طبيعة صورة الشخصية
إن حدود الشخصية الروائية، بالنظر إلى طبيعتها اللسانية، لا تستطيع أن تخضع لإدراك مباشر لأن هذه الحدود تقتضي – من قبل القارئ – ” ابتداعا ” خياليا حقيقيا. وبعبارة أخرى، إن الشخصية الروائية ليست أبدا نتاج إدراك، ولكنها نتاج تمثل. يميز إيزر بين المفهومين ، معتمدا في ذلك على تصور سارتر[2] : ” إن الإدراك يتطلب موضوعا ذا وجود سابق ، بينما يرتبط التمثل ، حسب تكوينه الأولي، بعنصر غير معلوم أو غائب، لا يظهر إلا بواسطته “. [3]وبناء على ذلك، يتحتم على القارئ أن يبني التمثل انطلاقا من تعليمات النص. إن الصورة التي تنتج على هذا النحو، وتكون مجردة من الحضور المادي، يمكن وصفها ب ” الصورة الذهنية “.
واضح أن الصورة الذهنية هي أقل تحديدا بكثير من الصورة البصرية. ولدى قراءتنا لإحدى الروايات، يبقى تمثلنا لهذا الوجه أو ذاك، لامحالة، عاما جدا وتقريبيا. فإذا كان ظهور شخصية لأول مرة يحدث تقريبا فكرة كلية بكل تلقائية، فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نتمثل ( حتى في النصوص المفصلة كثيرا )، كل لباس من ملابسها، ولا كل تعبير من تعابيرها. أما الصورة البصرية، فإنها تقدم فورا كل هذه المعلومات.
هذا الفقر البصري للصورة الذهنية ليس سلبيا بالضرورة. ذلك أن اللاتحديد الذي يتسم به التمثل، هو الذي يخلق هذه الألفة الاستثنائية ( بحيث يستطيع كل قارئ أن يقوم بالتجربة ) بين الشخص القارئ وبين الشخصية الروائية.[4] إن ذاتية القارئ تلعب دورا ما في التمثل بحيث يجوز أن نتكلم على سبيل المجاز عن ” حضور ” الشخصية الروائية في أعماق القارئ. إن هذا الإحساس بالتلاحم الجوهري بين الشخص المدرك والشخصية المدركة، تقف دونه أي صورة بصرية. [5]
هناك نمط آخر من الصور ذو صلة بتمثل القارئ؛ وأعني به الصورة الحلمية. ففي الوهلة الأولى تظهر رؤى الأحلام وكأنها قريبة من الصور الذهنية: إن هذه الرؤى الموجودة في أعماق الجهاز النفسي، ليست موضوع إدراك، كما أنها تبقى قليلة التحديد. غير أنه عندما لا تستند تمثلات الحلم إلى أي مثير،[6] تبقى صور القارئ مشروطة بهذه الحوافز التي تتجسد في توجيهات النص. ومن جهة ثانية، يبقى الحلم وحده، باعتباره حدث الإنسان النائم، الممكن وصفه ب ” الهلوسة “.
يحدد فرويد رؤى الأحلام بأنها ” الذهانات الهلوسية للرغبة ” [7]وبعبارة أخرى تتيح رؤى الأحلام تخيل جسم غائب إذا كان حضوره مرغوبا فيه بقوة كافية. وبناء عليه، فالصورة الحلمية تولد أساسا بواسطة مبدأ المتعة ( وهو ما لا يمنع الحالم، للمرة الثانية، من التفاعل بشكل سلبي تجاه ما ينتجه لا شعوره ). وتنتمي الرؤية البصرية، بالمقابل، إلى نظام الواقع. إن الصورة ” الأدبية ” أي التمثل الذهني المبني انطلاقا من سند خارجي، يبدو أنها تتأرجح بين الاتجاهين. غير أننا نستطيع أن نستدل بواسطة الطابع القليل التوجيه الذي يميز المحفزات النصية، بأن صورة الشخصية الروائية تجنح أكثر نحو الحلم، أي نحو المتعة.
وعلى هذا النحو، يبدو أن الصورة البصرية تبقى خارجة عن الذات ( أي أن المتلقي ليس له أي نصيب في إنتاجها )؛ بحيث تحدد الصورة الحلمية كلها بالاستيهام الخاص ( فالصورة تتكون وهي متماسكة الأطراف في أعماق الجهاز النفسي )؛ بينما الصورة الأدبية، أي الاستيهام الخاص المحدث انطلاقا من عناصر استيهام العنصر الآخرتعد إنتاجا مختلطا.)
نقترح الجدول الآتي الملخص للمعطيات السابقة :
تحليل مقارن للصورة الأدبية
الموضوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التحديد الصورة البصرية الصورة الحلمية الصورة الأدبية
الطبيعة الإدراك الهلوسة الإنتاج الخيالي
الحافز المحيط المباشر لا شيء النص
الأصل العالم الخارجي الاستيهام الخاص استيهام الآخر+ الاستيهام
الخاص
الموجه الواقع المتعة مبدأ المتعة> مبدأ الواقع
إذا كان خداع الصورة الحلمية أكبر من خداع الصورة الأدبية ( أي أن الحالم لا يعرف أنه يحلم، في حين أن القارئ قليلا ما ينسى أنه يقرأ )، فإن الصورة الأدبية توحي أنها أكثر غنى من الصور الأخرى. وفي الواقع تكون الصورة الأدبية هي وحدها التي تنسق بين الإبداع الخاص والعلاقة الخارجية. وفي هذا الاتجاه، تعتبر الصورة الأدبية نفسها بمثابة تركيب من الصورة البصرية والصورة الحلمية. ويمكننا أن نضيف أن الاتفاق الذي تجسده بين مبدإ المتعة ومبدإ الواقع يعمل في اتجاه توازن الأنا.
هذه الخصوصية التي تتسم بها الصورة الأدبية والمتمثلة في كونها تنجز داخل استيهام الذات القارئة تؤكد خيبة الأمل التي غالبا ما نعانيها حينما تنقل رواية مقروءة على الشاشة. إن الشخصية التي تحقق وجودها في القراءة بواسطة التمثلات الخيالية للقارئ، تحضر في الشاشة باعتبارها شخصية أخرى مطلقة لا يملك المشاهد أي نصيب في صنعها. لقد تم قطع الرابط الحميم الذي كان يوحد بين القارئ والمخلوقات المتخيلة قطعا تاما. وكما بين ذلك كريستيان ميتز في دراسته حول الصورة السينمائية أن ما نفتقده في تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي ليس سوى القوة الإبداعية للمتعة: “إن قارئ الرواية تبعا للطرق الخاصة والفريدة لمتعته، عندما يشاهد الفيلم يود أن يعثر فيه على تلك الأشياء المرئية التي سبق له أن أضفاها على الكلمات التي تلقاها من قبل في الرواية، أو في الواقع يود أن يراها من جديد، بحكم هذه القوة الملحة للتكرار الذي يسكن المتعة؛ هذه القوة التي تدفع الطفل إلى اللهو غير المنقطع بلعبة واحدة، والمراهق إلى الاستماع إلى أسطوانة واحدة، قبل أن يتخليا عنهما إلى غيرهما مما يمكنه أن يشبع بدوره جزءا من حياتهما. بيد أن القارئ الشغوف بالرواية لا يجد دائما الفيلم الذي صنعه لنفسه أثناء القراءة، لأن ما يملكه بين يديه في حضور الفيلم الحقيقي لا يعدو أن يكون استيهام غيره، وهو الأمر الذي نادرا ما يبعث على الاستلطاف (إلى درجة أنه عندما يصبح كذلك، فإنه يثير الحب”.[8]
يمكننا أن نضيف إلى هذا التحليل المهم، أنه إذا كانت الصورة السينيمائية على هذا النحو مخيبة، فلأنها أيضا تعمد في تحويلها الحقيقة الذهنية إلى تمثل محسوس، إلى إفراغها من محتواها العقلي. إن الصورة الأدبية مشبعة بالمعنى؛ فالسارد لا يسند إلى الشخصيات سوى السمات الوظيفية، وذلك وفق مبدأ الاقتصاد في الوصف. لا تحتوي صور الشخصية على تفاصيل زائدة؛ فكل السمات دالة. وسنعود لاحقا إلى هذا الإشباع الدلالي في الكائن الروائي. أما هنا فلنكتف بالإشارة إلى أننا في قراءة صورة الشخصية نسعى إلى استخلاص الدلالة المرتبطة بكل عنصر أكثر مما نسعى إلى إدراك مرجع ثابت تحيل إليه.
إن المحتوى العقلي لصورة الشخصية الأدبية يظهر إذن بمثابة نتيجة لكونها قليلة التحديد. ( 7) إن مهمة القارئ لا ترتكز على ملء مواضع اللاتحديد ( مهما كان الأمر، فإن إيقاع القراءة لا يسمح بذلك )،ولكنها ترتكز على تحديد الدور الوظيفي لكل سمة أو إشارة. لماذا، على سبيل المثال، يقال لنا عن شخصية ما إن لها عينين زرقاوين في حين لا نكاد نعرف شيئا عن وجه الشخصية الأخرى؟
إن الجواب على هذا النمط من الأسئلة هو الذي يقود التمثلات. فالقارئ لا يجسد في شخصية من الشخصيات الروائية سوى الملامح المذكورة في النص، أي الملامح الدالة: ويترك الأخرى غير محددة.
وتبقى صورة الشخصية إذن، وهي وظيفية بالضرورة، ضعيفة التجسيد من موضع إلى آخر في الرواية. غير أنه، وكيفما كانت الصورة مجردة، فإن لها واقعا يستطيع كل قارئ، من خلاله أن يقوم بالتجربة. و المطلوب هو معرفة العوامل الفاعلة في هذا التغيير للمعطيات النصية أثناء التمثل.
- [1] أتقدم إلى الدكتور محمد مشبال بالشكر الجزيل على تفضله بمراجعة هذه الترجمة.
[2] J.P.Sartre, L’imaginaire.Psychologie phénoménologique de l’imagination, Paris, Gallimard, 1940, p.231.
[3] w.Iser, L’acte de lecture,p.248.
[4] Voir Revue française de psychanalyse, 1985,3,p.759.
[5]Roland Barthes ,Fragments d’un discours amoureux, Paris, Seuil,coll. « Tel Quel » ,1977,p.157
[6]نستعير هذا المصطلح من مصطلحات الاتجاه اللساني السلوكي؛ فالمثير هو عامل خارجي أو داخلي قادر على إثارة انعكاس لا إرادي لنسق مثير. 5
6 S. Freud , Complément métapsychologique à la théorie du reve in métapsychologie , trad. Franç. , Gallimard , coll . « idées » , 1976.
[8] Metz, Le signifiant imaginaire (psychanalyse et cinéma), Paris,Christian bourgois, 1984,p.137.
د. عبد الواحد التهامي العلمي