شكل موضوع مشاركة المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1936 و1939، مجالا مشرعا للتأمل وللبحث وللتنقيب، ليس -فقط- بالنسبة للمؤرخين المتخصصين، ولكن -كذلك- بالنسبة للمبدعين وللفنانين. ويبدو أن الوعي قد ازداد ترسخا بأهمية العودة لإنصاف الذاكرة الجماعية التي اختطت تفاصيلها فرق “الموروس” التي جندها فرانكو في حربه “المقدسة” ضد “الروخوس”، أو الحُمر، كشكل من أشكال البطش الكولونيالي الذي استغل سطوته فوق الأرض المغربية من أجل الرمي بآلاف من الشباب المغربي في أتون حرب طاحنة لم تكن تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. لقد قيل الشيء الكثير عن هذه الحرب، وظهرت رؤى علمية أصيلة، بالمغرب وبإسبانيا، أعادت مقاربة الموضوع في إطار أكاديمي خالص، ساهم في إنصاف الذاكرة الجماعية للمغاربة المشاركين في هذه الحرب، مثلما هو الحال مع أعمال الأساتذة بوبكر بوهادي، ومصطفى المرون، وماريا روسا دي مادرياكا،… وبما أن الجرح كان عميقا، والظلم كان شديدا، والجحود كان عنوانا، فقد ظلت نتائج الحرب جاثمة بقوة على الذاكرة الجماعية لمغاربة منطقة الشمال، أي الريف وجبالة. ونتيجة لذلك، تناسلت الحكايات، وتعددت الشهادات، وقبل ذلك، التقت المواقف عند مشاعر الأسى، ليس تجاه ظروف مشاركة المغاربة في هذه الحرب باستغلال التيار الوطني الفرانكوي لسياقات المجاعة والجفاف والفقر التي سادت بالشمال بعد نهاية حرب الريف سنة 1926، ولكن بالمنزع الخطير الذي قام بالترويج له التيار الوطني الشوفيني بإسبانيا بخصوص حقيقة مشاركة المغاربة أو “الموروس”، في هذه الحرب. لقد رسخ هذا التيار صورة سلبية جدا وقاتمة حول هؤلاء المقاتلين الذين ظلموا مرتين، في المرة الأولى بإشراكهم في طاحونة حرب لم تكن لهم فيها لا ناقة ولا جمل، وظلموا -ثانيا- عندما ألصقت دعاية التيار اليميني الفرانكوي القسم الأكبر من جرائم هذه الحرب بالمقاتلين المغاربة، حيث أصبحوا -حسب قطاعات واسعة من الرأي العام الإسباني- مسؤولين عن جرائم كبرى مثل اغتصاب النساء، والقتل الجماعي، ونهب ممتلكات أنصار التيار الجمهوري، وعمليات الإبادة،… وبذلك، نجح التيار اليميني في توفير المبرر الكافي لتبرئة ذمته من ويلات الحرب وما حملته من جرائم لا يمكن أن يتحمل مسؤوليتها إلا من أشعل لهيب التمرد وأوار الانقلاب على الحكومة الشرعية المنتخبة.
في إطار هذا الاهتمام المتجدد بالموضوع، يندرج صدور رواية “حرب الآخرين” للأستاذ عبد الحميد الهوتة، سنة 2022، في ما مجموعه 370 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. يرتكز المؤلف في عمله السردي المثير على تتبع تفاصيل تحول حياة “إبراهيم ابن السيد أحمد، بطل الرواية، والجندي المنخرط تحت اسم محمد بن أحمد رقم 10853 بتاريخ 26 دجنبر 1936 في الجيش النظامي الأهلي (الريكولاريس) التابع للجيش الفرانكوي” (ص. 7). هي سيرة يومية، لمقاتل مغربي، حرص المؤلف على إبراز أبعادها الإنسانية العميقة، في إطار توليفة سردية مثيرة، جمعت بين تفاصيل الواقع التي جرت -فعليا- في الميدان من جهة أولى، وبين رحابة فعل التخييل الخلاق الذي يعطي للذات المبدعة فرص ابتكار عوالم على عوالم، ومحكيات على محكيات، وسياقات على سياقات من جهة ثانية. في هذا الإطار، يقول خوان، أحد شخصيات الرواية، محددا الظروف العامة التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية: “هذه الحرب لها جذور عميقة في تاريخ إسبانيا، فالنظام الملكي الذي تعتمده بلادنا يعرف هزات عنيفة بين الفينة والأخرى، وذلك ما حصل في سنة 1931 حين فاز الجمهوريون بالانتخابات البلدية، وأعلنوا الجمهورية الثانية بعد نفي الملك ألفونسو الثالث عشر… اصطدمت الجمهورية عند نشوئها بعدة مشاكل في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية… كانت الأقلية من الأعيان وملاكي الأٍراضي الفلاحية هي المستفيدة الرئيسية بينما لا يحصل غالبية السكان إلا على أجور زهيدة… لقد حاول مانويل أزاتا، رئيس الحكومة الجمهورية، دون جدوى إدخال إصلاحات لمواجهة الوضع المتردي… لأنها لم تكن جذرية تعالج المشاكل الحقيقية للبلاد. وقد واجهت تلك الإصلاحات معارضة غير النظاميين والمحافظين. هكذا بدأ الصراع بين اليمينيين واليساريين… ربح اليمينيون الانتخابات عام 1933، فجمع اليساريون شتاتهم وتكتلوا في جبهة سموها الجبهة الشعبية، ضمت الاشتراكيين والشيوعيين… عاد الجمهوريون ثانية إلى الحكم في انتخابات 1936… الروخوس، هم الجمهوريون، إنهم يساريون، بمعنى أنهم اشتراكيون وشيوعيون ملحدون ينكرون وجود الله والبعث بعد الموت… لم يعد هناك ملك في إسبانيا، عندما سيطرت الحكومة الاشتراكية على الحكم، وبعد نجاحها في انتخابات 1931، نُفي الملك ألفونسو الثالث عشر وعائلته إلى باريس وبعدها إلى روما…” (ص ص. 104-101).
وبالكثير من عناصر الضبط والتوثيق، يتتبع المؤلف، على لسان خوان، تفاصيل الحرب، بشكل يقترب أحيانا من اللغة التقريرية المباشرة. فمما يقوله بهذا الخصوص: “الحرب بيننا وبين الروخو تدور في مجموع التراب الإسباني، على أربع جبهات كبرى… الجبهة الجنوبية هي التي نوجد فيها نحن الآن. إنها تشمل جبل طارق، ومالقة وغرناطة وإشبيلية، والوادي الكبير. الجبهة الوسطى، تتمركز حول المناطق المحيطة بالعاصمة مدريد، وتضم طليطلة، وشقوبية. الجبهة الشرقية توجد حول مدينة برشلونة وتضم طارويل، وسرقسطة، وأوسكا. وأخيرا الجبهة الشمالية وتضم أوفييدو، وسانتاندير، وغرنيكا..” ( ص ص. 107-108). وعلى امتداد هذه الجبهات، تنساب الحكاية، مستثمرة كثافة المعطيات التاريخية والجغرافية والاجتماعية لإسبانيا خلال ثلاثينات القرن الماضي.
وبهذه الكيفية، يحضر درس التاريخ قويا، راسما حدود الجرأة بالنسبة لملكة التخييل، بل نكاد نجازف بالقول إن تركيز الأستاذ عبد الحميد الهوتة على إبراز الأبعاد الإنسانية والوجدانية لمأساة المغاربة الدين سيقوا إلى أتون هذه الحرب الطاحنة، جعل القارئ يكتشف جوانب نفسية عميقة لم تهتم بها الإسطوغرافيات الإسبانية المتخصصة، بحكم انتظامها في إطار التعبيرات الرمزية واللامادية مما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابة التاريخية المدرسية بمعناها التخصصي الحصري الضيق. فهذا الجمع الدقيق بين طرفي الخيط الرفيع الذي يربط بين السرد التاريخي الحدثي من جهة، وبين النزوع نحو تفجير بؤر الخيال والخلق والإبداع من جهة ثانية، هو الذي أضفى على هذا العمل قيمته الرفيعة بالنسبة للمتخصصين الباحثين عن الكشف عن أوجه المعاناة كما يحكيها مقاتلو الهامش الذين شكلوا قطب الرحى ووقودها. يقول السارد واصفا أهوال المعاناة الإنسانية للحرب: “في الخندق يفقد الجندي إحساسه بكيانه وبالمكان والزمان. يتحرك في حيز ضيق جدا مهما كانت الظروف المناخية. يأكل، ويشرب، ويتغوط، ويتبول… لا يكاد يغمض جفنيه طيلة أسبوع يتحول إلى ما يشبه الدهر كله. لا راحة ولا نوم. الحرص على البقاء هو الهاجس الوحيد والأساس، ضدا على تيار الرصاص المتقطع حينا والمسترسل أحيانا. الخندق هي أسوأ أمكنة الحرب. فيه يفقد الإنسان إنسانيته…” (ص. 300).
وعلى أساس هذه اللغة الشفيفة في الوصف وفي السرد، ينهض نص “حرب الآخرين”، ليقدم متنا شيقا يساهم في أنسنة موضوع مشاركة المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية، بعيدا عن الأحكام الإسبانية الجاهزة، وقريبا من رؤى الإنصاف والمراجعة، إنصاف الذاكرة الجماعية ومراجعة الأحكام المسبقة والجاهزة حول الموضوع.
ولتعزيز متنه، اعتمد المؤلف على توظيف المعطيات الطوبونيمية لفضاء الضفتين المغربية والإسبانية، عبر إدماج دلالاتها في صلب عملية السرد، مثلما هو الحال مع منطقة جبل صرصر الفاصل بين جبالة والغرب، أو مع منطقة عرباوة، أو مع قرية أولاد حجاج، أو مع مدينة القصر الكبير، أو مع قبيلة الخلوط، أو مع المدن الإسبانية التي دمرتها الحرب مثل مدريد وبرشلونة وإشبيلية… ويبدو أن نزوع المؤلف نحو أنسنة مواقفه تجاه ما كان يقع فوق الأرض، من خلال التركيز على الانعكاسات النفسية العميقة، أضفى على السرد قيمة فريدة جعلت منه نصا يكتسي بعدا جماليا يتجاوز الإطار الزمني الضيق للأحداث وللوقائع، إلى مستوى الغوص في مكونات الفاعل في الأحداث من موقعه كإنسان أولا وقبل كل شيء. وفي ذلك، قيمة كبرى لهذا العمل الإبداعي، تجعل منه مجالا للقراءة وللتأمل، ليس -فقط- بالنسبة للنقاد المتخصصين والمهووسين بمفاتن اللغة والحكي، ولكن -كذلك- بالنسبة لمؤرخي الزمن المغربي الراهن ممن ينشغلون بسبل التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الشواهد المادية المباشرة، مثل التراث الرمزي، والعطاء الذهني، والمعتقدات الروحانية والعاطفية للأفراد وللجماعات.
أسامة الزكاري