سيدي عبد السلام بن ريسون طبيبا
بقلم: الحاج العربي بن امحمد بنونة
تقديم:
بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة السيد عبد السلام ابن ريسون بتاريخ 16 شوال 1299ه- 16 شوال1399 ه، نظمت الزاوية الريسونية بتطوان أيام 7 و8 و9 و10 و11 شتمبر 1979 م، حفلات أمداح وموسيقى، ومسابقة لتلاوة القرآن، وحملة الصدقات والترحم على الروح الطاهرة للسيد، ومعرضا للآثار والوثائق، وكذا حفلة أدبية بدار الوجيه السيد الحاج عبد الواحد بن الحاج العربي بريشة بحي الجامع الكبير.
وقد استهل هذا الحفل البهيج، المرحوم الأستاذ الحاج الطيب بنونة حيث ألقى كلمة افتتاحية باسم اللجنة المنظمة ثم مداخلة أخرى تناول فيها جانب الموسيقى عند سيدي عبد السلام ابن ريسون؛ كما قدمت مداخلات قيمة أخرى نذكر منها: مداخلة الأستاذ عبد الغفور الناصر، بارك الله في عمره، الذي تطرق للجانب الصوفي عند “السيد”، و بعده المرحوم امحمد عزيمان الذي تناول الدور الحضاري في حياة “السيد”، وتعرض المرحوم محمد العربي الشاوش للجانب الاجتماعي لسيدي عبد السلام ابن ريسون، كما ألقى المرحوم الشاعر عبد الواحد أخريف قصيدة شعرية تحت عنوان “رؤيا”. وفي الختام، ألقى المرحوم الأستاذ الزمزمي الريسوني كلمة شكر العائلة الريسونية لمنظمي هذا المهرجان الرائع.
وكان من ضمن المشاركين أيضا في هذا الحفل، والدي المرحوم الحاج العربي بن امحمد بنونة الذي تناول موضوع “عناية سيدي عبد السلام ابن ريسون بالطب.”
وقد قامت الزاوية الريسونية بتجميع مداخلات المشاركين في هذا الحفل ونشرتها في كتيب تحت عنوان: “الذكرى المائوية لوفاة سيدي أحمد ابن ريسون 16 شوال 1299- 16 شوال 1399”.
كما نشرت مجلة “دعوة الحق” في عددها 205 بتاريخ 03 – 06- 1980 مداخلة الوالد في هذه التظاهرة التاريخية.
أما النص الذي تجدونه أسفله فإنه يتضمن المقال المنشور في “دعوة الحق” بكامله مع إضافة ما نشر في كتيب الزاوية الريسونية ولم يرد في المقال .
مريم بنت العربي بنونة
سيدي عبد السلام بن ريسون طبيبا
ففي السادس عشر من شهر شوال الماضي (1399) احتفل في مدينة تطوان بالذكرى المئوية لوفاة احد رجالها الصالحين المصلحين، المربين المرشدين، من طبقت شهرته الآفاق وسمى إلى رحابه القصاد والرواد من كل صقع ، لطلب دعواته، والتزود من معلوماته، والاقتباس من أنواره، ألا وهو الشيخ الجليل، الشريف الحسيب النسيب، سيدي عبد السلام بن علي ابن ريسون اليونسي الإدريسي الحسني الفاطمي، سليل إمام المرسلين وسيد العالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تطرق المتحدثون في ذلك الاحتفال للكلام عن جوانب مختلفة من حياة “السيد” (1)، فمنهم من تكلم عن الجانب الصوفي، ومنهم من تحدث عن الجانب الاجتماعي والسياسي، ومنهم من تعرض للجانب الفني إلى غير ذلك …وكان لي حظ التحدث عن الجانب الطبي لسيدي عبد السلام ابن ريسون (2.(
واستجابة لعدة رغبات … رأيت أن أنشر على صفحات مجلة ” دعوة الحق ” – تعميما للفائدة – عرضا عن هذا الجانب الهام من حياة الشيخ ابن ريسون ، وهو : عنايته بالتطبيب ونظرياته في العلاج .
وقبل أن أخوض الموضوع ، لا بأس بان آتي بنبذة ملخصة للتعريف بهذا الشيخ الجليل :ولد سيدي عبد السلام ابن ريسون “السيد” بمدينة تطوان عام خمسة عشر ومائتين وألف (1801م) فى بيت العز والشرف والعلم، وفى جو قوامه الصلاح والتعبد، وزهد التبتل، فنشأ بين قوم صالحين، أفنوا عمرهم فى حب الله ورسوله، وأسهروا جفونهم في قيام ليلهم، تتجافى جنوبهم عن مضاجعهم، يرجون رحمة ربهم. فكان زهرة في روضة من رياض الجنة تنتظر الغيث لتتفتح بإذن ربها ، وتؤرج الدنيا بشذى عطرها.
و”السيد” سليل أسرة من العلماء والصالحين، ذوي معارف ومواهب، ولهذا بدأ حياته من أول يوم فى نهج صوفي عال، من توطين النفس على الاقتداء بهؤلاء الآباء. وقد قرأ القرءان الكريم، ودرس بتطوان وغيرها، العلوم التي كانت تدرس كالنحو والفقه، والحديث والتفسير، والسيرة النبوية، والتاريخ، والأدب والموسيقى، والطب والفلك والرياضيات، حتى كان مشاركا عبقريا يسبي العقول بما يعرض عليها من مختلف الصور والمعاني. وما تكلم فى علم من العلوم إلا وظن سامعه أنه اختصاصي فيه، وذلك حسب ما شهدوا له به علماء وأدباء عاصروه واجتمعوا به وتحدثوا اليه.
وبدأ حياته العرفانية بالتطهر والعفاف، والتنسك والعبادة، والتطوع والورع. وجعل من الكون مسجدا ، فأضفى على كل مكان حلة قداسة المسجد. وسلك طريق آبائه فى انتهاج المحجة البيضاء السالمة، فجعل حب رسول الله لى الله عليه وسلم معراجا له يتقرب الى الله تبارك وتعالى ” إذ لا وصول إلا من بابه ، ولا فروع ولا أصول إلا في ارض عرفانه ” كما كان يقول رحمه الله.
وهكذا نشأ متميزا بشخصية فذة فى وسامة وبهاء، وجلال ورواء، محبوبا من جميع من رآه أو خالطه.
نظرا لما حباه الله من ذكاء خارق، وذهن وقاد، وموهبة فائقة، فقد هضم جميع ما درسه، ونبغ فى كل ما تعلمه. وعرف الناس قدره فخطبوا وده، والتمسوا دعواته؛ فمن رجل الشارع، إلى الوجيه، إلى الفقيه، إلى الحاكم، إلى الوزير، إلى أمير المؤمنين .
وما اجتمع به عالم ولا فقيه ولا أديب ولا فنان، إلا بهره بعلومه ومعارفه وفنونه. وكان “السيد” بالنسبة لأصحابه ومريديه مربيا ناصحا، وموجها بصيرا ، يسهر على تقويمهم، وتصفية نفوسهم، ـوترقية أذواقهم، وتليين عرائكهم، وتعليمهم ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم. يرشدهم بأسلوب الحكيم، ويهذب أخلاقهم بطريقة العليم، ويدلهم على الله بالقول والفعل والحال. فكانوا يرون فيه ما لا يراه غيرهم، ويسمعون منه ما يجعلهم متفانين في حبه متنافسين في طاعته، متسابقين إلى خدمته، مجتهدين في إرضائه. وكان يعرف منهم ذلك، فيضفي عليهم من عطفه ما يفوق عطف الوالد على أفلاذ كبده .وكانت مجالسه التعليمية تشمل:
–1التفقه فى الدين بالدرس والمذاكرة حتى يكون أصحابه على بصيرة في أداء واجباتهم الدينية من عقيدة وعبادة وإحسان، وقد كلف بذلك احد أفذاذ العلماء من أصحابه.
–2دراسة السيرة النبوية للتعرف على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يحضر هذا الدرس ليشارك فيه بما يخطر له من السوانح والواردات، والرقائق والاستنباطات، حيث كانت تتدفق معارفه وتشع أنواره على أصحابه فتضيء قلوبهم بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخشع وتشتاق، وتعتريها الأحوال، وتخفق بالأشواق، فتتلى الصلوات وتكرر الدعوات.
3- ترقية الذوق بالفن الجميل المتمثل فى الموسيقى والامتداح، والتأنق في مظهر والمخبر، فكانت حضرته تبهر العقول بالجمال الخلاب ، وتأخذ بالألباب فتسطع الأنوار وتتدفق الإسرار، ولا يحضرها من الأصحاب إلا المختارون الأخيار من ذوي الذوق الفني الممتاز.
وعلى العموم، فإننا لا نستطيع أن نأتي بصورة كاملة لحياة “السيد” في صباه وشبابه ، وفى كهولته وشيخوخته، تصف هذه الحياة بما مر فيها من ألوان، وترسم تقدمه في مدراج العرفان، إلى أن نضج واكتمل؛ لأن الذين رافقوه وعاشروه، لم يدونوا لنا ما نقتبس منه الأنوار أو نستنشق منه أريج تلك الأزهار. وكل ما لدينا من حديث عن تلك الفترة لا يخرج عن نتف سمعناها من الذين سبقونا، فنقلوا عمن شاهد وقال، وهو حديث لا يتصف بالتدقيق، وإنما يعني بالعموميات غير المقيدة بالزمان والتاريخ ولا بالمكان والتحديد .
وأهم المراجع التي ورد فيها الحديث عن سيدي عبد السلام ابن ريسون هي :
–1 كتاب تاريخ تطوان للعلامة الأستاذ السيد الحاج محمد داود حفظه الله .
–2 كتاب الفهرسة أو النعيم المقيم ( مخطوط ) للعلامة المحقق السيد محمد المرير رحمه الله .
–3 كتاب عمدة الراوين فى تاريخ تطاوين ( مخطوط ) للعلامة السيد الحاج احمد الرهوني رحمه الله .
وقد امتاز الأستاذ محمد داود في مؤلفه بالإحاطة بجميع جوانب حياة الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون، سواء منها الجانب الصوفي أو العلمي أو الفني أو الطبي أو الاجتماعي أو السياسي. وبعد هذه المقدمة، أنقل بعض ما جمعه من معلومات عن الجانب الطبي فى حياة “السيد” رحمه الله :
ذكر الفقيه الأديب السيد المفضل أفيلال – وهو من خاصة أصحاب السيد: “انه درس على سيدي عبد السلام ابن ريسون حركات الأفلاك السبعة ومقابلتها بالأنغام السبع ( يقصد أصوات السلم الموسيقي المعروف فى علم النوبة : دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، ) كما درس عليه علم الموسيقى، وأخذ عنه مثلث الغزالي، وعلوما ومعارف كثيرة في الطب والكيمياء ، وكيفية تحليل العناصر الأربعة، واستخراجها من المعادن والنباتات والأزاهير ، وكيفية تربيب الفواكه والأزهار ، وفوائد جمة في علم التوقيت . وقال انه درس عليه أصول علم التشريح والطب للسيوطي ” .
وهكذا عرف عن الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون أنه كان عالما بالطب فى وقت ندر فيه الأطباء ، بل لم يكن موجودا في تطوان وقتئذ أي طبيب أجنبي . كما لم يكن هناك وجود لصيدليات تقوم بتركيب الأدوية أو بيعها للعموم .
فكان “السيد” رحمه الله يصف الدواء الناجع لمن قصده أو سأله من المرضى، وكانت الأدوية التي يصنعها أو يشتريها مؤلفة من العقاقير والنباتات المعروفة عند الناس بأعيانها وأسمائها. فكانوا يتناولونها فيجدون مفعولها ويلمسون تأثيرها فيشفيهم الله سبحانه عند استعمالها.
وقد درس كتب الطب القديمة ، وفى مقدمة الكتب التي كان يعتمد عليها ويستفيد منها : كتاب القانون لابن سينا ، وكتاب تذكرة أولي الألباب للشيخ داوود الأنطاكي .
وكانت له تجارب شخصية، ظهر أثرها وثبت نفعها لكثير من الناس. وكان صائبا في أفكاره وإشاداته ونظرياته، ساعيا لجلب الخير للخاصة والعامة، ودفع الضرر عن مختلف طبقات الأمة .
ولم يقتصر على ما جاء في الكتب القديمة فحسب ، بل كان باحثا دؤوبا عما يتجدد من الاكتشافات والابتكارات فى الميدان الطبي بأوربا وغيرها. وذلك بواسطة عدد من أصحابه وخواصه الذين كانوا يحتلون مناصب سامية في الحكومة المغربية، والذين كانوا يسافرون من حين لآخر إلى أوربا وغيرها فى مهمات رسمية أمثال السيد امحمد الخطيب النائب السلطاني بطنجة المكلف بالشؤون الخارجية، والسيد محمد بن عبد الله الصفار رئيس الوزراء، والسيد الحاج عبد الكريم بريشة وأخيه السيد الحاج العربي بريشة السفيرين إلى عدة أقطار أوربية وأسيوية ، وغيرهم.
وكان كثير من الناس يخلطون بين الطب وبين الولاية والكرامات، فينسبون الشفاء للبركة التي بتوفر عليها الشيخ … لكنه كان يستنكر ذلك ويقول : بل هي علوم وقواعد وتجارب وإرشادات ، ولا دخل فيها لما يظنون انه من قبيل الولاية أو الكرامات (3)، وذكر هنا قصة طريفة في الموضوع :
مرض شخص تطواني يدعى “الباهي” بالحمى فقصد الطبيب المعروف السيد محمد بن عبد الوهاب لوقش لمعالجته ، فوصف له دواء مناسبا لمرضه . وبعد ما تناول “الباهي” ذلك الدواء اشتدت عليه وطأة المرض، واستفحل الداء، فذهب إلى سيدي عبد السلام ابن ريسون مشتكيا ضره وملتمسا منه العلاج ، وأشار عليه “السيد” بأكل السمك المعروف بالسردين ، فتناوله “الباهي” وشفاه الله من علته. وبلغ الخبر الطبيب لوقش فقال : “متاع الله لله أسيدي عبد السلام … ” يعني أن “السيد” عالج المريض “بالبركة” أو “الكرامة” التي خص الله بها أولياء المصطفين من عباده الصالحين، وان سمك السردين ليس بدواء ناجع للعلاج من مرض الحمى. ونميت قولة الطبيب لوقش إلى سيدي عبد السلام ابن ريسون ، فتأثر لذلك وتألم لما نسبه اليه لوقش من الكرامة ، وقال لمحدثه : كلا، إنها ليست كرامة ولا بركة، بل هي علم الطب والتداوي .. وإن نوع الحمى التي أصابت الباهي يداويها العشب الفلاني الذي يوجد في هذا الفصل فى قاع البحر، فيتغذى به سمك السردين .. ! ثم أرشده إلى الكتاب الذي جاء فيه وصف ذلك المرض وذلك العلاج .
ونقل العلامة المرحوم المفضل أفيلال عن “السيد” قوله :
” الحمى كلها نار تشتعل في العفونات إن وقع فيها احتراق ظاهري أو باطني. فإذا لاحت الروح بها وكانت لها قوة، وهربت إلى القلب، ويبقى الجسد خاليا منها، فيبرد ويحصل له الارتعاش، ثم تراجعه الحمى شيئا فشيئا حتى تشتعل فيه نارها، وتقوى الحرارة في البدن، وان لم تبق للروح قوة يمكن منها الفرار، فهي المكلفة بأخذ الروح والبدن، وتقهر الجميع، والذي يزيلها في الحين : النافع والقلين – أي الأرنب – يستنشق بخاره ويشرب مرقه ويأكل من لحمه ولا يخرج للريح ” (4) .وقال السيد المفضل أفيلال أيضا : سال رجل “السيد” رضي الله عنه عن صبي تورمت إحدى قدميه ؟ فقال له “السيد” : إن كانت اليمنى فليضع عليها النخالة مطبوخة مع الخل أو ما يقوم مقامه من الأحماض ، وان كانت اليسرى فليضع عليها الحناء مع الصابون. فسألته – يقول أفيلال – عن الفرق بينهما ؟ فأجاب : لأن اليمنى من ناحية الكبد، فمادتها حارة . أما اليسرى فمن ناحية الطحال، وهو بارد، فيعالج كل بضده ” .
وذكر أفيلال أيضا أن رجلا جاء الى “السيد” يسأله علاجا لانتفاخ فى بطنه وتغير فى لون، فأمره “السيد” أن يدهن بطنه بالعسل ويجعل عليها قرنفلا مسحوقا أو سكنجبير، ويضع فوق الكل قطعة من الصوف ويربط على الجميع .ثم التفت “السيد” إلى أفيلال شارحا له هذا الداء وقال:
“المعدة تعتريها البرودة من كثرة الشرب، فتعجز عن الهضم الذي يكون بحرارة الكبد والرئة، فلا بد من مسخن، وهذه الأمور ( أي العسل والقرنفل وسكنجبير ) مسخنة. فإذا اشتد العطش معها فيشرب ماء الحليب المصفى بالحامض ” .
وأضاف قائلا : ” إن فى البطن عروقا تستمد من المعدة، تتلذذ بالماء عند الشرب . فإذا شرب الإنسان عقب التعب الذي تخرج الحرارة معه للظاهر ، تبرد المعدة وتعجز عن هضمه ، وتبقى تلك العروق متشرفة للماء فتأخذه وحدها، ويكثر جذبها له ، فتتسع أفواهها، فينشا من ذلك الاستسقاء الذي لا دواء له إلا الموت ” .
ومن أقواله المأثورة:
” شرب العسل حارا يحل ما ينعقد فى المعدة ” .
“الخفقان يسكنه القرنفل ” (5) .
وذكر أحد أصحابه وهو الفقيه السيد الحاج محمد الصفار رحمه الله أنه تلقى عن الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون عدة فوائد طبية، منها :
–1 أن الإنسان إذا أحس في أذنه شيئا، يعجل لها بدهن زيت البنفسج أو غيره من الزيوت. فإذا لم يجد، فليأخذ زيت العود من القنديل ويدهن به أذنه من داخلها وتحت أذنه من خارجها . وان ذلك يصرف المادة التي تكون حادثة من الرأس .
– 2شرب الشيبة يفتح الرياح ( أي يفسخ الغازات ) ويحلل البلغم. وإذا أكثر المرء من شربها، وظهرت حرارتها فى الحلق، يكون إصلاحها بالعود القماري يشربه مع الشاي بعد أن يضعه في “البراد” أو في الكأس، وهو نافع جدا .
–3 خاصية في شرب الشاي : إذا كان مزاج المرء معتدلا ، فلا يصلح له الشاي المركز ( المجهد ) بل يصلح الشاي اللطيف ( الخفيف) . وإذا كان المزاج متغيرا أو غلبت عليه السواد فيليق له الشاي المركز .
ولنقرأ جوابا “للسيد” على رسالة بعث بها اليه الفقيه محمد ابن تاويت من قبيلة وادراس ، ففيه إرشادات طبية وحض على الحمية ، وقد جاء فيه :
” … وقد بلغنا كتابكم الأعز. وما فيه من مودتكم، ومآثر محبتكم وفضلكم، وما فيه من بث الشكوى، فنسأل الله العافية والشفاء لكم مما أصابكم في سبيل الله من الإمراض والكلام، لما حاربتم العدو بالدعاء والكلام، ولكم إن شاء الله اجر المجاهدين، والجزاء من جنس العمل، والحمد لله على كل حال. وما ذكرتم من سبب الأمراض الظاهرة من برد وتناول طعام أو ماء وكونه مضرا : فهو كذلك. إلا أنه رحمة ولطف لنيل حظ مما سعيتم فيه، وفيه علامة قبول الدعاء، “إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله”. وأما ما تتخوفه من تعدي الإمراض، فلا بأس عليكم إن شاء الله . واجتناب السبب من أكل وشرب : واجب. لأن الحمية رأس الدواء. وتناول أضداد المضرات لازم، وهو كل بارد ثقيل مثل القطاني والحوامض والفطير من الطعام، والغليظ من اللحوم كالبقر . وأما ما يتناول من خارج : فبالاستحمام بلا ماء، ليعرق وتخفف المواد. ويحتال على العرق بما أمكن من غطاء أو غيره بلا تعب. وإن وجدت قنفوذا فاذبحه وحلله ، وارم ما في جوفه من الفضلات، واعمله في قشعة افرور (6) ، وادخله فى فرن واقلبه حتى يتجمر ، بحيث حين يبرد بدق كله ويصير غيره (7) فيلئق (8) بعسل، ويؤكل منه على الريق قدر فص البيضة . والله الشافي .
وإن خفت من شرب الماء فاجعل شيئا من خطرة البقر فى الماء، واتركه يصغى، واشرب ما صفا، فإنه نافع إن شاء الله “) 9).
وكتب الفقيه السيد المفضل أفيلال رسالة إلى سيدي عبد السلام ابن ريسون يشكو فيها مرضا ألم بيده اليمنى، ويسأله علاجا لعلته وجاء فيها :
” وبعد، فان يدي اليمنى لاذت ببركة يمناك ويمنك، واستمسكت بالعروة الوثقى من ودادك، وأعربت عما في ضميرها بخطها، وحطت رحلها بفناء سيادتك، راغبة أن تفوز بنظرة منك اليها ، يكون فيها علاجها وشفاؤها. وعلى المحبة والسلام ” .
وقد سطر “السيد” رحمه الله جوابا شافيا على نفس رسالته، جاء فيه :
” الحمد لله وحده . وعلى سيدنا العلامة اللبيب، اللوذعي الأريب، أزكى السلام، والرحمة والبركة والانعام. وقد طالعنا الأعز كتابكم أعلاه. وما ذكر سيدنا من أن ننظر في اليد العزيزة علينا ما أصابها ؟ فاعلم – سيدي – أني لما فتحت الكتاب، ورأيت فيه ضر اليد اليمنى، نظرت في يدي فإذا هي أخت المصابة. وهي كهي؛ انكسرت الفكرة من مطالعة أمر الدواء، لأني لم أر ما يصلح ليدي من المباشرة، فاستحييت من القول بلا ظن قوي، ورددت أمر اليدين لراحة طبيب الأرواح والأبدان لعله ينظر فيهما نظرة الشفاء، فيحصل لنا به الاكتفاء عن طب من لم يحسن معرفة، وأوصاف العجز عليه لائحة بلا خفاء. ثم ان وهب الله لأحدنا ما يحصل به الشفاء. فلينفع أخاه بما نفعه به الطبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وعلى المحبة والسلام. عبد السلام بن علي” (10) .
من هذا الجواب الواضح الصريح، يتضح لنا أن “السيد” رحمه الله، كان يعالج مرضاه بحسب علمه بقواعد الطب، ومعرفته بأنواع الأدوية الصالحة للإمراض والأدواء. وليس كما تدعي العامة من الناس بأنه يعالج بالبركة والكرامات … فلو كان الأمر كما يدعون لعالج يده المريضة أو يد صديقه ومريده العزيز عليه، والأثير لديه، السيد المفضل أفيلال، لكنه عندنا عجز عن معرفة الدواء، فوض الأمر إلى الباري سبحانه الشافي من كل العلل ، ولم يجرب دواء على سبيل الظن أو يستعمل علاجا من قبيل “البركة” .
وهذه وصفة دواء آخر، ذكرها فى رسالة منه إلى السيد امحمد الخطيب النائب السلطاني يطنجة. جاء فيها :” وما ذكرتم من أمر السيد مصطفى الدكالي، فالظاهر مادة دموية ولم تنقض بخدمة الدمال المذكور، فتسفل ما بقي منها. فينبغي إخراج الدم السليم الذي يلي جهة الدمال من اليد. وان كان الضعف فيترك اللحم وكل ثقيل. فان خف من أعلى البدن وبقي الأسفل ، فالعلق من الرجل. وهاك شيئا من الدهن يدهن به من حد الوجع إلى أسفل الرجل. والله الشافي. وإن وجد سخانة ( أي حرارة ) فيشرب ماء قشر اللوز أو ماء الزعزوف. وهذا ما ظهر، والله يشفي العلل ” الخ ..
ولعل أطرف رسالة – عثرت عليها – متعلقة بنظريات “السيد” فى الطب، هي التي وجهها إلى صديقه السفير الحاج عبد الكريم بريشة الذي كان موجودا فى مهمة بلندن، فأصابه مرض فى خصيته، وأشار وعليه الأطباء فى انجلترا بإجراء عملية جراحية لإخراج الماء من الخصية. فكتب إلى سيدي عبد السلام ابن ريسون بصف له داءه ويستشيره فى أمر إجراء العملية الجراحية. فأجابه “السيد” برسالة مؤرخه في 16 رجب عام 1278ه ( وهي من الرسائل القليلة التي أرخها “السيد” إذ لم يكن يهتم بتاريخ رسائله ). ومما جاء فيها قوله :
” وذكرت لنا أنه أصابك ألم في بيضة اليمين، وذكرت ما أراد الطبيب من الضرب على الماء. فاعلم أنه يظهر لي ان تفصد من اسليم (11) اليمين، وهو عرق بين الخنصر والبنصر، وتجتنب أكل ما فيه الثقل من البطاطة وما أشبهها، وتشرب طبخ العود القماري أو تعمله فى البراد مع أتاي لأنه نافع ويضيق مجاري المادة. وحين ترى الماء الذي مع البيضة وقف ولم يزد، فأنت حينئذ بالخيار في الضرب لإخراجه . وأما قبل أن يقف عن نزوله في المحل، فإنما إخراجه زيادة في مادته وسرعة هبوط مادة أخرى. وإياك تثقيفه في وعاء البيضة بماء قاطع يسد العروق، فذلك يوجب تحويل المادة لجهة أخرى عند توفرها. وإنما يصلح تثقيفه من فوق مثل ما أشرنا، ونسال الله أن يشفيك شفاء لا يغادر سقما بفضله ورحمته ” الخ
أليس هذا كافيا للدلالة على سعة اطلاعه وعمق نظره في أمور الطب والعلاج ؟ بالإضافة إلى ذلك فقد كانت له خبرة بالأماكن التي تمتاز بهوائها الجيد النافع لصحة الأبدان وراحة الأنفس. وقد كتب العلامة المرحوم السيد محمد المرير في مؤلفه “النعيم المقيم” حول هذا الموضوع فقال: ” قد أخبرني الفاضل المرحوم السيد الحاج العربي بنونة أنه ( أي الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون ) جاءه ذات يوم المرحوم السيد الحاج احمد ابن موسى – وكان ممن ينتاب مجلس الشيخ – عن طول غيبة عنه، فقال له : إني كنت مريضا . فقال له الشيخ : ” أنت عندك جنان في بوجراح (12)، وأنت تمرض؟ ففهم ابن موسى إشارة الشيخ، وخرج لجنانه، وأقام به مدة، فوجد فى ذلك عافية جديدة “.
… وقد ذكرتني هذه الحكاية بما وقع لوالدي( الحاج امحمد بنونة) رحمه الله منذ نحو 40 سنة. فقد توعكت صحته واستعصى علاجه وظهرت في جلده بثور ودماميل، فأشار عليه طبيب إسباني كان معروفاً بتطوان يدعى “سانطاولايا” بأن يخرج للسكنى في الخلاء، حيث الهواء الطلق والجو النقي. فسأله والدي عن أي جهة يقصدها؟ فأجابه الطبيب بأن أفضل ناحية في ضواحي تطوان هي ناحية “بوجراح” و “الطويلع”.
هذه نبذة عن عناية سيدي عبد السلام ابن ريسون بالطب . فقد كان رضي الله عنه طبيبا للأرواح والأبدان في تطوان خلال القرن الثالث عشر الهجري. وكان يتخذ من مهنة الطب عبادة بتقرب بها إلى الله سبحانه، فلم يكن يتقاضى عن ذلك أي اجر، بل كان يقدم في كثير من الأحيان المراهم والأدوية التي يركبها إلى المرضى والى الفقراء منهم خاصة. لازالت بعض الأسر محتفظة إلى الآن بوصفاته لعدد من الأدوية لعلاج مختلف الإمراض.
وقد توفي هذا السيد الجليل بتطوان فى 16 شوال عام 1299 الموافق لـ 31 غشت سنة 1882. ودفن في زاوية والده سيدي علي ابن ريسون بعد ظهر يوم الجمعة الموالي. رحمة الله واسكنه فسيح الجنان، وجزاه عما قدم للمسلمين أحسن الجزاء .
الهوامش
(1) اشتهر سيدي عبد السلام ابن ريسون في الأوساط التطوانية بلقب “السيد” سواء قيد حياته أو بعد وفاته .
(2) جمعت اللجنة التي سهرت على تنظيم الذكرى المئوية لوفاة “السيد” الكلمات التي ألقيت في حفل الذكرى، وطبعتها فى كتيب محلى بصور مختلفة، من رسائل ومخلفات وآثار فنية للسيد رحمه الله .
(3) تاريخ تطوان للأستاذ محمد داود : المجلد 7 عدد 19 ص 99 .
(4) تاريخ تطوان ، لداود – مجلد 7 عدد 19 ص 141 .
(5) المصدر السابق .
(6) إناء من الخزف .
(7) مسحوقا كالرماد .
(8) يلتئق : يبلل .
(9) تاريخ تطوان لداود ، مجلد 7 عدد : 19 ص 154 .
(10) كتاب عمدة الراوين فى تاريخ تطاوين للعلامة المرحوم احمد الرهوني : الجزء 4 ص 216 ، (مخطوط)
(11) الاسيلم : عرق بين الخنصر والبنصر ( المنجد)
(12) ناحية فى ضواحي تطوان شهيرة بهوائها الصحي وأجنتها المزدانة بالأشجار والأزهار والرياحين .