نوقشت بآداب تطوان أطروحة للطالبة الباحثة عزيزة عكيدة حصلت إثرها على الدكتوراه ..في الآداب بدرجة مشرف جداً، وهذا تقرير مركز لمضامينها وخلاصتها
الجمعة 29 دجتبر 2016 – 17:06:39
الحمد لله على واسع فضله، وسابغ نعمته، والصلاة والسلام على خير البرية، وإمام البشرية، وأفصح من نطق بالضاد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بالإحسان إلى يوم الدين. اسمحوا لي بداية أن أحي وأشكر اللجنة المحترمة على تفضلها بقبول مناقشة رسالتي في هذا اليوم المبارك الذي نأمل الله أن يوفقنا فيه. كما لا يسعني إلا وأن أتوجه بخالص الشكر وموفور الامتنان إلى أستاذي المشرف الدكتور عبد اللطيف شهبون الذي كان له بالغ الفضل في توجيه وتوضيب وتهذيب ما تناثر في هذه الأطروحة وبهذه المناسبة لا يسعني إلا أن أشكره وأطلب له مديد العمر وموفور الصحة والعافية ومن خلاله أتوجه إلى كافة أساتذتي بكلية الآداب بتطوان العامرة وإلى كافة الحضور أصدقائي وزملائي وأفراد عائلتي الكريمة وعلى رأسهما والداي أطال الله في عمرهما وأخواتي وأبناء عمومة.
أما بعد: يعد موضوع المرأة في الصحراء من المواضيع المغمور التي ظلت على هامش الاشتغال من لدن الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي المحلي، رغم صلته بأكثر أفراد المجتمع حساسية وأكثرها عرضة للإثارة والجدل منذ الأزل. الأطروحة مساهمة لتخطي القصور الدراسي و الندرة التي تلفّ وتميّز هذا الموضوع خاصة ما يتعلق بالتجربة الشعرية عند النساء وحولهن، وبيان ما يهم –بالدرس والتحليل- هذا “الجنس البشري” في ثقافة وشعر “البيضان” من خلال التركيز على مكانة المرأة به، والصورة التي اتخذتها فيه، وأبعاد ذلك الحضور الذي امتازت به، ووجوه تجلّيات تلك التمثلات التي شكلتها ذهنيتهم عنها أو حولها. إن البحث في شعر البيضان الفصيح والشعبي عمل مضن وهام بالنظر إلى ما يَحُفُّه من مغامرة وصعوبات جمة في الجمع والتحقيق والتحليل والتأويل وما ينطوي عليه هذا الديوان من غِنىً معرفي عام مازال مجهولا وبعيدا عن التناول الأكاديمي، خاصة ما يتعلق بإشكالية الأدب النسائي القديم عموما والشعري خصوصا، وما يكتنفها من تساؤلات تتعلق بالنشأة، والمدونة، وما يعبر عنه هذا الأما يرتبط بذلك من تصورات اجتماعية وثقافية وفكرية حول هذا الكائن المثير.
ؤفلئن كان تناول هذا الشعر –على أهميته وغناه- قد سار اليوم من الأهمية بمكان لدى دارسي الأدب العربي عموماً والشعر على وجه التحديد فيما يتعلق بدراسة ظواهره المختلفة، واستكناه قضاياه المتعددة، ولفت الانتباه إلى المائز فيه والمتفرد بما قد يساهم في التعريف به، والوقوف عند ثرائه وخصب جماله البلاغي والفني (التصويري) من هذه الناحية، فإنه يبقى من المباحث المحفوفة بالمخاطر والمستعصية على الطرق والسَّلك بفعل ما يعتريها من إكراهات ومطبات معرفية ومنهجية جمة ومترابطة، خصوصاً إذا استحضرنا أن جزءاً لا يستهان به من هذا التراث الشعري بشقيه الفصيح والعامي ما يزال شفهيا وطي النسيان بل حبيس رفوف الخزانات الخاصة ، وفي حاجة إلى تحرٍّ كبير، واستقراء واسع وعدة لازمة قصد تحمل أعباء الجمع والتوثيق، وأنضاء التنقل والتحقيق إلخ…
ولما كان حال هذا الشعر البيضاني كما عرضت أعلاه، ويعرفه بعض المهتمين ممن بدأ انصرافهم يشتد ويمتد إليه مؤخرا، فقد سكنني هوس وهاجس خاص إزاء البحث فيه وتناوله منذ أن أخذني فضول معرفي في الانفتاح عليه، والالتذاذ ببلاغة سماعه، ومطالعة بعد نتفه المخطوطة، فما أن كبر فِيَّ جموح الغيرة عليه حتى قادتني تلك البواعث وغيرها -الموضوعية والذاتية- إلى ولوج يَمِّ معتركه، والتقاط بعض درره وجواهره وأصدافه الغميسة. وبذلك استقر عنوان أطروحتني على البنية العنوانية التالية: “صورة المرأة في شعر البيضان الفصيح والشعبي: التمثلات وأبعاد الحضور”، وهو تركيب واضح الحدود، جليّ المعالم، محيط بموضوع صورة المرأة في الشعر بشقيه الفصيح والشعبي، ومجاله وهو تراب البيضان، وغاياته وأهدافه وهي إدراك طبيعة التمثلات الذهنية والمخيال الجمعي الشائع عن المرأة ومكانتها ووظيفتها في مجتمع ذي ملامح بدوية، فضلاً عن تصور المرأة لنفسها وشخصيتها فيما أبدعته أناملها وجادت به قريحتها .
ويأتي الحد المجالي الموسوم بـ “تراب البيضان” لبيان الفضاء الجغرافي المشمول بالدراسة، والذي يمتد –كما هو معروف- من وادي نون شمالاً إلى نهر السينغال جنوباً، ومن المحيط الأطلسي غرباً إلى أطراف مالي وأحواز محيطة بالجزائر شرقاً، وذلك باعتباره الإطار العام لانتشار هذا المجتمع وثقافته الذي ظل محكوما إلى حدود يومه بوحدة النسق الحضارية والإثنية (القبلية) واللغوية (العربية/الحسانية) إلخ… ومن ثم فمجال دراستنا لا يتقيد بالحدود السياسية الراهنة، وإنما يراعي في منطلقاته الحدود الثقافية التي كان هذا التوصيف “البيضان” دالاً عليها أو معبّراً عنها، ويتمثل أبعادها الحضارية المختلفة، وحسبي أني قد وضّحت هذا الأمر بإسهاب في مدخل هذه الأطروحة العام المؤطر لمجال ومجتمع الدراسة.
إن اختياري لهذا الموضوع ومجاله قد أملته عليَّ مجموعة من الدواعي والعوامل المتضافرة التي يمكنني أن اختزالها فيما يلي:
عوامل ذاتية: وتتمثّل أولاً في انتمائي لهذه الرقعة الجغرافية النائية والشاسعة من بلاد المغرب التي ظلت على امتداد القرون تمثّل جزءاً لا يتجزأ من حدوده التاريخية، وغنى ثقافته، وتنوعه الحضاري والإثني، والتي يعدُّ البحث فيها وحولها من ثوابت خدمة الهوية الوطنية والذوذ عن وحدة المجال. وثانيّاً في حجم الرغبة الجامحة التي تسكنني إزاء حفظ هذا التراث الشعري العام من الاندثار ونقله من واقعه الشفهي وما يتهدده من هذه الناحية من أجل علميا.
عوامل موضوعية: الكشف عن جوانب تراث أدبي دفين خاص بالمرأة، قلما امتدت إليه أيدي الباحثين، وإذا حاولت تلك الأيدي أن تطال هذا الجانب من التراث، يكون ذلك من خلف حجاب، والمساهمة في جمع الشعر النسائي، الذي تثار الكثير من الشكوك حول وجوده وأهميته في الثقافة الأدبية العالمة والشعبية، وأن يكون هذا العمل صرخة لتنبيه المهتمين بالشأن الثقافي الوطني بغنى ثقافة الصحراء بشقيها العالمة والشعبية والدعوة لانفتاح الدرس الجامعي عليه والتعريف بأساطين هذه الثقافة النسائية والرجالية.
وتكمن أهمية هذا المشروع البحثي كونه مقاربة لموضوع المرأة في الشعر البيضاني انطلاقاً من جانبي استحضار سلمية هرمية المجتمع الفئوية (الزوايا، حسان، اللحمة) من جهة، وتمايز ثقافتيه الشعرية وأدابها (الشعر الفصيح/اللغة العربية المعيار، والشعر الشعبي/اللهجة الحسانية الملحونة) من جهة ثانية.
ذلك أنني لما باشرت التعمّق في مسار البحث استوقفتني خاصية أساسية في أدب/شعر البيضان، وهي أن لكل طبقة أو فئة من تلك الطبقات والفئات لها أدبها الخاص الذي يعتبر لسان حالها وديوانها، فكان لابد –والحالة هاته- أن تكون مقاربتي المنهجية والمعرفية مستحضرة لذلك، ومنتبهةً إليه، تراعي حدود تمايزهما من هذه الناحية حتى يتيسّر ضبط مميزات ومقومات الخطاب الشعري عند كل فئة، وإدراك تمثلاتهم عن المرأة المتباينة أيضاً –حضوراً وتصوّراً- بحسب تباين الانتماء الطبقي الفئوي العام لهذا المجتمع البدوي. كما تتبدى أهمية الأطروحة كذلك في كونها تسعى جاهدة إلى تسليط الضوء على بعض الجوانب المهمة من ثقافة الصحراء بشقيها “العالمة” و”الشعبية” على نحو متصاقب ومُوَازٍ لا يجعلانها على مسافتين متباعدتين أو منفصلتين، ولا اختزالهما في شق دون أخر كما دأب أغلب الباحثين على ترسُّمِ ذلك في أبحاثهم الدراسية المتداولة. وعليه، تتغيّى الأطروحة في أهدافها العامة تحقيق جهد دراسي يسدُّ الخصاص المسجل بشأن موضوع صورة المرأة في شعر البيضان، وإحقاق نوع من الإنصاف لها لإبراز علو المكانة التي حظيت بها في هذا المجتمع ومنقوله الشعري، وحجم مساهمتها المعتبرة في النهضة الأدبية التي عرفتها المنطقة ، وخاصة ما يتعلق منها بالشعر، فضلاً عن بيان بعض القضايا والظواهر المرتبطة بتجربتها الشعرية الخاصة، وما ظل مغموراً من إبداعها وإنتاجها في هذا الباب سواء أكان من عيون الفصيح أو العامي، وإبراز جوانب بيوغرافية لأسماء وخبر حياة وسيرة أولئك الشواعر اللائي بِتْنَ مجهولات الذكر وبمنأى عن الاهتمام أو على هامش اشتغال الباحثين والمهتمين على الرغم من علي كعبهن في الشعر ومتعلقاته.
ولا أغالي إن ألمعت إلى حجم الصعوبات الكبيرة التي واجهتنا في إنجاز هذه الدراسة، بل ومنذ أن شرعت في بلورة مشروع تصورها مروراً بإجراءات التحرّي الميداني التي خضناها بحثاً عن مادتها المعرفية، وحتى صياغتها النهائية. وقد فرضت علينا طبيعة الموضوع خوض تحر مضنٍ تجشمت فيه أنضاء الرحلة والطراب والتنقل في امتدادات جغرافيته الواسعة، وتحمّلت عناء التردد على بعض الخزانات الخاصة والرواة لعقد بعض اللقاءات والمقابلات والاستجوابات أملاً في بلوغ متن من المتون، أو إفادة ما، أو خبراً، أو ما قد يفيدني في بناء دراستي هاته. وهكذا ألزمني هذا الاكراه الموضوعي التجوال المديد في الزمان والمكان في مناطق وقبائل ومحاضر داخل البلاد و خارجها (موريتانيا) تشوفا لبلوغ مرماي. ولم يكن النبش في منقول الثقافة الشعبية الشعري، وجمع المتون المحفوظة منها من أفواه الرواة بالأمر الهيّن ولا المتاح، بل حملني على مباشرة اتصالات وترتيبات، وشغل مني وقت كبيرا، وصبراً فوق المعتاد، كما أقتضى مني يقظة وحرصا شديدين في التوثيق والتسجيل ..
وقد زاد من صعوبة الجمع والتوثيق هاته الطابع الشفهي لراوية هذا الشعر العامي الذي مايزال لم يعرف بعد طريقه للتدوين بما يكفي، مما جعل أمر الوقوف على بعض منتخبات درره صعباً وشاقاً بل ومتعذرا في بعض أحايين كثيرة. كما أن إشكالية رسمه لا تسعف على دليل مرشد في منهجية كتابته على النحو الذي ينشده الناطقون بلهجته المتداولة. ومن ثم لم يكن الاشتغال على نصوصها العامية يسيرا، بالنظر إلى ما كانت تطرحه كتابة هذه “اللهجة الحسانية” من إشكالات تتطلب مراعاة وضعها الشفوي الخاص، وبعض سماتها الصوتية والدلالية إلخ… ولذلك كان يستلزم تعريب مضامين بعض النصوص اتخاذ بعض الحيطة والحذر في مراعاة سياق الكلام. كما كان التنقيب في منقول الثقافة العالمة الشعري، هو الأخر تعتريه بعض الصعوبات والإكراهات المرتبطة بمصادره وسُبل بلوغها، فمنها ما هو محفوظ في الذاكرة الجمعية تلوكه ألسنة الرواة والعامة ويحتاج إلى جهود مضنية لجمعه وتوثيقه، ومنها ما هو مخطوط دفين في خزانات عائلية خاصة أو الأهلية/القبلية، أو لدى بعض المهتمين بالشأن الثقافي المحلي، وهو ما يجعل أمر الاطلاع عليها أو نسخها بالغ الصعوبة، بل من الملاكين لها والقيّمين عليها من يسترزق منها بيعاً أو نسخاً أو اطلاعاً إلخ… ولا يعيرون أدنى اهتمام لمطلوب الباحثين .
وينضاف إلى هذه الصعوبات ما اعترضني من شح بالغ في المصادر والمراجع التي تهم موضوع هذه الأطروحة، إذ لم أظفر سوى على نزر يسير من الدراسات التي عُنيت ببعض مباحثها، كأن تلفت الانتباه إلى شاعرة مّا، أو إلى قصيدة معينة، أو قضية من تلك القضايا التي تناولناها بالدراسة والتحليل، وهي دراسات وأبحاث في مجملها تمت خارج الإطار الأكاديمي، باستثناء جهد الباحثة “العالية ماء العينين” الذي أفردته لـ “شعر التبراع” عند نساء البيضان، وبعض الجهود الترجمية لعدد من الأساتذة الموريتانيين حول بعض النساء المشهورات وهي مرقونة ومودوعة برفوف خزاناتهم الخاصة .
وقد زاد من حدة وقع تلك المثبطات، ما كنت أتلقاه بداية من استغراب لدى الكثيرين ممن صادفتهم أو التقيتهم أثناء التحري بشأن موضوع شعر المرأة البيضانية، والذي كان مؤداه يسير في اتجاه إنكار حوكها للشعر الفصيح وإبداعها فيه، مؤكدين أن عطاءها محصوراً في الشعر الشعبي (التبراع)… غير أن أمر التحقيق والتحرّي الدقيق الذي باشرته طولاً وعرضاً بالمجال حول الموضوع قادني إلى شيء مختلف يجعل زعمهم هذا مجانباً للصواب. ولا أنكر أن ما بلغته من أسماء هؤلاء الشواعر ونصوصهم قد اعترضتني فيه صعوبة تتعلق بتحفظ بعض ذويهن (حفدتهن) من إمدادي ببعض متونهن الشعرية كاملة، احتراماً لهيبتهن ووفاتهن، فأجدهم يكتفون فقط برواية ما يدخل في دائرة غرضي المديح النبوي، أو الاستمطار وغيره… متجنبين ما قد يسيء إليهن، أو يبيّن جانباً من شخصيتهن وعلاقتهن بزمنهن، أو ما يموج في كل ذات شاعرة من أحاسيس مرهفة ومشاعر فياضة وهجاء لاذع، فكان تكتمهم وحيطتهم في الرواية لا يتعدى حدود الممكن والمتاح سواء في شعرهن الفصيح أو الشعبي.
وكم كانت الصعوبة كبيرة حين حاولت الترجمة لبعض النساء المشهورات، دون أن أجد لهن ذكراً أو خبراً يفي بالمطلوب، الأمر الذي تطلب مني وقتا إضافيا لتوسيع البحث والاطلاع على المزيد من المظان والمصادر التاريخية والأدبية، والاستئناس بالروايات الشفوية لعلي أظفر بقبس ينير لنا بعضاً من مناطق العتمة في سيرتهن ونسبهن. ولئن كان كل موضوع أو بحث يظل محكوماً في عمقه بجملة من الإشكاليات التي توجهه وترسي مشروعية الاشتغال به، فلا مناص أن انصرافي إلى تناول هذا الموضوع وخوض يَمّه قد حملني عليه بالتأكيد مجموعة من الإشكالات والأسئلة المؤطرة التي يمكن صياغتها فيما يلي:
كيف تتحدد مكانة المرأة ووظيفتها في المجتمع البيضاني وثقافته العامة؟ وما هي وجوه اختلاف وضعياتها في سلمية هرميته الفئوية؟ وأبعاد حضورها؟
ما هي ملامح صورة المرأة في شعر البيضان الفصيح والشعبي؟ وكيف تتبدى تجليات عناصرها الأساس فيهما؟ وما أهم التمثلات الثاوية في الذهنية الجمعية المحلية حولها أو المشكلة عنها؟
ما هي أبرز شواعر الفصيح والشعبي بالمجال المدروس؟ وما مقومات وخصائص خطابهن الشعري؟
ما هي مضامين التجربة الشعرية المعبّر عنها لدى المرأة البيضانية؟ وكيف استطاعت أن تصوّر نفسها فيه؟
ما هو شعر المرأة البيضانية الشعبي الخاص؟ وما أبرز سيماته ومراحل تطوره شكلاً ومضموناً؟
وقد فرض علي تناول هذا الموضوع اعتماد مجموعة من المناهج والأدوات الإجرائية قصد معالجة قضاياه وبلوغ مقاصدي فيه، فكان تركيزي على المنهج البنيوي التحليلي باديّاً حيال بناء الأطروحة وتحليل المتون الشعرية وبعض الأفكار، إلى جانب اعتماد المنهج التاريخي الاجتماعي في تتبع الظاهرة الشعرية داخل هذا المجتمع ولدى شعرائه وتطوراتها، ووضعيات المرأة فيه وأبعاد حضورها به، علاوة على آليات الوصف والاستقراء والاستنباط والمقارنة في بيان بعض القضايا والأحكام.
ومن ثم، فإني حاولت -قدر المستطاعي- استثمار هذه المناهج المألوفة في الدراسات الأدبية في إطار مقاربة تكاملية تعاضد فيها تلك الأدوات الإجرائية العلمية بعضها البعض عَلَّنا نظفر في النهاية بدراسة شمولية وموضوعية. وقد اقتضى موضوع هذه الأطروحة أن يستوي منهجيّاً على تبويب متدرج يقوم أساساً على مدخل عام، وبابين، وخاتمة.
ففي المدخل، حاولنا تقديم فرش نظري عام يحيط بمجال الدراسة وأصول تسميته ومتغيراتها بحسب الوقائع والقرون، فضلاً عن عرض بعض اللمحات والإضاءات حول مجتمع الدراسة وسلميته القبلية وتوزيعه الوظيفي، وحركة التعرب التي شهدها والمستويين الرسمي والشعبي. أما الباب الأول، فقد عرجت فيه على تناول “صورة المرأة في شعر البيضان الفصيح والشعبي”، وذلك من خلال فصلين: عكفت في الأول منهما على بيان “صورة المرأة في شعر البيضان الفصيح”، وذلك بالوقوف على أهم القضايا المرتبطة بالشعر الفصيح وخاصة منه ما دخل في باب الغزل في مرحلة متقدمة من تشكل المجتمع؟ وما مدى تأثير تلك القضايا والانتماء الفئوي على تصوير المرأة في شعر القوم، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث أساسية، تعرضت في الأول منها لـ “مكانة المرأة في مجتمع البيضان”، وفي الثاني لموضوع “الشعر الفصيح بين معارف القوم وموقفهم منه”، فيما ركزت في المبحث الثالث على إبراز “عناصر صورة المرأة في شعر البيضان الفصيح” وأهم تجلياتها فيه. ثم درجت في الفصل الثاني إلى تناول “صورة المرأة في شعر البيضان الشعبي”، باعتباره الشق الثاني من القول الشعري المتداول في هذا المجتمع، فقسمته هو الأخر على ثلاثة مباحث، بسطت الحديث في الأول منها حول “منزلة الشعر الحساني في ثقافة القوم”، وتوقفت في الثاني منها على حدود و”تعريف الشعر الشعبي الحساني”، فيما خصصت المبحث الثالث لبيان “عناصر صورة المرأة” في هذا “الشعر البيضاني الشعبي” العام. في حين انتقلت في الباب الثاني إلى مستوى أخر من مستويات الدراسة، حيث عقدته لموضوع الظاهرة الشعرية عند نساء البيضان، أي “الإبداع النسائي في تراب البيضان”، وقد جعلته على ثلاثة فصول أساسية:
1. أفردت الأول منها لـ “الشعر النسائي الفصيح”، ويعنى بدراسة مدونة الشعر النسائي الفصيح واستعراض تاريخ نشأته، وكيف استطاعت المرأة أن تواكب طرائق القول الشعري في مجتمع محافظ لا يرى ضرورة انشغال المرأة بهذا اللون من الثقافة، مستخلصة معوقات وجدود شعر نسائي وأسباب ندرته، وأهم سماته وأغراضه، حيث وزعته على ثلاثة مباحث، هَمَّ الأول منها مسألة “مدونة الشعر الفصيح وأسباب الغياب”، والثاني قضية “المرأة البيضانية ونشأة الشعر الفصيح”، والثالث بعض خصوصيات ومقومات “التجربة الشعرية عند المرأة البيضانية” في هذا اللون من حوك القريض. فيما انصرفت في الفصل الثاني إلى طرق موضوع النوع الثاني من “الشعر الشعبي لدى المرأة البيضانية (لغن)”، معرّجا عليه من خلال ثلاثة مباحث هي الأخرى، خصصت الأول منها لقضية “نشأة الشعر النسائي (لَغْنَ)”، والثاني لمسألة “لَغْنَ النسائي البيضاني وإشكالية الندرة” التي تميّزه، والثالث لبعض ملامح “التجربة الشعرية الشعبية عند المرأة البيضانية” في هذا المجال.
أما الفصل الثالث، فقد انبرى فيه اشتغالي على تناول لون خاص من الشعر عرفت بحوكه هذه المرأة البيضانية، وهو “التبراع: شعر نسائي ببصمة الخصوصية”، وهي محاولة لرصد ماهية التبراع، ومدى تعبيره عن المعاناة الوجدانية للمرأة البيضانية وما تثيره مضامينه الاجتماعية والفنية من تساؤلات يدور حول نشأته وعلاقته بلغن، ومراحل تطوره، وسبب انشغال المرأة البيضانية بهذا اللون من الأدب دون غيره بهذه الكيفية، ومدى تعبيره عن نفسيتها وتفكيرها، وما أحاط بهذه التجربة من كتمان جعلها تظهر في شكل معاناة تمتطي أجنحة البوح، فقي لحظات خاصة من حياة الفتاة البيضانية، وقد جاء موزعاً على ثلاثة مباحث، تطرقت في الأول منها إلى موضوع “التبراع، تعريفه ونشأته”، والثاني إلى “اَلتَّبْرَاعْ” باعتباره “وثيقة اجتماعية”، وفي الثالث إلى بيان “مراحل تطور اَلتَّبْرَاعْ” كشعر نسائي، ومدونته المدروسة. وعقب هذين البابين، وشّحت الأطروحة بملحق خاص، تعرضت فيه لـ “صور بعض الأعلام النسائية المشهورة” بهذا المجال المدروس، العالمات الفقيهات، والمدرسات المربيات، والصالحات التقيات، الجميلات الحسناوات. وخلصت من خلال هذا البحث إلى نقاط هامة يمكن إدراجها كالتالي:
1. بالرغم من المكانة المتميزة للمرأة في مجتمع البيضان، فقد تباينت صورها في شعرهم الفصيح والشعبي تبعاً لتمايز وضعها الفئوي/الطبقي من جهة، وتباين مستوى الواقعين المادي ورافدي الذهنية ومرجعياتهما من جهة ثانية، حيث كانت صورتها في الشعر الفصيح تعبر عن تمثلات ذهنية “فئة الزوايا” عنها، ومحكومة بخلفية دينية محافظة تارة، وتتمثل نهجاً وتستضمر وعيّاً يستمد مشروعيته من روافد لها أصولها ومرجعياتها في ثقافة الشعراء القدماء تارة أخرى. فيما جاءت صورتها في الشعر الشعبي معبّرة عن تمثلات عقلية “فئة حسان” ومن والاهم من “فئة اللحمة”.
2. إن جل صور المرأة في الشعر الفصيح مستقاة من عيون الشعر العربي القديم، وتشبيهاتهم تقليدية أخذوها عن الشاعر الجاهلي، فلم أجد أوصفا متواترة لأماكن صحراوية بعينها، ولا أسماء وألقاب تراثية لنساء المنطقة، كما أن معايير الجمال كانت واحد، ولا مجال للتفاضل بين هذا الشاعر وذاك، رغم تمايز فترات الإنتاج، وهذا يدل على أن الشاعر لم يكن يعبر في شعره الفصيح عن تجربة إنسانية حقيقية، بل جاءت مقدمته الغزلية، كتقليد فني ليبرز أولا: تمكنه من الملكة الشعرية، شأنه شأن أجداده العرب في الجاهلية، ثانيا: حتى يصرف النظر عن التصوير الحسي الحقيقي، لأن مكانته الدينية لا تسمح له بذلك.
3. جاءت صورة المرأة في الشعر الحساني أكثر صدقا وتعبيرا عن صور المرأة في هذا المجتمع، بحيث نقل لنا الشاعر صورة المرأة بتلويناتها وصورها المختلفة في المجتمع، فتغنى بها وبوجوهها المختلفة معبرا عما ينتابه أو يخالجه إزاءها، متخلصا من كل ما قد يكدر صفو مخيلته، فأطلق العنان لوصفها سواء كانت حاضرة أو غائبة، واقعية أو متخيلة…، فانساق في اتجاه تجاوز كل الحدود المرسومة المتاحة منها والمحظورة في تقاليد حوك القريض في ذلك المجتمع البدوي المحافظ، فاعتبر التشبب بها من مرتكزات الفتوة انتصار لعالمها الآسر المغري والمثير لدواخل الذات ووجدانها، فوقف بذلك على تضاريس جسمها وإن كان المجتمع يستهجن ذلك والأعراف تحرمه، ثم تحدى الرقيب وظل يحوم بخيمة المحبوبة في الليل والنهار رغم معرفته المسبقة بعدم وصوله إليها في ظل تعنتها الدائم، وإن وصل إليها أحيانا حتى وهي بين أحضان زوجها فذاك من صنيع مخياله الذي جعل الوصل بها ضربا من ضروب عوالم الافتراض الممكنة فيما حاكه من شعر في هذا الاتجاه الغزلي.
4. أبان لنا الشعر الحساني عن طبيعة تلك الإكراهات التي كانت تواجهها المرأة الحسانية في مرحلة البداوة، والتي كانت فيها محط أنظار الجميع، تحسب تصرفاتها وينظر إليها من خلف حجا ب كجسد غاوي تمارس عليها العادات والتقاليد لتأهيله حسب معيار الذوق الجماعي ونظرته الذكورية.
5. إن المرأة البيضانية كانت حاضرة وبقوة في المجال الشعري إنتاجا، واستطاعت أن تتحدى كل الصعاب، وتتغلب على المعاناة، لتقول كلمتها الفصل عبر الشعر الفصيح والشعبي، وتعبر عن اهتماماتها في مجتمع بدوي محافظ.
6. بالرغم من الرقابة التي مورست على الشعر الفصيح، فالمرأة نفذت من تلك الصرامة وواكبت نشأة الشعر الفصيح وتفننت في القول محترمة المساحة المخصصة لقولها، فأنتجت نصوصا غنية تعبر عن تمكنها من ناصية اللغة أولا، ومستوى أدبيتها الرفيعة ثانيا.
7. استغلت المرأة البيضانية امكانيات اللغة الشعبية من حيوية ومرونة في التعبير، فضمنت مقولها من “لغن” الكثير من لحظات الإبداع، وخلقت لنفسها هامشا أدبيا قل نظيره، عرف بالتبراع، وتمكنت عبر هذا المخلوق المتمرد أن تبوح بعواطفها أتجاه الجنس الآخر في مجتمع بدوي محافظ. إن محاصرة المرأة داخل الخيمة، أثر على مساهماتها في النهضة الثقافية والعلمية التي عرفتها المنطقة، فقد بقي تعليمها محصورا على المحيط العائلي ومدى رغبتها هي في التعلم، ولا يسمح لها السفر لإنهاء مشوارها التعلمي في المحاضر البعيدة كما الرجل، لذلك نجد جل من لهن مشاركات علمية ينتمين لوسط عالم (الزوايا)، ومرتبط بشخصية المرأة نفسها ومدى رغبتها في التعلم، أو حسب ما تلقاه من عناية واهتمام من قبل ذويها.
8. إن مكانة لمرأة في فئة حسان ارتبطت بالجمال وقوة الشخصية، لذلك جاء شعرهم الشعبي ومروياتهم حبلى بألقاب نساء عرفن بالجمال والحكمة، إن الجمال في هذه الفئة شرف ودليل على المكانة الراقية التي تنعم بها المرأة في وسطها ويعكس مستواهم الأرستقراطي المترف. ونحن -في كل هذا لا ندعي- الإحاطة بجميع ما يتعلق بهذا الموضوع، أو الإتيان على كل جوانبه وإيفائه القدر الكافي من الدراسة والتحليل الشاملين، فهذا بعيد المنال، صعب التحقق، لتعذره، وحاجته إلى وقت مستفرغ للتقصّي والاستقراء، بل ومشروع أدبي ونقدي كبير، ومجهودات مضنية، وإمكانيات مادية هائلة لا نرى توافرها متحصلاً لدينا…
ومن ثم، حسب ما قدمته في هذه الأطروحة أنها لفتت الانتباه إلى هذا الموضوع، وساهم في وضع لبنة فيه، أملا في تشجع الباحثين –مستقبلاً- على تطويره واستكمال صروحه.