بسم الله الرحمان الرحيم
اهتم الراحل سيدي عبد الصمد العشاب بتاريخ مدينة طنجة، ودبّج يراعه العديد من المؤلفات والمقالات، التي تناولت بالدراسة والتنقيب تاريخ المدينة الثقافي والأدبي، فكانت بحق مرجعا ثمينا للباحثين والمهتمين.
وفي هذا السياق؛ ارتأينا أن نقوم بجولة في سفر، اختار له مؤلفه عنوان ” شذرات تاريخية وثقافية واجتماعية لمدينة طنجة ” نروم فيها، تنوير القارئ بأهم المواضيع والمحطات التي توقف عندها الكاتب.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب، هو من القطع المتوسط ، عدد صفحاته مائة وثلاثة وعشرون صفحة. يضم بين دفتيه اثنان وعشرون مقالا، صدر عن منشورات المجلس العلمي المحلي بطنجة ، الطبعة الأولى سنة (1440هـ / 2019م)، قدم له الدكتور سيدي محمد كنون الحسني.
إنه نبش جميل في ذاكرة طنجة، يؤرخ لمجموعة من الأحداث التاريخية التي عرفتها المدينة، ويؤتث لمشهد ثقافي حافل بالإنجازات العلمية، ميزتها عن سائر المدن الأخرى. كما يسبر أغوار المجتمع الطنجي بتقاليده وعاداته المختلفة، في كثير من المناسبات الدينية والاجتماعية. وعلى هذا الأساس، يمكن تقسيم مواضيع الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : شذرات تاريخية
جولة عبر التاريخ، حول أهم المعالم التي تحمل طابعا تاريخيا،أو ذكره لأحداث سياسية هامة. ومن ذلك سرد الكاتب معلومات تاريخية حول هضبة مرشان ومسجده، وحديثه عن الوضع السياسي في طنجة سنة 1940م، وعن تأسيس البنك المخزني عقب مؤتمر الجزيرة الخضراء. وأيضا إشارته إلى قصة المشروع العلمي الذي لم يتحقق، وهو ترشيح مدينة طنجة مقرا للأكاديمية الإسلامية للعلوم والآداب والفنون.
كما خصص شذرة للحديث عن تاريخ الكتاب وأعياده بطنجة، وجعله حديثا تاريخيا بحكم تجربة طنجة القديمة في هذا الميدان، ومما جاء فيه :
ـ تأسيس ناد ثقافي، من طرف نخبة من المهتمين بالشأن الثقافي بالمدينة سنة 1939م، أطلق عليه النادي الوطني.
ـ المعارض التي كانت تقام للكتاب بطنجة,
ـ المكتبات التي كانت تبيع الكتب، وأخرى تقدم خدمات الكتاب بالمجان، سواء الأجنيبة أو المحلية.
ـ الحديث عن عصرنة الكتاب، وظروف تأسيس مطابع عصرية بطنجة.
ـ الصحف التي كانت تنشر بالمدينة بلغات مختلفة,
ـ ثم يختم بالإشارة إلى فن مقترن بالكتاب، ألا وهو فن التسفير والتجليد، وهو من الصناعات التقليدية التي برع فيها تقنيون بالمدينة.
القسم الثاني: شذرات ثقافية
وصف للبيئة الثقافية والمناخ العلمي الذي كان سائدا بمدينة طنجة، في مجموعة من المقالات، تحمل طابعا إخباريا، تفسيريا، حجاجيا، بدءا بالحديث عن الدور الوطني الذي كان ولايزال يقوم به المسجد الأعظم، باعتباره معلمة دينية وعلمية ووطنية. فهو بالإضافة إلى كونه فضاءا للعبادة، فضاءا أيضا لنشر الوعي وبث روح الإيمان بالمؤمنين. فقد كانت تعقد فيه حلقات علمية، شارك فيها مجموعة من العلماء الأفذاذ، أمثال الزعيم علال الفاسي رحمه الله، والعلامة الشيخ محمد المكي الناصري، والعلامة عبد الله كنون، ومؤرخ المملكة الراحل عبد الوهاب بنمنصور، والداعية الإسلامي سعيد رمضان.
ويشير الكاتب على أن أهم حدث عرفه هذا المسجد، هو زيارة الملك المغفور له محمد الخامس لمدينة طنجة يوم الجمعة 11 أبريل 1947م، وإلقائه لخطبة الجمعة بالمسجد، في جو روحاني مفعم بالصدق والكلام النفيس.
مرورا بشذرة تحت عنوان ” حلقات الدرس العلمي بطنجة ” وفيها:
ـ يصف البيئة العلمية التي كانت بطنجة في بداية القرن العشرين.
ـ يميز بين حلقات الدروس الاختيارية أي التطوعية التي يقوم بها الأساتذة، وتسمى اختيارية لمنح الطلبة النتقاء المطلق في تحديد المواد التي يرغبون في قراءتها. وبين الدروس النظامية الخاضعة لقانون تحدده الإدارة التربوية.
ـ ثم يختم بعرض لائحة العلماء الذين ساهموا في النهوض بالحركة العلمية بطنجة، مع ذكر العلوم التي كانوا يدرسونها، وأماكن تلقيها.
فالحديث عن مكتبة عبد الله كنون، باعتبارها معلمة ثقافية، ومركزا إشعاعيا هاما بالمدينة، حبسها صاحبها لفائدة طلبة العلم ، سواء بطنجة أو ممن يقصدونها من سائر المدن الأخرى، لما تتضمنه من نفائس الكتب والمخطوطات والوثائق وغيرها. وقد اختارالكاتب في هذه الشذرة التركيز على محزرين رئيسيين :
أولهما التعريف بالمكتبة ( مكانها ـ مرافقها ـ عدد مجلداتها ـ نمط عملها ـ قدرة استيعابها للطلبة ـ نظام الإعارة بها ـ كيفية التعامل مع مخطوطاتها ـ توفرها على كتب هدية من مؤلفيها، والإصدارات التي تطبع على نفقة بعض المتبرعين أو وزارة الأوقاف والتي تعتبر من بين المهام الرئيسية لمؤسسة عبد الله كنون للثقافة والبحث العلمي.
ثانيهما منزل إقامة الأستاذ كنون الكائن بالقصبة، والذي يعتبره الكاتب معلمة تاريخية ووطنية وعلمية، لما شهده هذا المنزل من اجتماعات وطنية، وقرارات سياسية ضدا على الاستعمارين الفرنسي والإسباني. كما أن هذا المنزل، كان قبلة لمختلف علماء العرب والمسلمين الذين يفدون على طنجة.
وأخيرا الحديث عن الرسام الفرنسي المشهور دولاكروا بطنجة ، والذي انبهر بنمط الحياة بها، وتأثر به، فعبر عن ذلك في لوحاته.
ومن بين المواضيع التي استأترت باهتمامه :
ـ المرأة المغربية بلباسها الأبيض الجميل ( الحايك )
ـ الفرس المغربي والفرسان المغاربة.
ـ إبداعه في رسمه للسلطان مولاي عبد الرحمان رفقة الهيئة المخزنية.
القسم الثالث: شذرات اجتماعية
جرد لأهم الطقوس والعادات الدينية والاجتماعية التي ميزت سكان مدينة طنجة. وفي هذا السياق، يسجل الكاتب أهم التقاليد التي عاشها قيد حياته، وقد أجملها في مقال موسوم ب ” طنجة من خلال عادات السكان وتقاليدهم في المناسبات الدينية والاجتماعية “.
فمن المانسبات الدينية ذكر( المعراج ـ عاشر محرم ـ ليلة القدر ـ يوم عرفة ـ عند الاستسقاء وغيرها ).
أما المناسبات الاجتماعية فنذكر( الخطبة والزفاف ـ العقيقة ـ الخروج للحج ـ الحاكوزة ـ طقوس الموت والدفن وغيرها ).
وعنوان آخر، أطلق عليه اسم ” أمور عامة ” ويتعلق الأمر ب: ( الألبسة والحلي ـ الحرف والصنائع ـ الأطعمة ـ الطب الشعبي ـ الحكايات الشعبية ) وغيرها من النظم الاجتماعية المتعارف عليها بين المتساكنين.
ثم يلي الكاتب هذا المقال بشذرة يعرض فيها مظاهر الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف بمدينة طنجة، وهي مظاهر خاصة، تحمل رمزية دينية عميقة، وضحها المؤلف على شكل لوحات عنونها ب ” لوحات صوفية من مدينة طنجة “.
وهنا سأقف قليلا عند مقال خصصه المؤلف للحديث عن مظاهر رمضان بطنجة تحت عنوان ” تجليات رمضان في طنجة “.
تبتدأ الفرحة بقدوم هذا الشهر المبارك عند التحقق من رؤية الهلال ، فتعلو زغاريد النساء من سطوح المنازل، وينطلق دوي المدافع، ويخرج الأطفال إلى الأزقة فرحين، مبتهجين.
ـ أول مظهر: ” مصطلح عباد الله ” ينعت به رجل تنتدبه نظارة الأحباس ليطوف في الدروب وهو ينادي ( أعباد الله، قوموا في طاعة الله، تأكلوا وتشربوا، هنأكم الله ).
ـ ثاني مظهر: ” الغياط ” الذي كان يصعد إلى صومعة المسجد بعد صلاة العشاء، ليتحف الناس بألحانه الجميلة، ويخص بالذكر غياط مسجد القصبة، الفنان الذي ينتمي وابنه إلى أسرة ( عربيطو).
ـ ثالث مظهر: تكثيف دروس الوعظ والإرشاد بالمساجد، ولا يتعلق الأمر بالكبار فقط، بل كلن للأطفال نصيبا من هذا الأمر، حيث كانت لهم فرصة دخول المحراب وقراءة جزء من القرآن تشجيعا له لحفظ جزء منه وتلاوته ليلة السادسة والعشرين من رمضان.
ـ رابع مظهر: الاحتفاء بالأطفال الذين يصومون لأول مرة ليلة السادسة والعشرين، ومباركة تصرفهم بالدراهم والحلوى، وهم يرتدون أجمل الثياب.
وفي عرضه لهذه الشذرات السالفة الذكر، وحديثه عن مدينة طنجة، والذي اعتبره حديثا ذو شجون، كان المرحوم الأستاذ عبد الصمد العشاب، يصدر أحكاما وآراءا ، يبدي فيها أسفه في مجموعة من الأمور التي تمس ذاكرة المدينة التاريخية والثقافية والاجتماعية، لابأس أن نسلط الضوء على بعض منها:
1ـ في حديثه عن فرحة الأطفال بقدوم رمضان، يقول متأسفا [ الآن أطفالنا ماتت الفرحة في قلوبهم، لم يعودوا يفرحون لرمضان، تفرقت سكناهم في العمارات، وتقلصت تلك الرابطة الإنسانية والألفة التي كانت تجمع بين سكان الأحياء ]
2ـ أما عن تشجيع الطفل علة الصوم فيقول: [ اليوم يخافون على أطفالهم من جوع النهار، فيرغمونهم على الأكل حتى لا تنقص أوزانهم ]
3ـ وعندما تطرق لمظاهر غير حضارية، وسلوكات لا أخلاقية اعتاد الناس عليها ـ بل أصبحت من المسلمات ـ يطرح الكاتب مجموعة من الأسئلة، تظهر بشكل جلي استياءه واستنكاره لتصرفات غير مسؤولة ، بعيدة كل البعد عن مبدإ الاحترام المتبادل، والمفهوم الحقيقي للحرية، والتي تلحق الضرر بالآخرين. وكمثال على ذلك قوله : [ هل هناك قانون لردع شباب طائش، يقود سيارته بسرعة جنونية في الشارع العام، أو يقف بسيارته ليحادث صديقا له يركب سيارة في اتجاه معاكس ومن خلفهما في الانتظار طابور سيارات مما يحدث أزمة مرور؟
فضلا عن ذلك ، يتحسر الكاتب عن ما وقع إهماله من جمالية عمران المدينة، والذي يعتبره تراثا مختلفا ومتميزا، بسبب تعدد الحضارات والانتماءات التي تعاقبت بها، فيحاول أن يقترح بعض الحلول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأذكر على سبيل المثال:
ـ دار النيابة: التي هي من الآثار التاريخية بطنجة، والتي تجمع بين المعمارين المغربي والأوربي، يتساءل الكاتب [ لماذا لا تستثمر لإقامة متحف وثائقي عن الدبلوماسية المغربية في القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين؟]
ـ دار السلف: بناية تاريخية تنتمي إلى العمران الأوربي، لها واجهتان أخذتا في التلاشي، المطلوب يقول الكاتب [ القيام بعملية ترميم للواجهتين تحفظ لهما جمالية المكان والزمان]
ـ ساحة دار المخزن: وهي ساحة حبلى بالمآثر التاريخية ( باب البحر ـ بناية السجن المدني القديم ـ مؤسسة أثرية لبيت المال القديم ثم مؤسسة سجنية كانت مخصصة للنساء)
ولم يستثن من هذه المآثر الحديثة عن المقابر الإسلامية بالمدينة، والتي يناشد المسؤولين ويدعوهم إلى الاعتناء بها، ومراعاة حرمة الموتى وحرمة قبورهم.
إن ما سبق ذكره من صور ومظاهر ومضامين، تجعلنا نقر بأن الكاتب قد تبنى جملة من الأبعاد المختلفة، وهو يقدم للقارئ هذه الشذرات طرحا ونفسيرا ونقاشا، وهي تتباين بتباين مواضيعها. وهكذا نجد حضور البعد التاريخي، والبعد الديني القيمي، والبعد الاجتماعي، وكذا البعد الواقعي الإصلاحي.
وهذه الأبعاد برمتها، إن كانت تدل على شيء، فإنما تدل علة غيرة الرجل وحرقته على حضارة مدينته تاريخا ومجتمعا وثقافة. وهو يعتبر ذلك حق المدينة عليه ، وقد عبر عن ذلك بقوله: [ من حق هذه المدينة علينا أن ننبه إلى الأخطار المحدقة بها، والتي سكت أو يسكت عنها الكثيرون].
لتمتد هذه الغيرة إلى كافة أنحاء التراب الوطني، حاملة نظرة تفاؤلية مشرقة نحو المستقبل، وخذا ما أكد عليه الكاتب بقوله: [ إن المغرب في ظل القيادة الرائدة لجلالة الملك محمد السادس أعز الله أمره، قد أخذ يسير الآن في طريق الترقي نحو الأمثل والأصلح في كل مجالات الحياة، وعلى كل الذين يسيرون مرافق الشأن العام أن يكونوا في مستوى هذا الهدف المبارك ].
هذا غيض من فيض ما يحمله هذا الكتاب من معلومات نفيسة، تؤرخ لمدينة البوغاز، وتسلط الضوء على مشاهد ثقافية واجتماعية هامة.
رحم الله والدي الحبيب، وجعل هذا السفر المبارك في ميزان حسناته، وصدقة جارية على روحه، آمين.
دة. نبوية العشاب