اقترن ذكر شفشاون دائما بالماء؛ ماء زلال ينزل كالجوهر من أعالي الجبال ليسقي المدينة ويمنحها ذلك الرونق الذي لا عيش يصفو دونه.
لم نكن ،و نحن في عز الطفولة، نحمل هما لما قد يترتب عن شح المطر من تهديد لذلك الرونق، بل لم نكن نتصور أن المدينة قد يقل أو، لاقدر الله، ينقطع ماؤها، ذلك كان بعيدا بعد العوالم الخفية التي يحكى لنا أو نسمع عنها من هنا أو هناك..
الماء كان يجري بيننا كما تجري الحياة، كان منبع رأس الماء هدارا، والعيون ملأى، و السواقي منسابة، و السقايات رقراقة، والنافورات جذابة، الماء كان يعزف سمفونيته الرائعة في كل الفصول، بكل أحياء المدينة و دروبها وأرحيتها…، بأعاليها و سافلتها، فكان الرواء والصفاء، والجنان والبساتين، و الخضرة والظلال. والغناء والزغاريد..
كنا نستعجل أحيانا كثيرة ضحك الشمس من بين اكفهرار السحب الذي كلما تمطط بثقله أياما أو امتد أسابيع أو مكث شهورا طالت معه معاناتنا مع جلاليبنا و ملابسنا المتواضعة القليلة التي لم يكن ينفع معها إلا الموقد الذي نتدفأ به من قرص البرد و الذي توضع فوقه كذلك، كسلة مقلوبة نشافة الملابس(الكبراتة)..
لم يكن المطر المقيم، غبا أو جثوما، مصدر معاناتنا المنسية فقط بل كان مصدرا حقيقيا لفرحنا وانتشائنا وفخرنا كذلك، كنا نستمتع بمعاكسة تيارات الماء المندفعة بأحذيتنا أو جزماتنا المطاطية، ونلج البرك التي تتشكل محدثين بشغبنا كثيرا من الضوضاء والرش…، كما كنا نسعد بأن الغدير سيكون زاهيا الصيف كله. و كلما مرت جحافل السياح بحينا، ندلهم بكثير من الثقة في النفس على طريق رأس الماء، لأننا كنا نعرف بحدسنا الطفولي أن ماء رأس الماء الذي ينبعث كالسحر من بين الحجارة يجذب الناظرين و يطرب الزائرين، كنا نعرف ذلك معرفة اليقين و إن كنا لا نعرف السبب…
حينما يشتد المطر و يزيد، نردد للاطمئنان: الصلااااااة على النبي…، و لا نشك أن موعده آت، و الأخبار تتواتر بأن منبع رأس الماء يفيض ويزيد. كانت ذروة الغيث أن يفور الماء من كهف حنا مسعودة، وعندما يفيض الكهف لا تسمع إلا: هل رأيت كهف حنا مسعودة و تتناسل الحكايات وغواياتها، و كأن الماء -الذي لم يبق له من مزيد- صانع مجازات وناحت رموز…، و ترى الناس من كل حدب وصوب يقفون على الكهف تبركا و حمدا لله على نعمة الغيث و جلال الخصب…
ودارت الأيام بليلها و نهارها، بحلوها و مرها… إلى أن تفجر منبع تسملال الصديق الحميم لرأس الماء، تسللت الوشوشات، وبعدها جرت أحاديث ثم ظهرت اعتراضات ثم تعالت استنكارات على التفويت و ربطه بأزمة الماء في المدينة التي اقترن ذكرها بالماء، لم تبق القصة منبعا و ماء و غيثا و كهفا و فيضا، و حكيا و رموزا و مجازات…انتصرت لغة التعبئة و التوفير و التدبير، والموارد والشبكة و التجهيزات، والإنتاج و التوزيع والإيصال، والجودة والديمومة والحكامة، والسعر و الاستهلاك…؛ فالماء و إن كان يفتح الأبواب على مصراعيها لمخيلتنا والسحري فينا، فإنه، كما ترشدنا التعاليم و تعلمنا الكراسات العلمية…، يظل مادة حيوية لاستمرار الحياة وللمجتمعات الزراعية والصناعية وللاقتصادات…؛ ولا تقوم قائمة لحضارة أو تقدم بدونه…فحيثما يوجد الماء كفاية لا يوجد قلق ويزهر العمران، و حيثما انحسر المطر و قل الماء أو ندر، تشق الحياة و حق التنبيه، و الترشيد، و حسن التدبير والاستشراف..
شفشاون حزينة، ورأس الماء يبتهل لعل الأيام القادمة تجود جوهرا لتغرق تلك المصارين السوداء التي امتدت، بصلافة، على طوله و عرضه كنعيق الغربان…
“و هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا”…فرحمتك يا رب، لقد أناخ المحل، واستعر حنيننا إلى كهف حنا مسعودة و حكاياته التي تحيي فينا الطفولة في شفشاون الآفلة..
عبدالحي مفتاح