، ومثَّل لذلك ببعض ردود الرازي على المعتزلة مما حذفه ميثم. 3/وتغيير الشواهد والأمثلة، حيث يستغني ميثم تارة عن الأمثلة المستقاة من الكتاب والحديث، ويستبدل بها كلامَ الإمام علي – كرم الله وجهه -، وذلك يدل على مكانته عندهم وحرصهم عليه.
وقد حرص المتدخل على الموازنة بين أصول الرجلين، ونبه، استنادا إلى نصوص من “المنهاج” ومن مؤلفات ميثم، إلى أن الطابع الغالب على حازم هو الاعتماد على عقله وذكائه، مع التجرد والإنصاف، وأما ميثم فيغلب عليه النقل، والتعصب لمذهبه الكلامي، ما أثر في منهجه تأثيرا بالغاً، وكذلك فإن الأصول التي رجع إليها حازم متفرعة ومتنوعة، ومنها أصول عربية، ومنها أصول غير عربية كالفلسفة الأرسطية، وهذا التنوع زاد بحثه عمقا وغناءً.
الجلسة الثالثة برئاسة الدكتور محمد الأمين المؤدب
كان أول بحث قُدِّمَ في هذه الجلسة موسوما بـ”نظرية الوزن والغرض في الرؤية البلاغية العامة، نحو نموذج لتكامل مفهوم الشعر عند حازم القرطاجني” قدمه الدكتور عبد الإله كنفاوي.
أَكَّدَ المتدخل في البداية أنَّ إشكالية الوزن والغرض موضوع يصب في صميم نظرية الشعر عند حازم القرطاجني، ولا يمكن الحديث عن هذا الموضوع دون التطرق إلى حديث حازم عن مفهوم الشعر، وكان حازم قد اعتبر الوزن غير كاف لكي يُنْتِجَ الشاعر شِعْرَه بل لا بد أن يتضافر مع العنصر التخييلي، وسيصبح الشعر معه هو هذه النظرة الانفعالية التي ستساهم في تحريك المتلقي، وهذا التخييل يقع من أربع جهات: من جهة المعنى، ومن جهة الأسلوب، ومن جهة اللفظ، ومن جهة النظم والوزن.
وقد تَسَاءَلَ الدكتور الكنفاوي كيف عالج حازم مبحث تناسب الأوزان والأغراض، مما حَتَّمَ عليه الوقوف عند ثلاثة محاور رئيسة، أولها قسمة حازم للأغراض الشعرية، وقد أشار المتدخل في هذا السياق إلى رفض حازم للأغراض الستة التي وضعها العرب، انطلاقا من أن هذه الأغراض حصرت الشاعر العربي ولم تترك له المجال للانفتاح على الأغراض الأخرى التي ربطها حازم بالأساس النفسي وجعله مرتكزا أساسيا في تناوله للشعر.
أما المحور الثاني فقد تحدث فيه عن أنماط الأوزان وأكد فيه أنَّ تحقيق التناسب بين المسموعات في الأوزان عند حازم يقضي بضرورة تجزئتها من منظور بلاغي يراعي تناسب المسموعات وانتظاماتها، وبذلك تَتَحَقَّق الغاية الجمالية وكذا حلاوة المسموع. وانتقل في المحور الثالث إلى الحديث عن تناسب الوزن والغرض، ويحيل حازم في هذا الباب على ضرورة مراعاة تناسب الوزن والغرض تناسبا جدليا تكون فيه القصيدة مهيأة للوصول إلى الغاية المقصودة منها، وقد أوضح المتدخل أن للأوزان اعتبارين؛ أولهما اعتبار ما تليق به من أغراض، وثانيهما اعتبار ما تليق به من أنماط النظم.
وخَلُصَ المتدخل في الأخير إلى أنه لم يكن غريبا أن يَعْمَدَ حازم إلى تناسب الأغراض مع الأوزان الشعرية، وقد احتكم في ذلك كله إلى علم البلاغة مع الاعتماد على النظرية الفكرية والفلسفية المنطقية إلى جانب ذوقه وقراءاته الشعرية. كما أكد أنَّ هذه الرؤية الجديدة التي عالج بها الأوزان الشعرية بحيث لم تنفصل فيها الأوزان عن البنية الإيقاعية التي لم تنفصل بدورها عن البنية الدلالية للقصيدة العربية هي تجربة ورؤية جديدة لم يسبقه إليها أحد من النقاد والبلاغيين العرب.
أما المداخلة الثانية فهي بعنوان “أصول المنهج البنائي للقصيدة العربية القديمة في «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجني” وهي ورقة تقدمت بها الدكتورة مديحة جابر السايح ، ألقتها الدكتورة سعاد الناصر نيابة عنها. وقد أكدت المتدخلة في البداية أنَّ كتاب «المنهاج» يمثل أنموذجا للمؤلفات البلاغية التي عنيت بأصول البلاغة، كما أشارت إلى أن المنهج البنائي واضح أوضح دلالة في «المنهاج».
وقسمت مداخلتها إلى ثلاثة محاور، أولها عبارة عن مدخل مصطلحي تناولت فيه مفهوم الأصل والمقصود به عند العرب. والمحور الثاني بعنوان: المنهج البنائي وأصوله، وهي سبعة أصول: أولها الاقتران، وثانيها الترتيب (ويدخل فيه ترتيب الفصول وترتيب المعاني داخل الفصول كما يدخل فيه ترتيب العناصر وغيرها)، وثالثها التركيب وتتنوع ضروبه عند حازم في “المنهاج” لتشمل المعاني والألفاظ والأغراض وغيرها، ورابعها التناظر، وخامسها البناء، وسادسها التفاوت (وأشارت الدكتورة إلى أن فصل التفاوت عند حازم أرحب وأكثر تفصيلا مقارنة بغيره)، وسابعها التناسب ويدخل فيه تناسب المفهومات والمسموعات وغيرها. أما المحور الثالث فهو عبارة عن ملحوظات عامة أكدت فيها على كلية النظرة البنائية عند حازم القرطاجني في “المنهاج”، وأنَّ الأصول المذكورة في المحور الثاني هي أصول عقلية أبرزها حازم في “المنهاج”.
وتَلَت هذه المداخلةَ مداخلة الدكتور عبد الواحد الصمدي وعنوانها “أثر حازم البلاغي في مصنفات علوم القرآن”، وقد ذكر الدكتور الصمدي أن الناظر في كتب علوم القرآن يرى نقولا كثيرة عن حازم وأول من نقل عنه في ذلك الإمام الزركشي في “البرهان في علوم القرآن”.
ومن أهم ما جاء في مداخلة الدكتور الصمدي آراء حازم في مدونات علوم القرآن خاصة فيما يتعلق بمسألة السجع ومسألة وجه الإعجاز وكذا مسألة القلب؛ فبالنسبة لمسألة السجع نبه الباحث على أن حازما يسمي ما ورد في القرآن فواصلَ لا سجعا، وفي هذا الصدد أشار الباحث إلى الاتجاهين المتعلقين بمسألة السجع وأولهما اتجاه يجيز إطلاق السجع على القرآن ويقسم أصحاب هذا الاتجاه السجع إلى محمود ومذموم، أما الاتجاه الثاني فيسمي ما ورد في القرآن فواصل.
أما بالنسبة لمسألة وجه إعجاز القرآن فقد اتجه حازم إلى العناصر البلاغية الخاصة بالقرآن وكشف عن فقدان الأنفاس البشرية لهذه العناصر أو الخصائص وهي مع كل ذلك لا تنفك عن الفتور والانقطاع عكس القرآن الكريم حسب رأيه، أما عن مسألة القلب فقد أشار المتدخل إلى أن مذهب حازم في القلب هو الخروج على مقتضى الظاهر، وفي هذا السياق أشار أيضا إلى وجود اتجاهين أيضا في مسألة القلب في القرآن؛ اتجاه ينكره و هو مذهب حازم واتجاه يقبله، وقد تعرض حازم في «المنهاج» للرد على أقاويل أصحاب هذا الاتجاه وتأويلها على وجه غير القلب.
وخُتِمَت هذه الجلسة بمداخلة للدكتور عبد الرحمن طعمة عنوانها “تداولية المعنى عند حازم القرطاجني: الأسس المنطقية والتناول اللساني” وألقت المداخلة الدكتورة سحر محمد فتحي عبد العليم نيابة عنه.
أَكَّدَ الدكتور في البداية أنّ حازما القرطاجني حَازَ قصب السبق في تأصيل أسس البلاغة العرفانية في التراث العربي في طرحه الأصيل “منهاج البلغاء”، ويكفي تنبّؤُه إلى أن المعاني تتحصل في الأذهان فضلا عن الأمور الموجودة في الأعيان مستحضرا المحاكاة الأرسطية ومستلهِما كلام ابن الأثير في “المثل السائر” في أن عملية التحصيل تُشَكِّلُ نِصف عملية المحاكاة التي تمر من الأشياء عبر الذهن وانطلاقا نحو النفوس.
ويرى الدكتور طعمة أن أحدا من البلاغيين لم يفعل ما فعله القرطاجني في محاولة الكاتب صياغة قوانين العِرفان البلاغي بهذه الطريقة، فلقد استطاع أن يجمع من خلال تمييزه للمحاكاة فصاحة الخفاجي القائمة على الصوت إلى فصاحة الجرجاني القائمة على النظم، وأن يستبدل الدلالةَ الإقناعية والتخييلية بما اعتاد النقاد تسميتَه الدلالة وفضيلة الدلالة، ليكون بحق أول عالم تراثي يدخل حقل العرفان والتداولية كما نعرفها الآن.
كما أكد أنَّ القرطاجني تناول الغرض الشعري انطلاقا من تصوره لمفهوم الشعر ورفضه لتقسيمات البلاغيين للأغراض الشعرية لأنها من وجهة نظره غير صحيحة؛ كما أن ماهية الشعر عنده ثلاثية العِمَاد: عمود المحاكاة وعمود التخييل وعمود الغرابة.
وقد بَيّنَ الدكتور أيضا أن القرطاجني استطاع عرفانيا خَلْقَ قناة من الانفعال المستمر بين النص والمتلقي، كما أشار إلى مسألة الترتيب بين الموجودات والمعاني والصور الحاصلة على تلك الموجودات؛ فالمرتبة الأولى للأشياء، والثانية للصور، والثالثة للكلمات منطوقة، والرابعة للكلمات مكتوبة.
وقد انتقل الدكتور طعمة إلى بحث أمثلة من قوانين الأبنية التداولية للمعنى عند القرطاجني ومنها قانون الخاتمة التداولي، ويتلخصُ هذا القانون في أنه يجب أن ترتبط الخاتمة بما خَلُصَ إليه المتكلم في النص وأن لا يكون تأثيرها فيما قبلها من حيث المعنى تأثيرا سلبيا. وختم بحثه بالحديث عن جمالية الأنساق المفاهيمية وتوصيل المعنى بين عنصري التخييل والمحاكاة.
الجلسة الختامية
وبعد هذه الجلسات العلمية التي تخللتها مناقشات علمية مفيدة أنهى المؤتمر أشغاله بجلسة أخيرة تُليتْ فيها آيات قرآنية كريمة، وقدم فيها الدكتور عبد الرحمن بودرع كلمة ختامية نوه فيها بالجهود التي بُذلت لإنجاح المؤتمر، ثم قرأ الدكتور عدنان أجانة أهم ما أسفرت عنه الجلسات العلمية من توصيات، ومنها:
1- إعداد دليل شامل للدراسات والأبحاث والأطاريح الجامعية المنجزة حول حازم القرطاجني ومشروعه تعريفا وتوصيفا وتقويما.
2- الدعوة إلى استثمار جهود حازم في الدرس البلاغي والأدبي والنقدي على وجه يبرز خصوصية مشروعه ومناحي تجديده.
3- توجيه الدراسات الجامعية للبحث في “المنهاج” من خلال تأطيرها بمشروع تُضبط فيه المعالم والمقاصد وتُحدد فيه مسالك النظر وموضوعات الدرس حتى تكتمل الجهود في نسق منهجي.
4- تأسيس رابطة حول حازم لتيسير سبل التواصل بين الباحثين في المغرب والمشرق، ويكون من مهام هذه الرابطة الحرص على نشر الأبحاث الجديدة عن حازم، والتعريف بها، وتنظيم لقاءات لتقديمها وتدارسها…