27 – ما قبل الوباء
رغم وجودي في مكانٍ لا يذكر اسمه إلا مقرونا بوصفه بالكبير، إلا أنني أحس باختناقٍ فيه، لما ألاحظه على وجوه الناس به من توتّر شديد.
من دلائل ذلك أنه رغم انقضاء أسبوعين وبعض يوم، من حلولي بهذه المدينة المقبضة، واستقراري بين من قطنوا هذه العمارة ، بهذا الحي الهادئ نسبيًا، على غير بعد من فراغ مفض إلى مجهول غير آمن ، يفصل بنايات هذا الحي بكامله، عن حي آخر كنت قد قرأت على بعض جدرانه حروف مكونة للاسم الذي أطلقه عليه سكانه” الحي الخطير” ، أنني لم أحْظَ بعدُ برؤية وجه أيّ من جيراني المحترمين، ، فالأبواب مغلقة، وأن كنت أسمع اصواتاً أو أوانيَ تطرق، وأرى مصابيح تضاء، لكن من خلف نوافذ ، أو فوق مداخل مُحكمة، حتى عيون الأطفال التي فوجئت بوجودي وأنا أدلف من باب العمارة، ذات مرة، كانت ترمقني باستغراب وتساؤلٍ ، وإن من فوق أكتافهم، وهم يحثون الخطو مستعجلين نحو حافلة النقل المدرسي.
فتساءلتُ بحيرة وألمٍ: هل من دلالة لحرص الناس هذا، على إغلاق الأبواب؟ أم على قلوب أقفالها؟ أم هل يستشعر الناس في الأجواء نُذُرَاً بوباء خطير قادم؟
28 – مفتاح حدائق الأفراح
من زمن كان مفتوناً بقمر السماء الهاديء الجميل البريء، إلى زمن ضجَّتْ الفضاءات فيه بأقمار شائهة مشبوهة ، وما بين أحلام جماعات كانت ترى ملوكها في الشمس، وأخرى كانت لا تكاد تراها حتى في المنام ، وما أصاب آخرين سعوا إلى ادعاء الاتصال بأقمار يعبدونها لعلها تعينُهُم في كل ما يُيَسِّرُ عليهم الإحاطة بأمور البلاد والعباد، عاش أطفالٌ منا فترات أحلام لذيذةٍ ، داعبت براءة استيهاماتهم بمفاتن حكايات بالغة من السعادة، ما لايمكن أن يصله كائن، مهما اتَّسَعت مقدراته في هذه الدنيا التي تسخو على الطفل فتهبه أحلاماً مجنحة لا يمكن أن يدركها غيره، مهما رزق من سعة الحال، رغم أن الجنة في خيال ذلك الطفل الذي كان ذات يوم صديقاً لي ـ ولم أكن لأدع مصاحبته يواً واحداً من حياتي الماضية ـ لم تكن تفيض بأكثر من مغريات جائع بسيط المنى، إذا نال وجبته بعد جوع يوم قائظ مثلاً ، لم يتمن بعد ذلك أكثر من أن يحظى بنومة هادئة، في حضن أمه التي كثيراً ما كانت تحكي له عن امراة، لم يكن لها غير ولدٍ كانت تحرص على الجلوس إلى جانبه إذا همّ بالأكل ، فإذا رأته نال ما أشبعه فيما تقدر، جعلت تغمغم، و وهي تقول :
ـ لقد شبع البوهالي ..شبع البوهالي.
فيكف الولد عن الأكل على الفور، راضياً بما أدرك، استسلم إلى نوم هاديء سعيد. وإلى همسات من أمه تصله وهي تنهي ما كانت تحكيه عن أي شيء أو زمن ، دون أن كون قد ايستوعب من الحكاية إلا تلك اللازمة اللذيذة التي كان يسيل لها لعابه حينما تتوقف عندها:
ـ لو كان معي المفتاح ، لأدخلتك حديقة الأفراح ، وأشبعتك التفاح .
فيتصور أن الجنة التي يطلبها ليست سوى تلك الحديقة البعيدة المغلقة، الني كثر تفاحها ، وضاع مفتاحها ، وشقيتْ أرواحها، واحتاج الناس فيها ، كما تقول أمه ، إلى الإخلاص في حب لله وطاعته ، حتى يهبهم مفاتيح بعدد الأوقات التي يحتاجون فيها إلى أكل،
ـ فهل يكون ذلك في إمكاني يوما؟
كان ينتظر أن يصله جواب من أمه ، لكنها تكون قد استسلمت بدورها لسلطان النوم، في انتظار إطلالة يوم شقاءٍ جديد.
أحمد بنميمون