من يقول إن العالم لم يصبح قرية واحدة واهم، لذلك فحدث الحريق الذي شب في كاتدرائية نوتردام دو باري لم يبق محصورا في مدينة باريس أو فرنسا أو أوروبا بل انتشرت تداعياته بسرعة البرق في العالم أجمعين.
ومنذ أن أذاعت وسائل الإعلام والتواصل بشكل مباشر صور ألسنة النار الملتهبة وهي تلتهم الهيكل الخشبي لسطح الكاتدرائية، ثم سقوط سهمها وردود الأفعال الرسمية و الشعبية تتوالى دون توقف؛ وكلما بعدت المسافة الزمنية و خفتت المشاعر تجاه ما تعرضت له هذه المعلمة الباريسية، الفرنسية، الدينية، الوطنية والرمزية التي بقيت صامدة واقفة قرابة ثمانية قرون ونصف من الزمن إلا وتشابكت المواقف والأراء واختلفت حول ما يمكن فعله لإعادة بناء وترميم وإصلاح ما محته أو شوهته النار في ساعات من تاريخ وذاكرة وكنوز مادية أثيلة كانت مبثوثة في أركان هذه الكاتدرائية.
وارتباطا بهذا الحدث الذي فاجأ أصحاب الدار قبل غيرهم، تناسلت كذلك عدة أسئلة محرجة وحارقة، من قبيل: كيف حدث ما حدث في عصر التكنولوجيا الدقيقة وكاميرات وأجهزة المراقبة والتوقع والحماية التي قد لا يعزب عنها شيء ولم يحدث من قبل؟؛ لماذا عجز نظام الحماية الداخلي عن اكتشاف الشرارة و التدخل السريع رغم نداء سفارات الإنذار المبكر؟؛ لماذا لم تتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لتفادي ما وقع مع أن الكاتدرائية كانت في طور الخضوع لأشغال الترميم حيث تم تركيب سقالات الدعم الضرورية قبل بداية الأشغال؟؛ لماذا تسارعت الرغبة في المساهمة من طرف الشركات الكبرى والأثرياء في حين أن وضعية صعبة دخلت فيها الكثير من المعالم التاريخية منذ مدة طويلة والإمكانيات المالية لا تسمح بإنقاذ معظمها في الحين؟؛لماذا لا يغدق كرم الإحسان الذي أغرقت به نوتردام على البشر والمحتاجين منهم والبؤساء…
وقد أثار حدث حريق الكاتدرائية عندنا كذلك تعليقات ومواقف ونقاشات عن جهل أو معرفة، وطرحت حوله تساؤلات بموضوعية وتجرد أو بخلفيات هوياتية أو إيديولوجية؛ حيث تركزت بالأساس على الكيل بمكيالين تجاه ما يسمى بالتراث الإنساني العالمي، وما يتعرض له الموروث الإسلامي والعربي من محو بسبب الحروب الهمجية و التدخلات الخارجية، والذي لم تسلط الأضواء عليه من طرف وسائل الإعلام والصحافة والدوائر الثقافية الغربية رغم الخسارات الكبيرة، وقد اعتبر البعض من المتعصبين التعاطف مع الشعب الفرنسي من قبل جزء من المغاربة انسياقا مع أطروحة مركزية الثقافة والحضارة الغربية وتعميقا لهيمنة مراكز الرأسمالية العالمية التي توجه كل شيء في العالم لمصلحتها المتمثلة في إبقاء الشعوب المغلوب على أمرها تحت كماشتها وإلهائها بأمور لا تفيدها على المستوى الآني و البعيد بل تكرس لديها الاستلاب.
ومع ذلك، فلا بد من التذكير هنا لمن يحتاج إلى الذكرى، أن الغرب و مثقفيه ومفكريه و مؤسساته لا يشكل كتلة موحدة فيما يتعلق زاوية النظر والتموقف من الآخرين والتعامل معهم، بل إن هناك مثقفين ومفكرين مستقلين وسياسيين لهم من الشجاعة و والاستقلالية والتوازن والنزاهة، بحيث بقدر ما ينتقدون سياسات الغرب ومواقفه فإنهم يدافعون قدر المستطاع عن الحضارات الأخرى، ويتضامنون مع الشعوب العربية والإسلامية، بشكل خاص، في قضاياها العادلة ومطالبها المشروعة ومحنها.
وإذا كان الدفاع عن قضايانا الوطنية و والقومية من باب الواجب أو فرض العين، فإن التضامن مع الشعوب الأخرى في محنها، مهما كان اختلافنا معها دينيا وثقافيا، يجسد سموا أخلاقيا و ينطوي على رسائل مدنية وحضارية نحتاجها لخلق رأي عام إنساني عالمي يتجاوز الحشد الهستيري المستمر لافتعال الكراهية المقيتة والصراعات المرعبة والحروب الهدامة بين الحضارات والقوميات والديانات والتي لم تجن منه البشرية ولن تجن منه إلا الدمار والدموع (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا…).ّ
ومن الواضح أننا لا يمكن أن نحرم أي شعب من الاعتزاز بتاريخه و هويته ورموزه، بل إن الشعب الذي فقد الاعتزاز بنفسه شعب ميت، لذلك فإن قضايانا إذا لم تكن وسائل إعلامنا ومؤسساتنا و مثقفونا و مفكرون وسياسونا وأثرياؤنا في واجهة الدفاع عنها فلا يمكن أن نلوم الآخرين على تجاهلها أو إهمالها (وما حك جلدك مثل ظفرك).
عبد الحي مفتاح