صورة الشخصية الروائية
لفانسان جوب (2)
ترجمة: عبدالواحد التهامي العلمي[1]*
Vincent Jouve, l’effet-personnage dans le roman, PUF Ecriture. Paris, 1992.
1ère édition 1992, Avril.
2ème édition, 1998, Novembre.
بناء صورة الشخصية
إذا كانت الصورة الذهنية مبنية انطلاقا من النص، فإن حقيقة وجودها تقوم خارجه. وباعتبارها تمثلا ، فهي موجودة في أعماق الجهاز النفسي. والمشكلة هي في تحديد كيف أن النص يتمكن على هذا النحو من إنتاج ما هو ” خارج النص “.
إن صورة الشخصية، في نظرنا، كما يتم بناؤها بشكل تدريجي، تخضع لكفاية المتلقي داخل سجلين أساسين، وهما: ” الخارج النصي ” و :” التداخل النصي “.
إن البعد الخارج- النصي للشخصية لا يناقش : فلكي يجسد القارئ المعطيات التي يمنحها له النص على شكل صور، يلزمه أن ينهل من داخل موسوعة عالمه الحافل بالتجربة والخبرة. إن الوظيفة التطبيقية ( أو المرجعية ) للغة تبقى دائما تابعة لوظيفتها الشعرية ( أو الأدبية) . إن المرسل إليه يكون[2] مجبرا على تفعيل إحالة النص إلى سياقه الخارجي.
كيف يؤثر هذا الرجوع إلى التجربة الشخصية، في تمثلات القارئ؟ وكما لاحظ ج. ب. كيلباطريك بخصوص الإدراك البصري، أن الرؤية البصرية تحدد من قبل نماذج الخبرات السابقة. إن اختيار الصورة لتفعيلها من بين عدد غير محدود من الصور الممكنة يحدث انطلاقا مما يقدمه المعيش باعتباره الأكثر احتمالا : ” إن ما نبصره هو بالتأكيد ناتج عن طريقة مستخلصة من خبراتنا السابقة. وعلى هذا النحو، يبدو أننا نربط الشبكة الحاضرة للمحفزات بالخبرات السابقة، وذلك بواسطة إدماج مركب ذي نمط احتمالي. إن الإدراكات الناتجة عن مثل هذه العملية لا تشكل إذن اكتشافات مطلقة لما يوجد في العالم الخارجي، ولكنها تشكل تنبؤات أو احتمالات قائمة على خبراتنا المكتسبة “.([3])
إن التمثل الذهني، مثل الإدراك البصري ذو طبيعة احتمالية. وتعد صورة الشخصية التي يبنيها القارئ انطلاقا من المثيرات النصية، هي أيضا، نتيجة مستخلصة من مدركات العالم الخارجي. إن القارئ يشكل تمثله في سياق فكرة ” المحتمل ” التي ورثها من خبرته الخاصة. وسنقتنع بهذه العملية برجوعنا إلى التقديم الفضفاض لوصف جسد فريديريك مورو في بداية رواية التربية العاطفية:
“شاب في الثامنة عشرة من عمره، ذو شعر طويل، يحمل تحت ذراعه ألبوما، ظل جامدا جنب دفة المركب.” ([4])
بناء على هذه الجملة وحدها، وطوال الفصل الأول كله، يلزم القارئ أن يبني صورة ذهنية للشخصية. وبقية النص مخصصة، في الواقع، لصورة فريديريك مورو المتعلقة بسيرته الذاتية وحالته النفسية فقط. إن تمثل بطل فلوبير يتم عبر تفعيل فكرة ” الشاب ” ومراعاة “الشعر الطويل” باعتباره سمة أساس. إن كل قارئ سيجسد ” الشاب ” في علاقته بالصورة -الأداة الموروثة من تجاربه (بالنسبة إلى الأغلبية سيظهر الشاب رشيقا ، خفيف الحركة). ويتيح الإطار التاريخي للمحكي فضلا عن ذلك الاستدلال على أن فريديريك يحمل لباسا فخما ( لقد استكمل دراساته وسافر على متن السفينة ). وقد ظل لون ” شعره الطويل” قيد ملاحظات القارئ، إلى أن يحصل توضيح متوقع من النص ( ويمكننا أيضا أن نختار عدم تفعيله). وفي النهاية، نستنتج من وضع الشخصية (جامد)، ومن حالته (يتأبط ألبوما ) أن له تعبيرا هادئا وخجولا إلى حد ما.
ونرى، داخل هذا التجسيد للمعطيات النصية، كل ما يرجع إلى خيال القارئ. ولنحدد أن المؤشرات الوصفية لا تقتصر وظيفتها على إظهار الصورة الذهنية وحدها ( فمثلا، يحيل الشعر الطويل إلى رومانسية فريديريك ، وبذلك فإنه يحيل بشكل غير مباشر إلى أحد المحاور الجوهرية للرواية )، غير أننا نعرف صعوبة التمييز بين التمثل والمعنى في إدراك الشخصية.
والعامل الثاني الذي يؤثر على الصورة الذهنية هو ما يمكن أن نسميه ب : ” كثافة التداخل النصي ” . إن مفهوم ” التناص ” الذي استعير من ميخائيل باختين، تم تعريفه من لدن جوليا كريستيفا على النحو الآتي :” كل نص ينبني مثل فسيفساء من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص و تحويل لنص آخر “.([5]) وليس المقصود الدقيق هنا ب ” النص “، النص الأدبي فحسب: ولكن يمكن أن يقال إن ” النص ” هو نسق متكامل من العلامات لفظي أو غير لفظي. وعلى هذا النحو، تستطيع كل حقيقة، باعتبارها علامة حاملة للمعنى، أن تتحول إلى نص.
إن التناص، الخاص بالملفوظ عند باختين، يمكنه بكل قوة – انطلاقا من تعريف جوليا كريستيفا- تطبيقه على الشخصيات. هكذا، ومن وجهة نظر القارئ، قليلا ما ينظر إلى الوجه الروائي باعتباره كائنا أصيلا، ولكنه يستدعي بشكل ضمني تقريبا، الوجوه الأخرى النابعة من نصوص أخرى. فالشخصية لا تختزل فيما تقوله الرواية عنها : أي إنها لا تكتسب محتوى تمثيليا إلا بتداخلها مع وجوه أخرى. وإذا كان صحيحا أن القارئ يرى الشخصية الروائية من منظور خبرته بالعالم المحسوس، فإن هذه الرؤية البصرية تخضع للتصحيح اعتمادا على كفايته التناصية. إن تمثل بطل رواية “التربية العاطفية” فريدريك مورو باعتباره ” شابا ذا شعر طويل” خضع لتأثير وجه المراهق الرومانسي الذي كان مرتعا ل”مرض القرن” على نحو ما نجده عادة في أدب ذلك العصر([6].)
إن التناص على مستوى الشخصية الروائية يحظى بأهمية كبرى بحيث إنه يمتلك حقلا واسعا للفعل. إذ يمكنه أن يستوعب في التمثل الشخصيات التي تنتمي إلى مجال الإبداع المكتوب، على نحو ما يمكنه أن يستوعب شخصيات تخييلية تنتمي إلى مجال الإبداع غير اللغوي، بالإضافة إلى شخصيات “واقعية” حية أم لا، تنتمي إلى عالم القارئ. هكذا فإن فوتران، السجين في الأشغال الشاقة في سلسلة بلزاك “الكوميديا الإنسانية ” و الذي ظهر في ثلاثيته : الأب غوريو، والأوهام الضائعة، وبهاء وتعاسة المومسات ، تم بناؤه من لدن القارئ انطلاقا من تجميع السمات الدلالية والصور التي تقاطعت فيها صور في غاية التنوع. وفي نظر قارئ القرن العشرين، فإن فوتران سيقرأ لا محالة من خلال “شورينور” ( القاتل بالسكين) السجان التائب في رواية “أسرار باريس” لأوجين سي. ومن جهة أخرى يحيل إلى سلسلة من الوجوه الأسطورية؛ فبقوته الجسدية النادرة و قوته المعنوية اللتين تؤهلانه للجريمة، بدا كائنا بروميثيوسيا أعلى . إنه ينبعث من الموت، ويستدعي أيضا الوجه العائد الهارب من “بيت الأموات”. وفي نهاية المطاف، لا نستطيع إغفال مقارنته بفيدوك السجين الذي أصبح رئيسا للأمن، وهو شخصية تاريخية تحولت إلى شخصية أسطورية كانت شعبيتها عظيمة في القرن التاسع عشر.
إن البعد التناصي للشخصية، كما نراه، يبقى قليل الحرية وذا صلة بكفاءة كل قارئ. غير أن النص يستطيع أن يوجه بكيفية حاسمة التماثل التناصي للوجوه التي يبرزها. إن الشخصية في رواية إميل زولا مثلا، وكما بين ذلك فيليب هامون يتم وصلها بسلسلة من الوجوه الأخرى بواسطة الاستشهاد أو التلميح [7]. وباستقلال عن صورته الشخصية، ينظر القارئ إليه من خلال مقروءاته من الكتب ومن خلال الوجوه الأدبية التي حازت إعجابه. وبخلق مثل هذا الفضاء من الاستشهادات الاختلافية، يستطيع إميل زولا أن أن يعرف شخصيته في علاقتها بمختلف النماذج الثقافية والفكرية . إن هذا الإجراء يمكن أن تستعمل ببراعة أكبر: أي أن الإحالة التناصية لا تخص أحيانا سوى الاسم الشخصي. وعلى هذا النحو، يذكرنا إيتيان، بطل رواية جيرمينال، بالقديس الحامل للاسم نفسه الذي مات رجما بالحجارة؛ أي الوجه الذي يظهر ملامح المسيح و آلامه عند الصلب. ولا يتم استكمال صورة البطل إلا في عملية الصلب التي انتهت بها الحكاية.
ولنلاحظ مع ذلك، بخصوص إميل زولا، وظيفة متميزة، وفي المقام الأول، مهوشة على التداخل النصي ؛ إنها المقصدية الساخرة. ويستطيع تناص الشخصية، عوض أن يتسم بالانسجام، أن يمنح نفسه باعتباره معنى مقلوبا. فإذا كان الاسم الشخصي لألبين يحيل إلى صفاء البوطلة، فإن اسم فورطوني، الذي يشير في الرواية إلى شخصية بلا موارد مادية، يهوش بصورة ساخرة على إدراك القارئ. إن قيمة التناص تكمن في التلفظ مثلما تكمن في الملفوظ. إنها طرق “صناعة النص” التي تدل على وظيفة التناص([8]) (التحفيز المتطابق المنسجم أو الفرق المخالف).
- [1] أتقدم إلى الدكتور محمد مشبال بالشكر الجزيل على تفضله بمراجعة هذه الترجمة.
[2] ” كلما عملت الحواس، نقص عمل العقل ” (A.C.Quatremere de quincy Essai sur la nature, le but et les moyens dans les beaux arts, Paris, Jules Didot, 1823,p.123).
[3]. J.P.Kilpatrick, The nature of perception, in Explorations in transactional psychology, New York Un. Press 1961,p.49
[4].G.Flaubert, L’Education sentimentale, Paris, Garnier-Flammarion, 1969, p.37
[5] J. Kristeva , Séméiotikè, Paris, Seuil,coll. « Points », 1969, p. 85.
[6] نذكر على سبيل المثال الروايات الآتية دون مراعاة ترتيبها الزمني l’Adolphe de Benjamin Constant, le René de Chateaubriand,ou encore l’octave de la confession d’un enfant du siècle de Musset.
[7] Ph.Hamon , Le personnel du roman- le système des personnages dans Les Rougon-Macquart d’ Emile Zola, Genève, Droz, 1983,p.38-66.
[8] E.Hall, La dimension caché, trad.franç., Paris, Seuil, coll. « Points » ,1971