لا شيء يولد من عدم، ولا نتائج بغير مقدمات، و لا حصاد بدون زرع…؛ هذه البديهيات لقنت لنا و سمعناها مرارا و تكرارا حتى ترسخت في عقولنا كالنقش على الحجر.
لكن لكل قاعدة استثناء، والاستثناء الذي أقصده هنا يهم التعليم، القضية الوطنية الثانية بعد قضية وحدتنا الترابية؛ فالتعليم تخترقه الآن ظاهرة غريبة تسترعي انتباه الخاصة والعامة؛ و تستفحل عاما بعد عام ألا و هي “ظاهرة” الغش الذي تعددت فنونه الورقية والإلكترونية و تنوعت بشكل قد يفوق الخيال أحيانا.
المهام التي توجد على عاتق أية دولة، تستحق تسميتها بدولة، أو وظائفها الأساسية هي أولا الدفاع الوطني و الأمن والديبلوماسية والعدل والمالية و تحصيل الضرائب…، ثم التعليم والصحة والحماية الاجتماعية…، ورغم تموقع التعليم ضمن الخانة الثانية للمهام والوظائف ، إلا أنه هو الحاضنة المشتركة الأولى التي ترفد كل القطاعات العامة والخاصة، فهو الذي يكون الكفاءات و يهيء الأطر الذي لا يمكن بدونها ضمان سير أية دولة، بل إن عددا من الدول تستورد الأطر التي تحتاجها من دول أخرى مقدمة امتيازات وإغراءات، و هذا يعني أن الكفاءات البشرية ليست ثروة مجردة و إنما تعتبر موارد بمنطق العصر الحديث، فكثير من الدول، كما هو معروف، لا تتوفر على ثروات باطنية، برا أو بحرا، فتتشكل ثروتها الحقيقية في كفاءاتها أي في مورادها البشرية، و لذلك فكل الدول تتنافس في تجويد تعليمها و استقطاب العقول و تخريج الكفاءات القادرة على الإبداع و الاختراع و العمل وخلق الثروة…
المعرفة و الكفاية و المهارة… لا تأتي من فراغ و إنما هي محصلة سنوات التعلم و التحصيل و التكوين والتدريب و العمل…، لذلك كان الشيخ والمعلم و الأستاذ… و كان التلميذ والطالب والمتعلم…و الامتحانات الإشهادية وغير الإشهادية هي أداة من أدوات تقييم ما يتم تعلمه و تحصيله، لكنها نأت في أذهان الكثيرين عن وظيفتها المثلى هاته، خاصة امتحان البكالوريا…، لتترسخ فقط كلحظة للحصول على شهادة و الانتقال من طور تعليمي إلى آخر في أفق التخرج…، ولو دون الحد الأدنى من المؤهلات، إذ بدل أن يتم التعامل مع الامتحان- والحياة معظمها امتحان- لإثبات الذات أو مراجعتها أو إصلاح أعطابها أو تجاوز عثراتها من أجل الإنطلاق نحو المستقبل المفتوح على كل الاحتمالات، يتخذ كلحظة لإظهار ذكاء في استعمال الوسائل غير المشروعة و إبراز شطارة في خداع المكلفين ب”الحراسة” و النفس، و إثبات الذات في نسخ و تلفيق الأجوبة…
إن تفاقم ظاهرة الغش وتفشيها، بل الإصرار على تزوير “الحقيقة”…، و التعايش مع الظاهرة بل تقبل الغش في رحاب العلم و المعرفة…أسريا و اجتماعيا لا يكمن اعتباره أمرا عاديا، و إنما هو مؤشر على تدهور قيمي تسرب إلى المنظومة التعليمية ويهدد “هيبتها”؛ فالتعليم كان لعقود محط تقدير اجتماعي كبير واحترام المجتمع، و مبعث أمل متجدد في الارتقاء، و عش شعبي استثنائي للإشعاع و التنوير، رغم الاختلالات المتعددة والإمكانيات غير الملائمة و الإرباكات المتكررة، إلا أن الملاحظ أنه كلما كبرت الطموحات في التعميم و الجودة، صغرت الرهانات على التعليم العمومي الذي هجره أصحاب الدار و معظم من لهم القدرة على تحمل مصاريف خدمات التعليم الخصوصي بأصنافه المختلفة.
يحكى ،والحكي متواتر و من مصادر موثوقة، أن عدد الهواتف و شرائط الورق(الحروز)… التي تسحب من أصحابها أثناء الامتحانات هائل ناهيك عن تلك التي لا تسحب، فتقنية الغش تطورت و شاعت تقنياتها “عن بعد” و “عن قرب” و وصلت حد انتحال الشخصية والوقاحة، ثم التهديد بالعنف و ارتكابه…، فكأن الخوف ذهب و هيبة العلم والمعرفة غارت، و كأن قاعات الامتحان تقمصت هيئة مسرح سخيف تلعب فيه لعبة الغش السحرية…
على مشارف كل صيف تعكس وسائل التواصل الاجتماعي صور هذه اللعبة الميلودرامية، بل يبدو لنا أن اجتراح محكي جديد هو محكي (Récit) الغش في الامتحان…قريب، حيث هناك محاولات لتصنيف نسبة الغش حسب الشعب والمسالك و وصف للأشكال والتقنيات وذكر للأحداث والبطولات و تمجيد للفتوحات..، و رغم هذا العبث والتطاول كله فإن استفحال ظاهرة الغش، في الحقيقة، لا يمنع تلميذات و تلاميذ في جميع الشعب، و في شعب و مسالك بعينها، من النأي بأنفسهم عن الشبهات و الاحتراس من السقوط في أتون “الجمهور عايز كده”، وذلك بالاعتماد على النفس لإبراز الذات عبر مبدأ الاستحقاق، ومن ثم تجسيد ماتم مراكمته في سنين التحصيل من معارف و كفايات و مهارات…، و هؤلاء، إناثا و ذكورا، هم مفخرة التعليم المغربي وكفاءاته الذين يجددون الأمل في مقاومة الإحباط و النكوص والعبث…
و قبل أن أنهي كلامي، لا بمرارة اليأس و لا بلذة التفاؤل، أعتقد أنه من الأجدر التغلب على ظاهرة الغش عبر تسفيهها و إبطال مفعولها، و ذلك باعتماد امتحانات تركيبية يسمح فيها باستعمال وثائق و معلومات وحتى مراجع… ترفق بالأسئلة-و كفى المؤمنين شر القتال- إذ لعبة القط و الفأر المستمرة مع الغش تؤثر سلبا على صورة التعليم المغربي ومصداقية الشهادات، و تجعل من الامتحان في بعض الحالات ساحة حرب و كر و فر بين التلميذ و الأستاذ و اللجان مرهقة نفسيا و مكلفة مهنيا؛ فكل عام تتكرر نفس المآسي و إن بوجه حديث يعتمد فيه على تطوير تقنيات للتغطية على و جه الغش البشع…، و هذا شيء مزعج بل منفر…
عيدكم مبارك سعيد و كل عام و أنتم بخير.
عبدالحي مفتاح