صحافي عصامي طبع الإعلام الوطني بديناميته ومبادراته ورؤيته المستقبلية من أجل إعلام وطني حر ونزيه ومستقل، في خدمة الشعب.
جريدة الشمال – عزيز كنوني ( )
هو وحده الذي استطاع أن ” يُجازف” بالكلمة المناسبة في الموقع المناسب، في الساحة الإعلامية الوطنية الموشومة، آنذاك، ب “التواطُـــؤ الاستــرزاقي” والانتهازي والوصولي، إلا عصبة ممن نآى ضميرهم عن ذلك، فكان أن تعرض بعضهم للأذى المتوقع من مسؤولين كل همهم “البندقة” والمكر والكذب، والانخراط الجماعي في “مؤامرة الصمت” التي اوصلت المغرب إلى “السكتة القلبية” المعلومة.
نضال الراحل خالد مشبال لتحرير الكلمة، من أجل إعلام “نظيف” مستقيم و نَـزيه، لم يكن دون أن يجر عليه متاعب جَمّة، كان أخرها اكراهه على مغادرة إدارة إذاعة طنجة، كرد فعل مشؤوم على رفضه عَلنــًا أن يجمع ادريس البصري بين الداخلية والإعلام. وهو مـــوقف صائب وشجاع، إذ كيف تسمح الدولة بـرجـــل نلحق به تهم إجرامية شتى في مجال حقوق الإنسان، أن ‘يؤتمن” على حماية حق الإنسان في الإعلام … ولكنه التناقض الصارخ في رؤى دولة كانت بعض أركانها تنشد “الخير” في “السيطرة” عقول المغاربة، عبر ترسيخ مفاهيم متهالكة، متحجرة، متخلفة …مفاهيم من القرون الوسطى !
تلك المفاهيم هي ما ساهم الإعلامي الفذ، خالد، في “زعزعتها” وفي خلخلة وضعيات أنصارها من داخل البين الحكومي، وذلك عبر إعلام صادق، قريب من الشعب و”مفاهيمه” هو، ومن رغباته ومن متطلبات المرحلة…..
مواقف الراحل خالد لم تأت من فراغ، بل إنها انطلقت من اقتناع شخصي بضرورة “عمل شيء ما” من أجل الإعلام المغربي الذي تحول من إعلام “مجاهد” من أجل الاستقلال إلى إعلام “نضالي” من أجل بناء الاستقلال. وكانت أن فتحت له رحلته إلى القاهرة سنة 1952، مشيا على الأقدام هو ورفيقه….. فرصة النهل من المعارف في مجال الإعلام، وآفاق الممارسة الفعلية للكتابة الصحافية في بعض أهم صحف بلاد الكنانة، خاصة “روز اليوسف” و “آخر ساعة”، كما وضعته بجانب قادة التحرير المغاربيين الملتفين حول بطل التحرير المغربي والعربي والإسلامي، وقدوة “حروب المواقع” التي استفادت منها جل منظمات التحرير في العالم، الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، رضي الله عنه.
ومما يجهل الكثيرون أنني حضرت حفلا “طلابيا” أقامته زمرة من شباب تطوان تكريمًا لخالد مشبال، قبل انطلاقه في رحلته المصرية، حيث دَعاني أخي الراحل محمد العربي المساري لتلك الحفلة وطلب مني أن ألقي كلمة خلالها، و كنت آنذاك في صف نهاية الدروس الابتدائية بمعهد مولاي المهدي بطنجة.
وهكذا كان، لتستمر علاقات الصداقة والـزَمـــالة المهنية بيننا طيبة، وثيقة، سليمة، بـالـرّغـــم مما يشوب علاقات الإنسان أحيـانــًا من عوامل خارجية، إلاَّ أن الحس بالمسؤولية ، والإخلاص للصداقة والإيمان بأن الصداقة قلب وعقل وروح، سُـرعـــان ما تعيد المياه إلى مجاريها وتتعـــزز الصداقة بتجربة جديدة مترسخة.
كيف لا والراحل خالد كان لين الطبع، جميل الصُحبة، وفي الألفة، بالرغم مما تبدو على تعامُله المهني من صـــرامة، عادى في تقييم ما يصله من إنتـاجـــات، مشجعا للمبادرات الشابة من أدل ‘اقتحام” عالم الكتابة الصحافية…. كان مدرسة بكل مقومات المدرسة الفكرية في مجال الإعلام الذي وهبه كل حياته، وبرز فيه قامة كبيرة متوهجة ، انتـاجـــًا وتجديدا وابتكارات تتخطى الإعلام إلى إشاعة الثقافة بين المواطنين، فكانت مبادرة وكالة “شراع”، خدمة للحياة الفكرية والثقافية ودفعا إلى القراءة “من أجل مجتمع قارئ”
هذا المشروع الشجاع مكن من نشر العديد من “كتب الجيب” بمشاركة كوكبة من المثقفين المغاربة، عمداء، مخضرمين ، وشباب متطلع متوثب، حيث كان من أبرز المشاركين في إصدارات “شراع” المرحوم المهدي المنجرة ومحمد سبيلا، والراحل محمد العربي المساري، والراحل عبد الجبار السحيمي، وغيرهم كثير ممن أغنوا هذه التجربة الفتية بكتاباتهم وتشجيعهم ودعمهم.
وبالرغم من أن إصدارات وكالة “شراع” كانت توضع للسوق بثمن رمزي، لا يفوق عشرة دراهم، مقابل الجهد الأدبي والمادي الذي يواجهه عالم النشر بالمغرب، فإن الراحل مشبال اضطر إلى لم شراعه وجراحه حسن رأى أن مبادرته لم تكن في مستوى طموحه وأن من كان من ينتظر منهم يتلقفوا هذه المبادرة الفريدة ويتعهدوها بما يلزم لتطورها وانتشارها قابلوها بالجفاء والنُكران…والخذلان أيضا، وتلك هي الكارثة !
وتجربة إعلامية أخرى لا تقل لمعانا وتوَهُجـــا عن سابقاتها، مشروع جريدة الشمال ساهم في انطلاقتها بإشراف أدبي ومـــالي من الدكتور عبد الحق بخات، مدير جريدة طنجة، وتولى إدارة نشرها ورئاسة تحريرها إلى أن استقال منها لظروفه الخاصة، لتستمر الجريدة في الصدور والانتشار بإدارة جديدة، شاهدة على الجهد الكبير الذي بذله خالد مشبال في إعطاء الدفعة الأولى لصدور هذه الجريدة الجهوية التي أصبحت بفضل المؤسسين ، تشهد انتشـــارا واسعا إن على المستوى الجهوي أو الوطني.
تجربة مشبال الإعلامية تعتبر “ثورة” حقيقية في مجال الصحافة المغربية بجل أجناسها، خاصة المكتوبة والسمعية البصرية، بتنَوُعهــا وغنـاهــــا ؛حيث إنه ما كاد يعود من “هجرته” إلى مصر، سنة 1958، حتى التحق بالعمل بإذاعة تطوان، بجانب الراحل محمد العربي المساري، ثم انتقل إلى إذاعة إفريقيا حيث “ربطت” الصدفة علاقاته الأولى بمن يتكون رفيقة دربه وأم أولاده الإعلامية الناجحـة أمينة السوسي التي دعمته في مسيرته وكانت ، بـ”جــــانبه”، عــَونـًا له في السّراء والضراء، أقول بجانبه، لأنني أرفض مقولة “وراء كل رجل عظيم امرأة” لما تحتمله هذه المقولة من “دونية” بالنسبة للمرأة، بل “بجانبه” ما يعطيها كل حظوظ “المشاركة” المتساوية مع الرجل في صُنع العجائب والمعجزات.
وبعض أن قضت إرادة “الجهل” الحكومي إلغاء “العهد الملكي” لطنجة الذي أبقى ، ولفترة محدّدة، على بعض جوانب النظام المالي والتجاري لطنجة ، و”توقيف” ثلات إذاعات محلية عن البث، “إذاعة طنجة الدولية” و”راديو إفريقيا” و “بان أميريكان راديو”، انتقل خالد إلى الإذاعة الوطنية بالرباط، حيث سيحتل مكانة الصدارة في إعداد وتقديم برامج مشوقة أهَلته ليرأس مصلحة إعداد البرامج المتلفزة التي كانت تحظى بتتبع واسع من المواطنين، خاصة الميقفين، لما كانت تتسم به من موضوعية وتنوع وتجديد.
انتقل بعدها إلى إذاعة طنجة، التي أدارها بحكمة وشجاعة وجرأة ويسر لإعداد برامجها الناجحة، كوكبة من المثقفين والإعلاميين تميزت إنتاجاتهم، تحت إشرافه، بالشمولية، حيث كانت فكرة “القرب” شعار المرحلة، للقطع مع رؤية “الثقافة النُخبـــويـــة” والبرامج الإذاعية النخبوية، فالسياسة الثقافية الحَقَّة، هي التي تقرب العامة من أهم القضايا الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية ، وبصفة عامة ، التي تقرب “المعرفة من الشعب”، كل الشعب، والذي يذكر برامج مشبال وزوجته أمينة السوسي و زهور لغزاوي والراحلة الصباح، لا يمكنه إلا أن يشعر بتقهقُر كبير للسياسة الإعلامية الوطنية، في مجال السمعي البصري، على ما كانت عليه في الثمانينات والتسعينات،بالرغم من بعض المحاولات الجادة التي تبذلها إذاعن طنجة حاليا من أجل تفعيل دخيرة الراحل مشبال التي تكتنزها هده الإذاعة خاصة في مجال “الإعلام القريب” من الشعب.
وقد نجح مشبال رحمه الله نجـاحــا تـامــًا في إثارة اهتمام الشعب، كل الشعب، ببرامج إذاعة طنجة التي صارت تجذب إليها المثقفين والهامشيين عللى حد سواء، إذ كل كان يجد فيها ضالته، كما أنها كانت تحظى أيضا، بتَتبُــع واسع بالمغرب العربي والعالم العربي والجـاليـــات العربية بأوروبا، اعتبارا للمشاركات التي كانت تَصل لبرامج الإذاعة من طرف المستمعين بمختلف تلك المناطق، والتي كانت تثير العديد من القضايا المتصلة بحقوق الإنسان والتي لم تكن تروق عددا من الحكام المغاربة والمغربيين والعرب, وهو أمر لا يصعب على الفهم والإدراك.
وكان من آخر مبادراته إشرافه على تأسيس المنظمة المغربية للإعلام الجديد الذي أرادَ بها أن يعمل على تصحيح المسار الحالي للإعلام المغربي بكل أجناسه، ويفتح آفاق التكوين في وجه الممارسين من اجل اكتساب خبرات ومهارات جديدة في الكتابة الصحافية. وفي هذا الإطار نظم العديد من الندوات واللقاءات العلمية بمشاركة نخبة من الإعلاميين والمثقفين والمفكرين والخبراء، المعنيين بشؤون الإعلام والصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية. كما أن المُنظمة قامت بتكريم عدد من الصحافيين من الرواد ومن الممارسين تشجيعا لهم على المزيد من البدل والعطاء.
وقد تعدَّدت الشهادات في حَــقّ الـــراحل خالد مشبال ضمن الكتابات ومنها بيان اتحاد كتاب المغرب الذي وصف الراحل مشبال بواحد من رواد الإعلام الوطني بعد الاستقلال, .ولابد أن خير هذه الشهادات هو ما تضمنته بــَرقية التعزية التي وجهها جلالة الملك لأسرة الفقيد الكبيرة والصغيرة، من “أصدق مشاعر المواساة في فقدان أحد قيدومي الإعلام الإذاعي والوطني المتميزين ، المشهود لهم بالمهنية والكفاءة والجرأة والإخلاص في العمل”.
رحم الله الأخ والصديق والزميل خالد مشبال..