فيليب بروطون
الحجاج في التواصل
ترجمة
د.محمد مشبال
د.عبـد الواحد التهامي العلمي
Philippe Breton, L’argumentation dans la communication, Quatrième édition, La Découverte, Paris, 2006.
ليس المقصود إذن بالبلاغة في هذا الكتاب نظرية الصور والوجوه الأسلوبية التي نعتها جيرار جينيت ب”البلاغة الضيقة”[1]؛ وهي البلاغة التي سادت لقرون طوال في الثقافة الغربية، وما زالت جاثمة على قاعات الدرس في معظم مدارسنا وجامعاتنا العربية[2]، بل المقصود بها تلك البلاغة التي صاغها أرسطو وهو ينظر في طبيعة الخطاب التواصلي الشفاهي الذي ساد في عصره، أو صاغها بيرلمان وهو ينظر في مختلف أشكال الخطاب التواصلي المكتوب، مما وسَّع من مجالات تطبيق البلاغة التي لم تعد محصورة في أنواع محددة، بل أصبح كل خطاب موضوعا للتحليل البلاغي الحجاجي كالخطاب اللغوي العادي والخطاب الفلسفي والخطاب الأدبي والخطاب الصحافي والخطاب السياسي والخطاب الديني والخطاب الإشهاري وغيرها من الخطابات التي تنسج حياتنا.
ويعزى الاهتمام الفائق بحقل البلاغة، في العقود الأخيرة، إلى عدة أسباب. منها التحول الكبير الذي حدث في نظريات النص التي أصبحت-بشكل عام- ذات توجه تداولي(التداوليات،نظرية التلقي، تداولية النص، السيميائيات..) ، ومنها الانفجار القوي الذي حدث في ميدان الاتصال؛ فحياتنا محاصرة بشتى أشكال الخطابات التي تتواصل معنا شئنا أم أبينا؛ عبر الصحف والمجلات، وعلى شاشات التلفيزيون، وفي الإعلانات المثبتة على الجدران وعلى وسائل النقل أو على اللوحات العريضة التي تحتل مساحة واسعة من الشوارع التي نتنقل فيها كل يوم، أو في مواقع الأنترنيت.
ويعد كتاب فيليب بروطون “الحجاج في التواصل” الذي ننقله إلى العربية هنا، أحد الإسهامات الغربية- التي بدأت في الظهور المتزايد منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي- والذي يتناول البلاغة والحجاج بالدرس. ولعل أهميته تظهر في اجتهاد صاحبه في اقتراح تصنيف للحجج مختلف عن التصنيفات الحديثة المتداولة؛ إذ يتميز بكونه بسيطا ومرنا “يسهل مبدئيا استخدامه في التحليل”؛ فقد اعتمد “عمليا أربعة أصناف من الحجج: الحجج التي تستند إلى سلطة، والحجج التي تستدعي افتراضات مشتركة، أو ما تفترضه الجماعة، والحجج التي تقوم على عرض الواقع وتأطيره بطريقة معينة، وفي الأخير الحجج التي تستدعي تماثلا. يختزل هذا التصنيف (أي السلطة، والاشتراك، والتأطير، والتماثل) كل أنواع الحجج التي تصفها المؤلفات المخصصة لهذه القضايا”.
وعلى الرغم من قيمة هذا التصنيف على مستوى الإجرائي وسهولة استخدامه في التحليل، فإنه أغفل عديدا من الحجج المتواترة في الخطابات والتي اشتمل عليها تصنيف بيرلمان [3]؛ مثل عديد من الحجج شبه المنطقية التي اصطلح عليها بروطون بحجج التأطير، كحجة عدم الاتفاق وحجة قاعدة العدل وحجة التضحية وغيرها، ومثل عديد من الحجج المبنية على العلاقات السببية كالحجة النفعية وحجة التبذير وحجة التجاوز وحجة الاتجاه، ومثل عديد من الحجج المبنية على علاقات التواجد كحجة الشخص وأفعاله وغيرها.
ومع ذلك فإن التوجه العام في هذا الكتاب هو توجه إجرائي تحليلي جعل منه كتابا يخاطب الطالب الجامعي المهتم بتحليل الخطابات، على نحو ما يخاطب القارئ العام[4] الذي يريد أن يثقف نفسه في مجال تحليل النصوص الحجاجية التي تخاطبه وتتواصل معه في كل لحظة من لحظات حياته اليومية. فقد كان المؤلف حريصا على تحديد الحجج تحديدا بسيطا وواضحا لا ينزع نزعة تفسيرية فلسفية، لأن ما كان يهمه-في المقام الأول- هو أجرأة هذه التقنيات الحجاجية، وجعلها عُدَّةً يسهل تطبيقها على النصوص ذات الوظيفة الإقناعية.
لكن هذا التوجه الإجرائي التحليلي لا يعني أن المؤلف قدَّم لنا تحليلا بلاغيا استوفى فيه جميع أجزاء الخطاب الحجاجي؛ فقد ظل ترتيب الخطابdispositio وأسلوبهelocutio خارج دائرة اهتمام تحليلاته التي ركزت على الحجج أو ما يصطلح عليه في البلاغة القديمة ب”الإيجاد” inventio. يقول في خاتمة كتابه: ” يتوجب علينا أن نعترف أننا لم نستوف هنا دراسة كل مظاهر الحجاج. لقد ركزنا على نقطتين أساسيتين، متكاملتين في العمق: الاتفاق المسبق الذي يضطلع بدور أساس في الحجاج، والذي يجعل منه حقا نشاطا تواصليا، والحجة التي حاولنا وصفها عبر مختلف الأشكال الملموسة التي تتخذها.”
والحق أن قيمة هذا الكتاب لا تكمن في اقتراحه إجراءات منهجية لتحليل خطاب حجاجي، بقدر ما تكمن في كفايته التحليلية للحجج سواء أكانت مقدمات مضمرة انطلق منها النص أم تقنيات متجلية. وهذه الكفاية ضرورية في التحليل البلاغي الحجاجي، لأن الحجج التي يبنى عليها النص تتطلب معرفة نظرية بحدودها، على نحو ما تتطلب دربة من المحلل على التنبه لها واستخراجها. ولا شك أن فيليب بروطون كان حريصا على صياغة كتابه لأجل ترسيخ هذه الكفاية عند القارئ المعاصر الذي فرضت عليه الخطابات التي تتواصل معه أن يتسلح بالبلاغة وبتقنيات الحجاج لأجل تأويلها ونقدها عندما تنزلق إلى العنف.
[1]Gérard Genette,La rhétorique restreinte, in Recherches rhétoriques, Communications, 16. éd. Seuil 1994.p.233-253.
[2] لا يزال بعض أساتذة البلاغة العربية التقليديين في جامعاتنا يرتابون في أية محاولة لتجديد الدرس البلاغي الجامعي ومده بنفس جديد يسهم في إخراجه من دائرته الضيقة، على الرغم من مرور ما يقارب قرن من الزمان على دعوة الشيخ أمين الخولي إلى تجديد هذا الدرس؛ تلك الدعوة التي ظلت صيحة في واد لم يستجب لها معظم أساتذة البلاغة العربية على الرغم من ظهور محاولات لتجديد هذه البلاغة في مؤلفات مهمة ظهرت خاصة في مصر وتونس والمغرب لا يمكن إنكارها. والحق أن البلاغة أجدر الحقول بالتجديد لقدرتها على التفاعل مع خطابات الحياة وخاصة في ظل الحراك السياسي الذي تعيشه بعض بلدان الوطن العربي التي ثارت شعوبها على أنظمة الاستبداد التي حكمتها لعقود طوال. وفي هذا السياق يمكن الاستفادة من كتابات الدكتور عماد عبد اللطيف في كلية الآداب جامعة القاهرة، الذي يسهم بجهوده في تحليل الخطاب السياسي في إخراج البلاغة من حيز الشواهد الأدبية السامية إلى حيز الخطابات العادية.
[3] قام تصنيف بيرلمان للحجج على عدة أصناف؛ فهناك أولا “مقدمات الحجاج” أو نقطة انطلاق الحجاج، أو أنماط الاتفاق المسبق مثل: الوقائع والحقائق والافتراضات والقيم والهرميات والمواضع. وهناك ثانيا، التقنيات الحجاجية التي توزعت على الأصناف الآتية: الصنف الأول: “الحجج شبه المنطقية” والصنف الثاني:”الحجج المؤسسة على بنية الواقع” (وتتضمن حججا قائمة على علاقات التتابع كالحجة النفعية وحجة التبذير .. وحججا قائمة على علاقات التواجد كحجة السلطة) والصنف الثالث: “الحجج القائمة على علاقات تؤسس بنية الواقع”(ومنها الحجج التي تؤسس بناء على حالة خاصة كحجتي الشاهد والمثال، ومنها الاستدلال بواسطة التماثل كالاستعارة). والصنف الرابع: “فصل المفاهيم”(أي الحجاج بواسطة حجة الفصل).
[4] ومع ذلك نشير إلى أن كتاب بروطون يعد من المراجع البلاغية والحجاجية المهمة لعديد من دارسي البلاغة المتخصصين في العالم العربي.