كان لنا في إحدى المقالات السابقة من السلسلة أعلاه – عبر جريدة الشمال الغراء المشكورة – وقفة مع معركة ” المايدة ” التي دارت رحاها بجبل الحبيب في العقد الثاني من القرن السادس عشر الميلادي سنة ) 919 ه – 1514 م ( ضد المحتل البرتغالي لأصيلا، والتي أبانت عن بسالة محاربيه الجريئة وتضحيات فرسانه المهمة وجهود قائده والقواد المجاورين الكبيرة بل وشهدت إعانة ومشاركة الأهالي القرى الجبلحبيبية في دلك – خاصة قرى الريحانة والخروب والجبيلة -، واليوم في هدا المقال سنستكمل ما كنا بصدد ﺫكره من وقائع تلك المعركة التي أودت إلى معركة أخرى أخطر في ذات اليوم وهي معركة ” معبر الحجارة ” على بعد أميال منها حسب معاينة وشهادة ” برناردو رودرﻳﮝس “ فيما سطره في حولياته عن أصيلا.
*من معركة المايدة بجبل الحبيب الى معركة معبر الحجارة بالقرب منه سنة (919 ه – 1514 م ) .
في خضم معركة المايدة بجبل الحبيب مركز المقاومة بالشمال الغربي لمملكة بني الوطاس أدرك وقتها القبطان الجديد لأصيلا أن قرار هجومه على الجبل لم يكن خيارا عسكريا استراتيجيا صائبا منه، وأنه وجنوده في غير مأمن من الفرسان الشجعان والمحاربين المهرة لجبل الحبيب خاصة، ولا أن المايدة أرض المعركة كانت في صالحه خصوصا وأنها لا تبعد عن قلعة قائد جبل الحبيب إلا بأقل من كيلومتر ونصف – زيادة على ما كان يغص بها يومها من القواد المسلمين المجاورين للجبل وعساكرهم الدين فاق عددهم التسعمائة استعدادا للهجوم على طنجة وأصيلا، فكان لا مناص للقبطان حينها من الفرار لأصيلا وطلب التعزيزات منها استعدادا لمعركة أكبر من التي أمامه يدرك وقوعها حتما بعد سويعات، لدا « تراجع صوب ” بيدريكال ” اختصارا للمسافة وإن لم يتمكن من الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد »[1] وأرسل على وجه السرعة « فارسا رفقة رجلين من المشاة ومعهم أسير الى أصيلا ليطمئنوا السكان »[2]، وقد « عاد الفارس إلى جبل حبيب ومعه ثمانية أو عشرة من الخيالة كانوا في المدينة والتحقوا بالآخرين والمعركة حامية الوطيس »[3] عند معبر الحجارة[4].
*ملاحقة القواد المسلمين لقبطان أصيلا واستشهاد الشيخ زيان.
طارد المسلمون القبطان الفار وجنوده من معركة المايدة في اتجاه أصيلا، وقد « كان يقودهم سيدي أحمد العروسي قائد القصر الكبير، والقائد الحارث قائد أزجن، والقائد أمين قائد العرائش[5] »[6] فيما « كان الشيخ زيدان تلك الأثناء مثخنا بالجراح، محمولا على ظهر بغلة القبطان، وحينما وصل رجالنا الى نبع ” بيدريكال ” وشاهد الشيخ الفرق العسكرية تقتفي أثرهم طلب قليلا من الماء بعد أن شعر بعياء، وخشي أن يغمى عليه، ونظرا للسرعة التي كانت مشي عليها المجموعة ولملاحقة المسلمين لها تعذرت عليهم الاستجابة لطلبه، فناوله أحدهم قربة خمر صغيرة كان يحملها، لكنه رفض ولو مجرد لمسها لتعارض ﺫلك مع مبادئ دينه، وهو مثال يجب أن نحتذي به نحن المسيحيين، لأننا نغير قناعاتنا ألف مرة حتى ولو تعلق الأمر بمصلحة دنيوية تافهة، وسرعان ما أغمي على الشيخ سيدي زيدان فسقط عن الدابة، إما بسبب نزيفه، وإما رغبة منه في تأخير سير المجموعة، وفعلا توقفت بعض الوقت مما أغضب ” الكوند ” فعاد لاستطلاع الأمر، ولما لاحظ صعوبة إعادة إركاب الشيخ أمر بقتله طعنا بالرماح، فتم دلك في طريق ” بيدريكال ” حيث تخلوا عن جثته، وقد حزن القواد ومرافقوهم كثيرا لموت الشيخ وأحاطوا بجثته »[7] رحمه الله، فلاحقوا القبطان إلى أن « صادفوه فيما بين ” بيدريكال ” و ” المسوس “، وشرع بعضهم في مناوشة رجاله والاختلاط معهم »[8]، وقد خشي الكوند على جنوده من عرقلة سيره بسرعة نحو أصيلا بسبب المحاربين المسلمين ومناوشاتهم لهم حيلة منهم يستدرجونهم بها لمعركة قد تحسم لصالح المسلمين في الغالب، وبدلك أعطى « تعليماته بعدم الاهتمام بمناوشات المسلمين، والامتناع عن الرد عنها، وبدلك تسنى لهم السير بسرعة »[9]، لكن القواد المطاردين للقبطان من جبل الحبيب تفطنوا لحيلته بعدما شاهدوا « النظام الذي كانت المجموعة تسير عليه، فجمعوا المتفرقين من رجالهم وكونوا ثلاث فرق وساروا بجانب رجالنا وإن امتنعوا عن مهاجمتهم، وقد عزا ” الكوند ” لامتناع المسلمين عن الهجوم بضيق الممر، واعتقد أنهم ينتظرون وصوله الى السهل الواسع الذي يلي معبر ” وادي الحمام “، لدى تخلى عن الطريق المؤدية الى دلك النهر وتوجه صوب معبر الحجارة لضيقه أكثر، وقد وصلوا في تلك الظروف الى المعبر المذكور، دون أن يتعرضوا لأي هجوم[10] »[11]، وفي هدا نوع من المبالغة للمؤلف ذات حمولة دينية وتعصبا للجندية البرتغالية من بني جنسه، وإلا كيف يكون الهجوم بهده الطريقة الدرامية التي يحكي عنها، مع احتساب عاملي أرض وعدد عساكر المغاربة، زيادة عن أثر طعن وأسر قائد من قوادهم سيدي زيان في نفوسهم، مع ما تمتاز به العساكر من قواد وفرسان – خاصة أولائك الجبلحبيبيون دوي بأس وشجاعة كما وصفهم المؤلف غير ما مرة -، زيادة على أن المؤلف قد حدث مرارا وتكرار أن علي الرواس قائد جبل الحبيب بعيدا عن عامل أرضه ولوحده كان يكلف – في بعض إغاراته – خسائر باهظة ببرتغالي أصيلا، ثم انه صرح أكثر من مرة بإعجابه الشديد بشخصية قبطانه، وقد طغى التعصب له ولأعماله كثيرا في صفحات مذكراته الضخمة، والاحتفاء بخدماته التي يسديها لملكه، وأظن أن هدا الإخباري البرتغالي لم يرد من الاشارة الى معركة معبر الحجارة الوقوف على أحداثها صدقا وإنما الحديث عن هاته شخصيته المحبوبة ولو بتحريف الحقائق، وتمجيده والإعلاء من قدره وتعداد أمجاده وإظهاره بصورة الأدهى والأشطر في إدارة المعارك رغم كثرة عدد الخصم المسلم، وهو بدلك يريد الانتقاص من الجندية المغربية على غرار المؤلفات البرتغالية التي أنشئت بالذات لغرض الانتقاص من الخصم من جهة وبهدف تخليد أعمال قباطنة وحامية أصيلا من جهة ثانية، ولم يكن مؤرخنا هدا إلا من زمرة هؤلاء، ﻓإﺫا استثنينا له جانب التوسع أو الاختصار في وصف تلك المعارك، والحرص الواضح على الحديث بنوع من التوازن عن العمليات العسكرية التي نظمها الطرفان، والتي لم يجد غضاضة في التصريح بها، فإننا نقف في كل حولياته تقريبا – حسب الأستاذ أحمد بوشرب – أنه « يؤرخ لما يعتبره أمجاد البرتغال في أصيلا، وينيط نفسه بمهمة إطلاع معاصريه والأجيال اللاحقة على تلك الأمجاد، لدلك لا نتوقع رؤية المغاربة في الواجهة في مؤلف كهدا، ولن يكون الحديث عنهم إلا عرضا حين الإشارة إلى الإغارة عليهم، أو حين يتخذون مبادرة الهجوم، فقد أطنب الى حد الملل في سرد تحركات البرتغاليين خلال تنظيم غاراتهم أو هجماتهم، وما كانت تخلفه من أسرى وقتلى وغنائم، بينما خص انتصارات خصومهم بفصول قصيرة وإشارات سريعة »[12].
* مكيدة المسلمين الحربية في معركة معبر الحجارة :
رغم استشهاد الشيخ زيان رحمه الله فإن دلك « لم يثنهم عن ملاحقة رجالنا إلى أن وصلوا إلى المعبر، وبعد أن لاحظ ” الكوند ” أنهم لم يمنعوه من العبور اعتبر أن الوقت موات لخواض المعركة »[13] وقتذاك « قصد المسلمون في فوضى كبيرة ودون نظام المجاز ليعبروا بدورهم وهم يتدافعون ويدوس بعضهم بعضا، كانوا لكثرتهم كخلية نحل تغطي المنطقة بكاملها، وكانت خطتهم تقتضي انتظار تسرب العياء الى رجالنا ودفعهم الى الخروج من المنحدر والتوجه الى الطريق حيث كان السهل يسمح لهم بالتحرك في ظروف أحسن، وقد فهم ” الكوند ” قصدهم، فاستمر هو ورجاله في السير بهدوء وسط دلك المنحدر الذي يبدأ من معبر الحجارة في اتجاه المرتفع، وبدأ ينتظر رد فعلهم، وبعد ان عبروا بدورهم الوادي وأعادوا جمع محاربيهم استشار ” الكوند ” رجاله بشأن ما يمكن عمله، فاقترح قائد القلعة مهاجمتهم قبل إعادة ترتيب صفوفهم، فزكى ” الكوند ” رأيه وأمر بالهجوم، ولم يدم صمود المسلمين طويلا، وسرعان ما تراجعوا نحو السهل حيث سقط عدد كبير منهم في الحفر الموجه قبل أن ينتشروا عبر الوادي، وقد اضطروا إما إلى التخلي عن خيلهم ومحاولة الإفلات سباحة، وإما الى الفرار نحو ” عين القصب ” و ” معبر الحمام “، واستغل رجالنا ضيق ﺫلك الممر وكثرتهم لتضييق الخناق عليهم، فقتل منهم الكثيرون، ولم ينج منهم إلا القادرون على السباحة، (…)[14] كان مسلمون كثيرون يحاولون الدفاع عن المعبر »[15]، بينما قائد القصر الكبير « دنا من ” الكوند ” وطعنه برمحه عند مستوى صدره، وكانت الطعنة قوية إلى حد أنها أفقدته توازنه وأسقطته في النهر، ولم يحافظ القائد بدوره على توازنه فسقط إلى جانبه، وقد سارع أحد خدام ” الكوند ” إلى إعادة إركابه فوق فرسه »[16].
انسحب المسلمون المدافعون عن المعبر في اتجاه جبل الحبيب، خصوصا بعد أن انتبه القواد إلى فرار محاربيهم، وبعد أن اضطروا إلى اللحاق بهم، وطاردهم ” الكوند ” ومرافقوه حتى تجازوا موقع ” كنسيرا “[17] ، وعندها « أمر ” الكوند ” بجمع الخيل التي كان من بينها عدد من الأفراس الأصيلة التي كانت في ملكية قائدي القصر الكبير وأزجن، كما جمعت السلاهيم الكثيرة والقبعات والزرود والتروس والرماح، وجمع أسرى المسلمين الأربعة والأربعين » إضافة الى طبول اربعة، وحسب صاحب الحوليات أنه « مات من المسلمين أكثر من مائتين وخمسين، وغنمنا ثمانية وتسعين فرسا، بينما تمكنت الأفراس الاخرى من الفرار، وفي الوقت الدي لم يكن فيه عدد محاربينا يتجاوز مائة واربعين أو مائة وأربعة وأربعين فردا، يؤكد المسلمون ان أعدادهم تجاوزت التسعمائة »[18].
وإني أتساءل باستغراب هنا، ادا كان مجرد رد فعل المسلمين اغاراتهم المعلومة الجريئة بعشرين محاربا على البرتغاليين كما وصفها أكثر من مرة ويكون لها ما يمون لها في المعظم فكيف ستكون جرأتهم وقد قتل واحد من قوادهم سيدي زيان أمام عيونهم وبأرضهم وبوجود تسعمائة فارس مقابل مأتين، ومع كل دلك قتل جندي برتغالي واحد كما يدعي صاحب الحوليات، أليس في هدا مبالغة واضحة وتعصب جندي تام لبلده حيث سينتبه القارئ بسرعة الى الصفة الرئيسة المميزة في هاته المعركة، وهي أن المؤلف لا يجد حرجا في تكثير عدد قتلى المسلمين والمصابين منهم والأسرى، وفي السكوت عن عددهم من البرتغاليين، أو التشديد على أن خسائرهم اقتصرت على إصابات طفيفة، رغم انه وصف المعركة بالشدة والشراسة ورغم التفاوت الكبير في أعداد المقاتلين إلى حد يجعلنا بل ويجعل باحثين برتغاليين يشكون في صحة الانتصارات المنسوبة لبني جنسهم في الكثير من المعارك، ونعتقد كما هم أنها من نسيج خياله تمشيا مع العاطفة الدينية لديه، بل وأحيانا يحاول إقناع من قد يخامره شك في رواياته بالتشديد على انه هو نفسه استغرب تلك الشهادة ؟ فعجبا.
*قدوم فارسين من جبل حبيب للتعرف على هوية الاسرى والقتلى من معركة ” معبر الحجارة “
في اليوم التالي أعلنت حالة الاستنفار بحدة، بعد مشاهدة فارسين يسيران في اتجاه المدينة أرسلهما القواد الى ” الكوند ” للتعرف على هوية الباقين على قيد الحياة من بين المفقودين، وقد اعتقدت أصيلا في البداية ان القواد اعادوا جمع قواتهم وجاؤوا ليظهروا انهم لا يزالون قادرين على المواجهة، لكن الامر لم يكن كدلك، « وقد استقبلهما ” الكوند ” استقبالا حسنا، وسمح لهما بالحديث مع الأسرى، ووضع قائمة بأسمائهم، كما أخبرهما بموافقته على نقل جثث الموتى لقربها من المدينة، لكن القواد امتنعوا عن دلك، وقد عاد المسلمان مسوررين بعد ان أعطى ” الكوند ” لكل واحد منهما معطفا من الثوب الازرق[19] »[20] من أثواب لندن.
هوامش :
[1] – حوليات أصيلا، ( 1508 – 1535 ) مملكة فاس، من خلال شهادة برتغالي، تعريب الدكتور أحمد بوشرب، دار الثقافة، الطبعة الأولى 2007، ص، 122
[2] – نفسه، 122
[3] – نفسه، 123
[4] – معبر الحجارة : porto das pedras، الموضع الدي دترت فيه المعركة في الثاني والعشرين من فيراير سنة ألف وخمسمائة وأربعة عشر ) 22 – 02 – 1514 م (
[5] – حسب المؤلف في الصفحة 126 من حولياته « لم يكن يتوفر قائد العرائش على محاربين، لكنه التحق بالقواد الاخرين »، كما أن العرائش كانت تابعة بالأساس لقائد القصر الكبير، ثم اني أستغرب كيف لم يدكر المؤلف أي إشارة الى قائد جبل الحبيب وهو من اجتمعوا عنده بالأساس في قلعته.
[6] – حوليات أصيلا، ص 126
[7] – نفسه، ص 126
[9] – نفسه، ص 124
[10] – حرر المؤلف المعركة بعد مضي 46 سنة، كما انه لم يكن في هاته المعركة فاعلا في حدثها، فلم يكن قد بلغ السن التي تسمح له بالمشاركة في العمليات العسكرية الا عند سنة 1523 م، ورغم دلك أدرجها في مذكراته – كغيرها من مجموعة أحداث أخرى -، وشدد على أن دلك لا يقلل من قيمة روايته، وقد كان يستفسر بشأن الأحداث من عاينها ومن هم أكبر منه سنا، وهدا لن يخلو من التقليل من الرواية التاريخية، فمهما كان ليس الخبر كالمعاينة. ثم ان المعركة تخلو من الاعمال الجهادية المسلمين .
[11] – حوليات أصيلا، ص 124
[12] – نفسه، تقديم، أحمد بوشرب، ص : ه.
[13] – نفسه، ص 124
[14] – اختصار للأحداث من قبل معرب حوليات أصيلا الدكتور أحمد بوشرب حيث لافائدة تاريخية فيما يرى.
[15] – حوليات أصيلا، ص 124
[16] – نفسه، ص 126
[17] – موقع كنسيرا : caniceira، « ومند دلك الوقت وحتى يومنا هدا سمي دلك الموقع ﺑ ” معبر الطبول “» ص 126.
[18] – نفسه، 121 – 127
[19] – هدا مما تخيله المؤلف من انطباعه عن المسلمين، إذ من الصعب جدا وفي هزيمة المسلمين تلك وما تخلل دلك من أسرى وحالة نفسية سيئة للمسلمين فلربما فقدا أحباء وأصدقاء أن يسرا الاثنين لمجرد ثوبين أزرقين، وكأن المؤلف يريد الانتقاص منهما كونهما قابلان للإغراء ولربما الانضمام والتنصر أيضا، وإن كان دلك قد حصل مع بعض المسلمين إلا أن البعض الآخر كان يمتنع من مجرد لمس قنينة الخمر بله أن يفرط في دينه، ثم ان القواد ما أرسلا هدين الفرسين إلا للثقة الكاملة فيهما رغم كل الإغراءات المواتية لبقائهما في أصيلا دون العودة والاستفادة من الامتيازات التي تمنح عادة للمخبرين والوشاة والمتنصرين، ورغم إغراء ضيافة الكوند وإحسان ضيافتهما إلا أنهما عادا الى دائرة المسلمين، ولربما أن المؤلف انطلق من عقلية برتغالي لا من عقلية مسلم الذي يمتنع عن فعل دلك، أو أنه عبر عن حال واقع بعض المسلمين الدين يسهل إغراؤهم والتلاعب به لصالح العدو.
[20] – نفسه، 127
محمد أخديم