تقديم:
بعد نشرنا لهذا النص السردي (الملكة خناثة بنت بكّار) للمرحومة الدكتورة آمنة اللوه، مسك ختام الحلقات السّابقة حديث إذاعي للمرحومة آمنة تعليقاً على منجزها.
(ركن المرأة)
إذاعة تطوان العربية- الخميس 29 أبريل 1954هـ/ 25 شعبان 1373م.
نصّ الحديث الإذاعي:
الحمد لله
مستمعاتي الكريمات: إن من دواعي سروري أن أُلبي رغبة إذاعة تطوان العربية التي تفضلت وطلبت مني أن أخُصّها بكلمة تذاع في برنامج (ركن المرأة) الأسبوعي، بمناسبة إحرازي جائزة المغرب الأدبية لهذه السنة، التي تمنَحها نيابة التربية والثقافة كلّ سنة لأحسن قصة تُقدّم إليها، وقد سرّني بصفة خاصة أن تكون قصّتي المعنونة (الملكة اخناثة) هي الفائزة هذه السنة بحمد الله.
سرني ذلك كما سر الكثيرين من مشجعي الآداب عامة، ومشجعي النهضة النسوية خاصة، لا من الناحية المادية فحسب، بل لِما في ذلك من معانٍ أدبية سامية، ولما فيه من اعتراف ضِمنيٍّ بوجود المرأة المغربية على مسرح النهضة الأدبية بهاته الديار، إن ذلك يبعث فينا نحن الفتيات المثقفات حرارة الإيمان والثقة بالنفس، والشعورَ بالمسؤوليات، وبالخدمات المنتظرة منا اليوم وغدا.
سرني غاية السرور أن أسمع مجادة المقيم العام ونائب التربية والثقافة ينوّهان باسمي المتواضع، ويعلنان في الحفل الرسمي المقام لتلك الغاية أنّ الفائزة الوحيدة هي المرأة، وأنها حائزة قصب السبق، والمُجَلِّيَة في حلبة الرهان، وإني إذ أكرر هذا على أمواج الأثير أبعث بشكري وامتناني إلى كلٍّ من مجادة المقيم العام ونائب التربية والثقافة، وإلى كلّ من أعضاء لجنة التحكيم، ثم إلى جميع أولئك الذين كتبوا عني في الصحف أو نوهوا باسمي في الإذاعة، أو بعثوا إلي بتهانئهم الحارة.
وأما قصتي التي نالت الجائزة فهي قصة تاريخية عن الملكة اخناثة، زوجة الملك العظيم، المولى إسماعيل العلوي، وقد كان الأجدر أن أقرأ هذه القصة على أمواج هذه الإذاعة، تلبية لرغبات كثيرة تقدمت إلي، طالبة ذلك، إلا أن المانع عن تحقيق تلك الرغبة هو ما عليه القصة من بعض الطول، إذ تستغرق نحو عشرين صفحة، وهو نفس المانع الذي منعني من تقديمها للنشر في الصحف أيضاً، مفضلة أن تنشر على حِدة عن قريب بحول الله، حتى لا تفقد انسجامها وجمالها.
ولكن ذلك لا يمنع من إعطاء فكرة ولو صغيرة عن مضمون القصة وعن البواعث التي جعلتني أختار الملكة اخناثة بالذات موضوعاً لقصتي.
إن الذي جعلني أختار اخناثة هو جملة أسباب أهمها: هو هذه الغشاوة التي ما زالت إلى الآن مسدولة على المرأة المغربية القديمة، فلم يحاول أحد فيما أعلم أن يتصدى لمشاهير النساء المغربيات، فيعرضهن على الأنظار، ويجليهن للعيان، ويستخرجهن من طيات التاريخ، ويبين ما كن عليه من متانة أخلاق، وقوة شخصية، ومكانة عالية في المجتمع، فقد أُهمل هذا الجانب البتَّة من كافة الباحثين، حتى نَدَرَ أن تجد دراسة كافية تشخص المرأة المغربية القديمة على حقيقتها، وتظهر ما كانت عليه من الناحية العلمية والأدبية، فكان من نتيجة ذلك الإهمال أن عامة المثقفين والمثقفات يعتقدون أن المرأة المغربية ما كانت قديماً شيئاً يُذكر، أو على الأقل يجهلون أنّ لها شأناً يُذكر، فكان ذلك يُقلقني من زمن بعيد، ويَحُزُّ في نفسي، ويجعلني أتساءل فيما بيني وبين نفسي: هل إن المرأة المغربية كانت على الحقيقة متخلفة خالية من كل صفة علمية أو أدبية؟ هل إنها غير نساء العالمين لم تقم بأي دور هام، ولا أخذت بحظ وافر في أداء الرسالة البشرية؟ هل إنها مقضيٌّ عليها بالوَأْدِ إلى يوم البعث؟ أم إنها كانت مثل نساء العالمين، موجودة في دنيا التاريخ، كائنة حية في دنيا الواقع، وإنما تنتظر من ينتشلها من تحت أنقاض الماضي، ويستخرجها من تحت أظلال التاريخ، منقبا عنها بين طيات الكتب والسجلات؟
ذلك ما كنتُ أتساءل عنه كما يتساءل عنه الكثير، فأنا الآن وفي مثل هذه المناسبات أقصد الجواب عما كنت أتساءل عنه، فأعرض على أنظار فتياتنا نماذج محسوسة لسيدات مغربيات كنّ في عهدهن أمثلة رائعة لرقيّ المرأة على الإطلاق، رامية إلى تكذيب المزاعم ونفي التّرّهات، ودحض الأباطيل التي طالما ألصقها المُرْجِفون بالمرأة المغربية.
فقد قدّمتُ الملكة اخناثة كبرهان ساطع على وجود المرأة المغربية المثقفة الحكيمة البعيدة النظر، السامية المكانة، في حقبة من تاريخنا القومي، وعسى أن تُتاح لي الفرصة فأُقدم نماذج أخرى تشخص شخصيات نسوية، كانت ملء العين في عهدها، ومِلْءَ التاريخ بعدها.
وأما اخناثة فقد كانت لها شهرة في زمانها وبعد زمانها، تجد أخبارها مبعثرة في سجلات التاريخ، ترجم لها غير واحد، ووصفوها بأصالة الرأي، وغزارة المادة، والحفظ والرواية، والاستقامة والصلاح.
يترجمونها بأنها اخناثة بنت الشيخ بَكَّار المَغَافري، شيخ المَغَافرة الأشداء الأشاوس، من عرب الصحراء الكبرى بجنوبي المغرب، رباها أبوها تربية دينية عالية، وغذاها بلبان العلم، ونشَّأَها على الأدب، وحب المعالي، فكانت آية زمانها علماً، وأدبا، وأخلاقاً، وديناً، ولما حل المولى إسماعيل بالصحراء في بعض جولاته اتخذها قرينته، ورفعها إلى درجة الملكة، وخول لها كثيراً من شؤون الدولة، حتى إن بابها كان مقصد الوجود، لا يخلو من طلاب الحاجات، وأصحاب الوساطات، من غير أن ينكر عليها المولى إسماعيل شيئا من ذلك، نظراً إلى ما يأنسه فيها من صدق النظر، والمَشورة الصائبة، فظلت كذلك نافذةَ الأمر، مسموعة الكلمة، مرهوبةَ الجانب، إلى أن توفي المولى إسماعيل فلعبت دورا هاما في تنصيب ابنها المولى عبد الله على عرش الإمبراطورية الإسماعيلية، كما كان لها فضل كبير في تنشئة حفيدها سيدي محمد ابن عبد الله على خصال الملك، وعلى حب العرفان، وحب النظام.
وبالإضافة إلى ذلك فإنها الملكة المغربية الوحيدة التي نعرفها في تاريخ تلك العهود، سمت بها همتها، ودينها إلى شد الرحال إلى البقاع المقدسة، فقد خرجت في موكب جليل لم يخرج به أحد، تريد حج بيت الله الحرام، وكان مسيرها من هذه الديار إلى الديار الحجازية آية من آيات الأُبَّهة، ومظهراً من مظاهر المُلك والعظمة.
أطنب المؤرخون في وصف تلك الرحلة الحجازية بما ليس وراءه مطلب، ولا فوقه غاية، فرجعت وقد خلدت في تلك الديار ذكرها، وشهَّرت أمرها، وأقفت أوقافاً على سائر المؤسسات الدينية، وعلى الأعمال الخيرية بالبقاع المقدسة مما لا يزال يجري بها إلى الآن.
ويكفي أن بعضهم وصفها بأنها زبيدة زمانها، وأن حَجتها تضاهي حَجةَ زبيدة المشهورة، (زوجة هارون الرشيد)، تلك هي الملكة اخناثة التي اخترتُها بطلة قصتي، وإلى فرصة أخرى أقدم فيها بطلة أخرى إن شاء الله.