كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “عناقيد- رسائل”
جريدة الشمال – أسامة الزكاري (كتابات في تاريخ منطقة الشمال)
الأربعــاء 10 ينـاير 2018 – 10:23:34
أسئلة متناسلة، يفرضها الاطلاع على مضامين العمل النثري الجديد للأستاذ بدر العمراني الصادر سنة 2017، تحت عنوان “عناقيد”، في محاولة لالتقاط تفاصيل اللحظة من خلال تدوينات تقاسم فيها صاحبها انشغالاته المعرفية وانتظاراته الإبداعية مع قطاعات واسعة من أعلام الفكر والثقافة بمغربنا الراهن. لا يتعلق الأمر بمناجاة شخصية تفرضها سياقات اللحظة والحنين للأهل وللأصدقاء، ولا بمواقف آنية من شؤون الحياة اليومية، ولا بمذكرات كرونولوجية للوقائع وللأحداث، بقدر ما أنها توظيف متميز لملكة التخييل والتأمل والتفكير في الانشغالات الفكرية والثقافية، قبل تقاسم قيمها مع رعيل من المفكرين ومن الباحثين ممن يصنعون للمغرب الثقافي بهاءه الاستثنائي وألقه المستدام.
ولعلي في ذلك أستحضر نماذج رائدة في تراثنا الأدبي والفكري العربي، القديم والمعاصر، من خلال أعمال مؤسسة جعلت من الهاجس الثقافي انشغالا مشتركا، تقاسمت فيه النخب مداخل التفكير والسؤال والتفكيك حول قضايا مجتمعية وثقافية متداخلة، مرتبطة بالانشغالات الفردانية للمبدعين في تقاطعاتها مع إواليات الوعي الجمعي المنتج للقيم وللرموز ولمكونات الهوية الثقافية المركبة. نقول هذا الكلام، ونحن نستحضر أعمالا خالدة لأسماء بصمت حقل “أدب الرسالة” في الفكر العربي، مثلما هو الحال –على سبيل المثال لا الحصر- مع كل من أبي العلاء المعري، والجاحظ، وابن حزم، ومحمد صادق الرافعي، وشكيب أرسلان، ونزار قباني، وسهيل إدريس، ومحمود درويش، وسامح القاسم، وحسن الوراكلي،…
في سياق هذا التصور العام، تندرج مضامين الكتاب موضوع هذا التقديم، بالنظر لحرص صاحبه الشديد على الوفاء لثوابت “أدب الرسالة” ولقيمه الجمالية المميزة. وقد حرص الأستاذ العمراني على توضيح الإطار الفني والجمالي لأبعاد الاهتمام بهذا الجانب، عندما قال في كلمته التقديمية: “فن التراسل فن راق وجميل، عرف عند العرب مهيعا مسلوكا للتواصل عبر العصور، وقد ارتفع وعلا شأوه على مر الدهور بزكاء صنعته ورفعة صناعه. فهم المبدعون في رصف الألفاظ، وتوليد المعاني، وتجديد الحكم والأسرار.. وفي كتب التواريخ والمحاضرات نماذج مضيئة تزدان بوشيها الطروس، وتنعم بقراءتها النفوس…” (ص.7).
وقد اختار المؤلف تخصيص مضامين كتابه، الموزعة بين ما مجموعه 86 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، لنشر باقة من مراسلاته مع الأستاذ قطب الريسوني، الباحث المرموق وأحد أبرز الوجوه الأكاديمية الرائدة بمنطقة شمال المغرب خلال المرحلة الراهنة. وقد أوضح المؤلف سقف اختياره في كلمة شاعرية عميقة جاء فيها: “وهذه الأخيرة (أي مراسلاته مع قطب الريسوني) هي مضمون ومحتوى هذا الكتاب الذي أزفه إلى القارئ في غلالة من الشفوف والضياء، حاملا بين طياته حلو المعاني، وطلي المباني، مما بثته المواجيد، وصدقت به المواعيد، في قالب نثري، قد خولط أحيانا بأنغام الشعور، وأوتار البحور. مواضيعها طريفة تتقلب في أودية الأدب شعرا ونثرا، تقويما لأسلوب، وإعجازا برمز، وإيقادا لفكرة، وتنويرا لعبرة، وتنويها بفطرة، وإبرازا لإبداع… وخشية تناثر حباتها الدانية.. فتضيع وهي حانية.. لملمتها في هذا السفر، كما تلملم قطوف الكرم مصونة مكنونة…” (ص ص. 9-10).
والحقيقة إن مضامين نصوص هذه المراسلات تشكل توثيقا أدبيا راقيا لغزارة عطاء الحقل الثقافي الحي بشمال المغرب، ليس فقط بالنسبة لاهتمامات المؤلف، ولكن –أساسا- بالنسبة لمجمل الإبدالات والتحولات التي يحبل بها هذا الحقل. يتعلق الأمر، بكتابات متفاعلة مع لحظتها وموثقة لتفاصيلها التي تلتقطها عين الكاتب المبدع ورهافة ذوق المفكر الحصيف وصرامة الناقد المفتتن بعناصر الإبداع العربي الذي يعطي للهوية الثقافية المشتركة ميسمها الخاص وطابعها المميز. وإذا أضفنا إلى ذلك سحر اللغة المعتمدة في تدوين التفاصيل وفي الاحتفاء بالحميميات، أمكن القول إننا أمام متن شيق تظل قراءته المتجددة مدخلا لابد منه لاستكشاف عوالم الكتابة لدى الرائدين قطب الريسوني وبدر العمراني.
وللاقتراب من أفق السقف العام للتدوين المعتمد في الكتاب، يمكن أن نستشهد ببعض من مضامين رسالة مؤرخة في 22 شعبان 1436ه، كتبها المؤلف تحت وقع فاجعة فقدان الباحث العلامة المرحوم عبد الله المرابط الترغي، ففيها اختزال لنبل المسعى ولصفاء المقصد ولقيمة الوفاء. تقول الرسالة: “…وبعد، فأخط إليك هذه الكلمات، وكلي أسى بعد فقد الأستاذ الأديب البحاثة المطلع على التراث المخطوط ومؤرخ الأدب المغربي والخبير في فن تراجم الرجال الدكتور عبد الله المرابط الترغي، رحمه الله وغفر له.. تخونني الألفاظ والعبارات، وتهرب من بين أناملي الحروف والكلمات.. فما عساي أن أقول سوى: إنا لله وإنا إليه راجعون. إن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء بأجل مسمى. سيدي عبد الله عايشته في أيامه الأخيرة بوما بيوم.. كنت أجالسه وهو ذو معنويات عالية.. وآمال في أن يشفى.. وتعود إليه حيوته ونشاطه.. ليكمل مشروعه في تراجم أعلام شمال المغرب الذي طبع منه الجزء الأول، وقد بلغ فيه ثلاثة أجزاء.. وخلال أيام مكثه بالمستشفى، كان مهموما بطباعة الجزء الثاني تنفيذا للوعد بنشره.. وفي تلك الأيام رغم مرضه وتعبه، إلا أنه لم يستسلم للمرض، بل قام بكتابة مقدمة الجزء الأول على ورقة دواء، واهتم بأطروحة كان عضوا في لجنة المناقشة، فأعدها وسلمها للدكتور البشير الريسوني لينوب عنه في الحضور وقراءة الملاحظات التي حررها الأستاذ الترغي.. بل أخذ يتابعها بالهاتف حتى أجيزت.. وقد عجبت من هذه الهمة وهذا الصبر.. فقد كانت تفد عليه الوفود لزيارته.. فيذاكرهم ويفيدهم بما يطلبون من سؤال عن مخطوط أو مصدر أو مطبوع أو أطروحة أو ترجمة علم.. وقد ذكرني حاله هذا بحال العلماء المتقدمين الذين كانوا لا يكترثون لحالهم مرضى كانوا أو أصحاء، إنما همهم العلم إفادة واستفادة… ولحبي له.. وحدبه علي.. قلت فيه مرثية… وقبل أن أوردها أخبرك بآخر لقاء لي به، وآخر كلام له معي: ففي آخر ليلة تكلم معي فيها قبل وفاته، قال لي بعد أن ذاكرني في تراجم أعدها لنشرها لجريدة الشمال: لا تغب عني يا بدر.. لا تغب عني يا بدر…
أخي قطب… اعذرني فيما ألقيت بين ناظريك.. من أسى وحزن.. فإني أحببت أن تشاركني مشاعري.. خصوصا وأن المرثي أستاذك، بل من أحب أساتذتك… كل هذا الصنيع يخفف عني ما ألم بي…” (ص ص. 27-34).
وعلى هذا المنوال، تنساب المراسلات لتقرأ تفاصيل اللحظة الثقافية ولتوجه أشكال التفاعل معها نحو عوالم إنسانية راقية، تسمو بالقيم إلى مستوى الخلود، وبالمواقف إلى مستوى النبل، وبالإبداع إلى مستوى الجمال، وباللغة إلى مستوى الافتتان…