بسم الله الرحمن الرحيم
تحية للأخوات الفضليات والإخوة الأفاضل.. الذين تجشموا عناء الحضور والمشاركة في هذا اليوم الاحتفائي بالمنجز العلمي والتربوي لصديقتنا العزيزة المرحومة الدكتورة هدى المجاطي. تحية لمكتب فرع طنجة لرابطة كاتبات المغرب على تنظيم هذا اليوم الاحتفائي الذي يعبر عن الوفاء لروح المرحومة هدى..
أود في البداية أن أعبر عن امتناني وشكري للأخت والصديقة العزيزة الدكتورة كريمة رحالي على دعوتي للمساهمة في هذا اليوم.. ويشرفني أن أقدم بين أيديكم قراءة مختصرة في أحد أعمال المرحومة هدى الموسوم بــ : الحياة الثقافية في شمال المغرب من خلال الصحافة المكتوبة (1912-1956).
وستقوم هذه القراءة على محورين رئيسيين:
- المحور الأول عن الإطار العام للعمل.
- المحور الثاني عن بناء الكتاب أو معمار الدراسة كما عبرت صاحبته، وعن مضامينه.
ثم أختم بخلاصة عامة.
المحور الأول: الإطار العام للكتاب
يندرج هذا العمل كما كتب الدكتور الفاضل عبد اللطيف شهبون في مقدمته: “في إطار الدراسات التأريخية للأدب العربي الحديث في شمال المغرب من خلال الإعلام المكتوب، ويغطي مساحة زمنية تتجاوز أربعة عقود في فترة حرجة من تاريخ المغرب زمن الحماية الاستعمارية”.
ولعل هذا الإطار الذي يتنزل فيه العمل يكسبه قيمته الرفيعة والمميزة، وذلك على ثلاثة مستويات: مستوى الإطار الجغرافي، ومستوى الإطار التاريخي، ومستوى الإطار البحثي الأكاديمي.
فعلى المستوى الأول تجب الإشارة إلى أن شمال المغرب، أو ما عُرف أثناء الحماية بالمنطقة الخليفية، تضاف إليها منطقة طنجة الدولية، لم تحظ إلى الآن بمكانتها التي تليق بها في الدراسات الأكاديمية المغربية. فبعد الاستقلال تعرضت المنطقة لتهميش مقصود، وتم إقصاء نخبتها التي كانت في الغالب ذات ثقافة اسبانية عربية، في حين تمت العناية أكثر بالثقافة الفرنكفونية. وطالما تم إقصاء ذاكرة الشمال من المساهمة في صياغة الذاكرة الوطنية الجمعية، وكثير من الدراسات والأبحاث تنظر بعين غير منصفة لمساهمة الشمال في معركة التحرير الوطني وفي بناء النهضة الثقافية المغربية. ولذلك فإن الأعمال البحثية عن منطقة الشمال لا زالت قليلة، ولم ترق بعد إلى إنزال هذه المنطقة منزلتها التي تستحقها والاعتراف بمساهمتها القوية في صياغة الذاكرة المغربية وحماية الهوية القومية الوطنية؛ وإن كان بإمكاننا حاليا الحديث عن نهضة في هذا المجال، إذ أصبحت القضايا التاريخية والاجتماعية والثقافية بالشمال على عهد الحماية تجلب أنظار بعض الباحثين من مختلف مناطق المغرب، وأنشئت في عدة جامعات مغربية بنيات بحث تعنى بتاريخ منطقة الشمال في مرحلة الحماية.
أما على المستوى الثاني، أي الإطار التاريخي، فإن العمل الذي نحن بصدد قراءته يُعنى بفترة زمنية فريدة، إذ تعتبر بداية تشكل المغرب الحديث سياسيا وثقافيا، كما تمثل لحظة النهوض والبحث عن أسباب الترقي والتمدن؛ وهي وإن اتسمت بفقدان المغرب لاستقلاله وخضوعه للوصاية الأجنبية، فإنها تمثل مرحلة خصبة من حيث مساهمتها في النهضة المغربية الحديثة. وهذا ما يجعل من الانكباب على دراستها وإدراك تحولاتها مما يساعد كثيرا على فهم الواقع الذي آلت إليه أوضاع المغرب بعد الاستقلال. ولكن للأسف لا زالت الدراسات حول هذه الفترة قليلة، وحتى الدراسات الموجودة اهتم معظمها بالتاريخ السياسي الذي يهتم أساسا بالمقاومة المسلحة والحركة الوطنية، في حين لا زالت الحركة الثقافية لم تأخذ نصيبها من هذا الجهد البحثي. ولذلك نجد الكثير ممن كانت لهم أيادي بيضاء على النهضة الفكرية والأدبية المغربية إما لا زالوا مجهولين أو مغبونين في حقهم، أو أحيانا تعرضوا لحملة من التشويه والتخوين بسبب بعض مواقفهم السياسية. ولهذا فإن العمل الذي بين أيدينا هو قيمة مضافة في هذا الباب، إذ يكشف عن جوانب يلفها النسيان من جوانب نهضتنا الأدبية والثقافية في تلك المرحلة.
وعلى المستوى الثالث، أي الإطار البحثي والأكاديمي، فإن العمل ينتمي إلى الدراسات التاريخية للأدب، وهي دراسات دشنها بعض من تتحدث عنهم الراحلة في كتابها، وخصوصا المرحوم عبد الله كنون صاحب كتاب “النبوغ المغربي” الذي كتبه في لحظة وطنية حاسمة، لحظة تشكل الحركة الوطنية وسعيها لتشييد بنائها الفكري والهوياتي في ثلاثينيات القرن الماضي. ثم ألحقه بعد الاستقلال بكتابه الآخر “أحاديث عن الأدب المغربي الحديث”، وهي في أصلها محاضرات ألقاها بالقاهرة على طلبة معهد الدراسات العربية، ولم يأل فيها جهدا – كما يقول- في توضيح العوامل التي أثرت في تكوين هذا الأدب والاتجاهات الجديدة التي اتخذها. ثم ساهم رواد آخرون في التأريخ للأدب المغربي في عهد الحماية مثل محمد بن تاويت التطواني الذي خصص الفصل الثاني من الجزء الثالث من كتابه “الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى” لأدباء فترة الحماية. كما كتب العباس الجراري عن أدب هذه المرحلة في بعض مؤلفاته مثل كتاب “الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه”، وكتاب “تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830 إلى 1990” وغيرها من مؤلفاته الكثيرة. وفي العقود الأخيرة ظهرت دراسات عدة قيمة في مجال التأريخ للأدب المغربي الحديث نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: “الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية” لإبراهيم السولامي، و”النثر الأدبي الحديث في عهد الحماية” لمحمد السولامي، و”الاتجاهات الوطنية في النثر المغربي الحديث في عهد الحماية” لأحمد زيادي، و”بنية الإنتاج الأدبي الحديث بشمال المغرب” لعبد الملك عليوي، وغيرها من الأبحاث التي ازدانت بها الخزانة المغربية.
في هذا الإطار إذن يتنزل عمل المرحومة الدكتورة هدى، فقد أتى لإغناء هذه السلسلة من البحوث وليسلط الضوء على جوانب غفلت عنها الدراسات السابقة، خصوصا وأنه تفرد ببعض الميزات التي أضفت عليه نوعا من الجدة، منها: طبيعة المصادر التي استند إليها، أي الصحافة من جرائد ومجلات، وهي مصادر يمكن وصفها بأنها مصادر دفينة، فهي بعيدة عن متناول الجمهور وحتى المهتمين، وموادها طواها النسيان والإهمال، والكثير منها مفقود أو تكاد تقضي عليه الرطوبة وعوامل الزمن. والميزة الثانية أنه لم يهتم فقط بالمشاهير وأصحاب الأسماء المتداولة، بل اهتم أيضا بالمغمورين مع استحضار بعض إبداعاتهم الشعرية أو النثرية. وفي كل ذلك نجد الباحثة مشدودة إلى أفق معرفي ومنهجي تراثي يمتح من أعمال الأستاذ عبد الله كنون، إذ لا يخفى أثرها البارز على طول صفحات الكتاب سواء من حيث المنهج المعتمد أو التعميمات والخلاصات الدقيقة التي توصل إليها حول خصائص الأدب المغربي في عهد الحماية. ويكفي أن نستشهد هنا بما كتبه كنون في مقدمة كتابه “أحاديث عن الأدب المغربي الحديث” حول منهجه، حين قال: “وقد آثرت أن أدرس الأدب، أو أقدمه على الأصح، في آثار أعلامه، بدلا من أن أدرس الأدباء في آثارهم، ولذلك فأنا لم أذكر من الأسماء إلا ما اقتضاه الموضوع أو تطلبه الشاهد. ولو ذهبت أقدم الأدباء بشخصياتهم لما وفيت بواحد منهم… فهذه الطريقة جعلتني أتصرف حسب الموضوعات المدروسة لا بحسب الأسماء المقدمة”. وهذا المنهج نفسه، أي التأريخ للحركة الأدبية انطلاقا من الموضوعات وليس اعتماد على أسماء الأدباء، هو الذي ارتضه الباحثة في عملها، فنجدها بعد قامت بتجنيس المادة الأدبية وتصنيفها تقدم نماذج من كل صنف مع أسماء أصحابها، وقد تتبع ذلك بتحليلات مركزة ومقتضبة.
المحور الثاني: البناء العام للكتاب أو “معمار الدراسة”
تجدر الإشارة إلى كتاب “الحياة الثقافية في شمال المغرب” قد جاء فهرسه عبارة عن عناوين مسترسلة دون تحديد الأقسام أو الفصول، ولعل هذا اختيارا ارتضته الباحثة استنادا ربما إلى اعتبارات معينة. لكن الناظر في الكتاب يلاحظ أن بناءه يقوم على قسمين رئيسيين:
- القسم الأول تحدثت فيه المرحومة هدى عن روافد الحياة الثقافية في شمال المغرب، حيث قدمت لموضوعها الرئيسي بملخص مركز عن حدث فرض الحماية على المغرب وسياقاته، وردود أفعال المغاربة من خلال قيام المقاومة المسلحة. ثم أفردت فصلا للحديث عن نشأة الصحافة بشمال المغرب، وقامت بجرد جمع بين الرصد البيبليوغرافي مع التحليل المركز لجميع الصحف والمجلات التي صدرت بشمال المغرب في الفترة المدروسة.
- أما القسم الثاني، فخصصته للحديث عن الكتابة الأدبية في صحافة الشمال، حيث ميزت بين الشعر والنثر وعملت على تجنيس الكتابات النثرية وتصنيفها قبل أن تختم الكتاب بخلاصة عامة.
1- القسم الأول:
تذكرنا الكاتبة منذ البداية – بكثير من التواضع- أن هذه الدراسة لا تشكل عملا نهائيا حول الحياة الثقافية في شمال المغرب زمن الحماية، وإنما هدفها ملامسة جوانب مضيئة من هذه الثقافة انطلاقا من استقراء المادة المبثوثة في الصحف والمجلات.
ولتمهيد عملها قامت المرحومة برصد الروافد والمؤثرات التي ساهمت في نهضة الحياة الأدبية بالشمال، وهي كثيرة ومتنوعة، أبرزها:
- التواصل الثقافي بين مصر وشمال المغرب الذي تعزز بإرسال الشمال لبعثات طلابية إلى المشرق، بجانب انتشار الكتاب العربي والصحافة المشرقية بشمال المغرب.
- تخصيص جوائز أدبية وتنظيم أعياد الكتاب، مثل جائزة معهد مولاي المهدي، وجائزة معهد الجنرال فرانكو، وجائزة المغرب… وغيرها.
- تأسيس جمعيات ونوادي ثقافية اهتمت بالأدب ونظمت أنشطة ثقافية وفنية.
وبعد هذا التمهيد خصصت الباحثة فصلا للحديث عن سياقات فرض الحماية على المغرب وانطلاق المقاومة المسلحة، ثم تأسيس الحركة الوطنية التي كان من أهم إنجازاتها إنشاء الصحف والمجلات، باعتبار الدور الذي قامت به تلك الصحف والمجلات في تيسير سبل النهضة الأدبية.
وقد أنشأت الدكتورة هدى جردا بيبليوغرافيا مركزا ومفيدا للباحثين حول الجرائد والمجلات التي تأسست في تلك الفترة بشمال المغرب، وهي صحف ومجلات متنوعة وثرية بموادها الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية والفنية. ففي تلك الفترة كان الشمال رائدا في هذا المجال، حيث صدر عدد كبير من الصحف والمجلات، وظهرت نخبة ثقافية وفكرية وأدبية واكبت هذا النهوض.
وكانت مجلة السلام التي أسسها محمد داود سنة 1933 أول مجلة عربية بالمغرب كله. واحتلت مكانة خاصة عند القراء سواء داخل المغرب أو خارجه، وهذا ما جعل الاستعمار الفرنسي يحاربها بكل ما أوتي من سبل، حتى توقفت عن الصدور عند العدد العاشر. ثم تتالت الصحف والمجلات بالشمال، خصوصا بعد انقلاب فرانكو وحاجته إلى تجنيد المغاربة في صفوف قواته وما يتطلبه ذلك من تحسين العلاقة مع الحركة الوطنية وفسح مجال أوسع من الحرية أمامها. وهكذا ظهرت صحف دينية وأخرى سياسية وثقافية وحتى فنية وشبابية. واعتبرت هذه الصحف والمجلات مدرسة خاصة في الحياة الصحفية في المغرب، إذ ساهمت بقوة في النهضة المغربية الجديدة، كما كان لها الدور الحاسم في بلورة طموح الأمة وكشف مشاعرها وتغذية أحاسيسها. فكل الجرائد كانت تفرد صفحة أو أكثر لشؤون الثقافة والفكر والأدب. أما المجلات فكانت ثقافية في عمومها يشكل الأدب أهم محاورها.
- القسم الثاني
خصصته الراحلة للكتابة الأدبية في صحافة الشمال، حيث قامت بالتمييز بين الشعر الذي يعد مكونا أساسيا في الثقافة الأدبية المغربية وبين النثر الذي أصبح يستقطب اهتمام شباب متحمسين لهذا النوع من الأدب الذي يعبر عن قيم جديدة أفرزتها التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي بدأ المغرب يشهدها.
ومكنت المادة الشعرية المتوفرة الباحثة من التمييز بين نصوصها من حيث اتجاهاتها، فصنفتها إلى اتجاه تقليدي واتجاه تجديدي. وإذا كان الاتجاه الأول هو الذي هيمن على الإنتاج الشعري، خاصة الشعر الإصلاحي والديني والسياسي وشعر المناسبات مثل العرشيات، فإن الاتجاه التجديدي شق لنفسه طريقا منذ منتصف الأربعينات متأثرا بشعراء مدرسة الديوان وشعراء المهجر. ويعتبر الشاعر عبد القادر المقدم من أوائل الشعراء الذين حاولوا التجديد، واحتضنت مجلة المعتمد التي صدرت بالعرائش أولى قصائده. ثم توالى شعراء مجددون آخرون مثل إدريس الجائي وعبد الكريم الطبال ومحمد الصباغ الذي يعد رائد التجديد بفضل علاقاته مع شعراء المهجر وانفتاحه على الأدب الاسباني.
أما بخصوص النثر فقد قامت المرحومة بتجنيس الكتابات النثرية المبثوثة في الصحف والمجلات وتصنيفها. ولم يكن هذا العمل هينا، فليس من السهل تجنيس هذه الكتابات وتصنيفها في ظل تباين مستوياتها الفنية وتباعد أزمنة كتاباتها. بل إن عهد الحماية الذي زامنه عهد التأسيس لكتابة جديدة، كانت فيه الحدود بين فنون الكتابة النثرية ضعيفة وسطحية. وكانت الكتابة في غمرة الانفعال ممارسات قولية حماسية لفعل وطني هدفه واحد هو ترقي الأمة وتمدنها ونيلها حريتها واستقلالها. وكانت الباحثة واعية بهذا الوضع فاعتمدت منهجا لا ينظر إلى فنون الجنس الأدبي الواحد نظرة عميقة تستبين حدودها الفاصلة وتقر تمايزها الخاص واستقلالها الذاتي، وإنما ينظر إليها نظرة أفقية ترى فيها أعمالا أدبية تختلف أشكال تعبيرها لكنها تتوحد في مضامينها وأهدافها.
وتوصلت الدكتورة هدى بعد جرد تلك المواد الأدبية إلى تصنيفها إلى ستة أصناف:
- المقالة:
توقفت الكاتبة مع المقالة باعتبارها شكلا جديدا من أشكال التعبير الأدبي ظهر في المغرب بعد تأسيس الصحف، ثم ارتقى هذا الفن وأقبل الكتاب على تدبيج المقالات بمختلف اشكالها الدينية والسياسية والاجتماعية والتاريخية والفنية. وتكشف المقالات المنشورة آنذاك عن وعي الاديب بخصوصيات المرحلة وشعوره بمسؤوليته تجاه المجتمع. وإذا كانت المقالات السياسية – كما يقول عبد الله كنون- أمضى يلاح استعمله الوطنيون في مقاومة الاستعمار، فإن المقالة الدينية شكلت أداة للتحريض على مكارم الأخلاق ومقاومة الغزو الفكري. أما المقالة الأدبية فاعتبرت من الوسائل الفعالة في تثقيف الشعب وتنمية الوعي القومي، كما كانت وسيلة ألأدباء للتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم. كما تطورت المقالة الاجتماعية والتاريخية والفنية.
- السرد القصصي والروائي
سجلت الباحثة أن القصة بنوعيها ، القصة القصيرة والرواية، خضعت للتطور العام الذي صاحب الحركة الثقافية في الشمال. وقد وجدت القصة فضاء رحبا أمامها على صفحات الجرائد والمجلات. وتناولت هذه القصص مواضيع اجتماعية وتاريخية وسير ذاتية.
- الكتابة المسرحية
رصدت الدكتورة هدى في بداية هذا العنصر تطور الفعل المسرحي بالشمال منذ ظهوره على يد الأسبان، قبل أن تقدم نماذج من النصوص المسرحية التي ألفها كتاب من الشمال. ولاحظت أن المسرح في فترة الحماية أصبح مظهرا من مظاهر النهضة الثقافية في المجتمع المغربي الحديث، وأداة للتوعية السياسية، وصار مرتبطا بتطورات مختلف الأحداث والمواقف الوطنية. ولهذا تعرضت الكثير من المسرحيات للمنع.
- المساجلات الشعرية والأدبية
سجلت الباحثة أن ظهور المساجلات في شمال المغرب ارتبط بظهور الصحافة، إذ نشرت اغلب هذه المساجلات في الصحف والمجلات. وهي تعتبر دليلا على التطور الذي بلغه الأدب في شمال المغرب وقتئذ. وقد كانت هذه المساجلات إما شعرية ارتبطت بظهور الأندية الأدبية التي أتاحت للشعراء فرصة للرد على بعض القصائد والنسج على منوالها، أو مساجلات نثرية تجلت في الردود على بعض المقالات التي تناقش ظواهر أدبية أو اجتماعية. والواقع أن هذه المساجلات تعكس طبيعة الحراك الاجتماعي والثقافي والأدبي وقتئذ.
- الرسالة
تُرجع الباحثة تطور فن الرسالة في فترة الحماية إلى تطور الأدب الذي أتاح فرصة لتبادل الرأي ومناقشة القضايا الثقافية والأدبية عبر المراسلة، فظهرت المراسلات الأدبية فنا من الفنون الأدبية التي ازدهرت في شمال المغرب، فقد أسهمت في مد جسور التواصل الثقافي بين أدباء شمال المغرب وأدباء المشرق، وبينهم وبين الأدباء الاسبان.
- العمل الترجمي
ترى الدكتورة هدى أن الانفتاح على الغرب ومحاولة الاستفادة منه في لنهضة الثقافية من العوامل التي شجعت عملية الترجمة التي تمت في بداية الأمر على استحياء، ثم ما لبثت أن نشطت مع صدور عديد من المجلات والصحف المهتمة بفعل التحديث، وكذلك ازدياد عدد المقبلين على تعلم اللغات الأجنبية. وقد ظهرت نصوص مترجمة عن اللغات الأوربية، سواء نصوص شعرية أو قصصية أو نصوص تنتمي إلى فن المقالة.
لقد بذلت المرحومة الدكتورة هدى المجاطي جهدا كبيرا في عملية البحث عن مادتها المصدرية، حيث نفضت أوراق مئات الصحف والمجلات، وانتقت منها ما يلزمها لهذا العمل، ثم صنفتها كما ارتأت وفق خطاطة قادتها إليها الأهداف التي رامت تحقيقها من العمل وكذلك المادة المصدرية التي تمكنت من العثور عليها، قبل أن تقوم بتحرير مواد كتابها الذي جاء في أبهى حلة. وقد ختمت هذا العمل بخلاصة عامة مما جاء فيها:”حاولت في هذا الكتاب تتبع واستقراء المكونات والمؤثرات الثقافية في الشمال، انطلاقا من رصد تاريخي، واستنطاق المادة المبثوثة في الصحف. وقد أكدت لنا هذه المادة أن المشاركة كانت ذات مظهر قوي وواسع، أسهمت فيها نخبة مارست العمل الثقافي والعمل السياسي”.
وختاما نقول إن البحث في التراث الأدبي لعهد الحماية هو بحث في جذور الفعل النهضوي الوطني، إذ أن توالي الشدائد على الشعوب المتطلعة للحرية، تولد عندها شعورا أعمق بالهوية ولزوم الكفاح، وهذا الشعور سرعان ما يُنتج أفكارا تتجلى في الكلمة المسؤولة التي تخلدها الكتابة. وعمل المرحومة في هذا الإطار هو بعث لتلك الكلمة التي كتبها رواد النهضة المغربية خصوصا في منطقة الشمال، وقيامها بتصنيف الإنتاج الأدبي وجمع متفرقه المبثوث في بطون الصحف والمجلات، يعتبر رسالة ثقافية وطنية وقومية وإنسانية، إذ يحيي بعض الكتابات الوطنية التي كانت تملأ صفحات الجرائد والمجلات في إبان الحماية، والتي ساهمت بفعالية في نهوض الأمة، وحال بينها وبين أجيال الاستقلال بُعدها عن متناول أيديهم، وتعرضها لعوامل الضياع والإهمال والبلى. وهذا ما جعل من هذا البحث، والبحوث المشابهة، ذخيرة مرجعية تعوض بعض الخسارة، وتهيئ للأجيال المتعاقبة فرص الاطلاع على تراث ثري لا يستهان بقيمته الوطنية والتاريخية والأدبية والفنية، ولا يستغني عنه دارس لجانب من جوانب التراث المغربي الحديث. وبذلك أكدت الدكتورة هدى أن منطقة الشمال ساهمت بنصيب وافر الدفاع عن الهوية المغربية، وفي رسم معالم النهضة الثقافية والأدبية ببلادنا.
هذه لمحة موجزة عن سياق ومضامين كتاب “الحياة الثقافية في شمال المغرب من خلال الصحافة المكتوبة” للدكتورة هدى المجاطي، وإذ نحتفي به اليوم في غياب صاحبته، لا يسعنا إلا أن نطلب من الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناتها وينفع به القراء من بعدها.. وهو تعالى نعم المجيب.
د. محمد بكور