“شعرية المدينة: طنجة في الرواية المغربية”
ظلت فضاءات مدينة طنجة كتابا مفتوحا أمام نهم العشاق والمريدين. وظل سحرها عنوانا لنزوع عجائبي نحو تطويع ملكة الخيال لدى قطاعات واسعة من المبدعين العالميين الذين رمت بهم الأقدار إلى ضفافها الوارفة. وظل السعي نحو استثمار سمة هذا السحر الغرائبي مدخلا نهضت عليه الكثير من الأعمال الإبداعية المتشعبة المرامي والمتضاربة الرؤى والمتعددة المنطلقات، تشكيلا وسردا ومسرحا وشعرا ومعمارا. وقد تطور الأمر، أن أضفى هذا المنحى على هوية طنجة الثقافية ميسما مخصوصا قد لا نجد مثيلا له في أي جزء آخر من بقاع الأرض.
فهي المدينة ذات البحرين، وهي مهد حضارات البحر الأبيض المتوسط القديمة، وهي قاعدة بلاد الإسلام في انفتاحها على الشمال الأوربي، وقبل كل ذلك، هي هذا الانفتاح الواسع على مكتسبات الحضارة البشرية التي انصهرت في بوتقتها تجارب إبداعية وفكرية مخترقة للزمن، وناظمة لخيط رفيع يجمع بين كل ينابيع هذا النهر الدافق الذي ظل يصنع تمثلاتنا الجماعية حول صورة طنجة المشتهاة، طنجة المنبثقة من عبق التاريخ، طنجة الافتتان الأبدي بالمكان وبالوجوه، طنجة الخصب المتجدد والعطاء المستدام، باختصار، طنجة الخلود كما عكسته أعمال مريديها الكبار، من أمثال عبد الله كنون وعبد العزيز خلوق التمسماني وبول بولز وتينيسي وليامز وأوجين دي لاكروا ومحمد شكري…
وإذا كانت الكتابات التأريخية التخصصية قد استطاعت تحقيق تراكم هام أضحى يشكل –اليوم- رصيدا إسطوغرافيا غنيا ومتنوعا، فإن الاشتغال على مكنونات التراث الرمزي والتاريخ الثقافي لازال يحظى بانفتاح محدود من قبل المشتغلين بترصد إبدالات تاريخ الذهنيات، الفردية والجماعية، داخل زمانها ومكانها المخصوصين. ومع ذلك، ومن زاوية البحث التاريخي المجدد، حتى لا أقول “الجديد”، بدأت مدارس البحث التاريخي المعاصر تعرف انفتاحا متواصلا على استثمار عطاء الأعمال الإبداعية، شعر ونثرا وتشكيلا، قصد تفكيك منطلقاتها وآفاقها المرتبطة بمكنونات الذاكرة الجماعية وبعطاء المخيال المشترك المنتج لتجارب الكتابة والتأمل والتفكيك والاستثمار. ومن هذه الزاوية بالذات، أصبحنا نبحث عن القبض بآليات التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في إطار الكتابات التأريخية الحدثية التخصصية في أبعادها الحصرية الضيقة، بل وانخرط الكثير من المؤرخين في صوغ مغامرة الكتابة الروائية، باعتبارها أداة لتفكيك الرموز المجردة والتراث الذهني اللامادي والتمثلات الجماعية والسلوكية الناظمة لسلوك الفرد والجماعة داخل سيرورة التكون الطويل المدى، بمعناه البروديلي، لأنساق الحياة والفكر التي يحبل بها المجتمع.
في إطار هذا التصور المنهجي المجدد، يندرج انفتاحنا على قراءة الكتاب النقدي الذي أصدرته الأستاذة خديجة البوعزاوي سنة 2017، تحت عنوان “شعرية المدينة: طنجة في الرواية المغربية”، وذلك في ما مجموعه 197 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وإذا كنا في هذا المقام، لا نزعم اكتساب العدة المنهجية الضرورية لتفكيك بنية هذا العمل النقدي، فإننا –في المقابل- نؤكد على قيمته الكبرى في توفير الكثير من عناصر التأصيل المنهجي والمعرفي الكفيل بتجسير العلاقات القائمة/والمفترضة بين النصوص النقدية المشتغلة على خصوبة مكوني الزمان والمكان داخل بنية النصوص الروائية المحتفية بالجغرافيات الحميمية، وبين مصوغات التأسيس لكتابة تاريخية منفتحة على مواد التراث الرمزي المتحرر من صرامة شروط الكتابة التاريخية المنهجية المعروفة. بمعنى، أننا لا ننوي استثمار القيمة النقدية التفكيكية لخلاصات الأستاذة البوعزاوي إلا في تقاطعاتها مع اهتمامنا بتوسيع حلقات البحث التاريخي المتجاوز لمنطق السرديات المحنطة والمتوارثة عن الإسطوغرافيات التقليدية، العربية والأجنبية.
وبخصوص الأفق العام الذي وجه مضامين الكتاب، فقد لخصته خديجة البوعزاوي –في كلمتها التصديرية- بشكل دقيق، عندما قالت: “يعتبر مفهوم الفضاء من المفاهيم النقدية الحديثة، التي حازت اهتمام كثير من النقاد والدارسين الغربيين، قبل أن ينتقل، عبر وسيط الترجمة، إلى حقل الدراسات النقدية المعاصرة. حيث توسل إليه كثير من النقاد في مقاربتهم للنصوص الإبداعية، في أفق الكشف عن ديناميته إن في إغناء المعنى أو في تفكيك مضمرات الخطاب. إلا أن بعض هذه الدراسات النقدية العربية لم يسلم أصحابها، في استئناسهم بهذا المفهوم، من آفة الخلط بينه وبين مفهوم “المكان”، إن على المستوى النظري، أو في معالجة النصوص السردية نقدا، والحال أن الفرق بينهما شاسع وبين. من هنا سعي هذه الدراسة إلى الوقوف عند فعالية اشتغال كل واحد من هذين المفهومين، بما ييسر عملية تشريح النصوص، والإفصاح عن مكنوناتها، عبر تجريب آليتي المقاربة والتأويل”.
ولإضفاء بعد إجرائي على هذه المنطلقات المنهجية العميقة، اختارت المؤلفة تجريب خلاصات اجتهادات الدراسات النقدية الحديثة والمعاصرة المرتبطة بمفهوم “الفضاء” على أربعة نصوص سردية مغربية، راهن أصحابها في بناء عوالمهم السردية وسياقاتهم التخييلية على تجديد الرؤى تجاه المفهوم الحصري للفظة “المكان”. وهذه الروايات هي –على التوالي- “الضوء الهارب” لمحمد برادة، و”الشطار” لمحمد شكري، و”فراق في طنجة ” لعبد الحي المودن، ثم “جيرترود ” لحسن نجمي.
واستنادا إلى رؤى تفكيكية عميقة لمضامين هذه النصوص، استطاعت المؤلفة بلورة مدارج الدراسة، بالارتكاز إلى متواليات مسترسلة من الأسئلة المهيكلة للبحث، صاغتها في كلمتها التقديمية بشكل استشرافي، قالت فيه: “… من هنا قمنا بصوغ إشكالية لهذه الدراسة جاءت على صيغة السؤال التالي: كيف يمكن لمفهوم “الفضاء” أن يتحول من مجرد دال عن المكان كجغرافيا، إلى مفهوم أكثر انزياحا وشساعة وديناميكية، بحيث يطال الذاكرة والجوانب الحسية والمتخيل على حد سواء؟ بمعنى آخر، هل من الممكن أن تكون للفضاء- المكان امتدادات أخرى أبعد مما هو متداول، بما يجعل منه –عطفا على ذلك- مفهوما يختزل حيوات البشر ومصائرهم وأحاسيسهم الفردية والجماعية، أي تحوله إلى فضاء تخييلي رمزي، يتجاوز الواقع، ولا يكتفي بتصويره، خاصة في مدونة السرد المغربي…” (ص ص. 11-12).
وللاقتراب من سقف هذه الأسئلة المتناسلة، اختارت المؤلفة نهج تشريح عناصر الخصب ومقومات التوظيف الإبداعي المرتبط “بفضاء طنجة”، هذه المدينة الكوسموبوليتية التي حظيت باستقطاب عالمي، أثمر نصوصا على نصوص، وتجاربا على تجارب، ومسارات على مسارات، بإغراءاتها الأسطورية والجغرافية والتاريخية والثقافية. ويقينا إن تجميع عطاء هذه التجارب يوفر للباحثين المنشغلين بإبدالات التاريخ الثقافي المجهري، سبل القبض بالتفاصيل “الأخرى” غير المرتبطة بإواليات اشتغال عقل المؤرخ التقليدي. إنه استيعاب منهجي تجديدي يفتح الآفاق الواسعة أمام جهود صقل “صنعة” كتابة التاريخ، في أفق خلق مقومات أنسنة الموروثات الرمزية، ثم تطويعها وتخليد قيمها عبر التوظيفات الإبداعية والفنية التخييلية الرحبة والواسعة.