3ـ عودة الغائب
***
بعد خمس سنوات اعتقال، هبَّ أفراد من العائلة في انتظار الغائب ، من بينهم كانت زوجته وأمه وأبوه، كانت وجوههم تشرق بلون ما يعتمل في نفوسهم من حيرة ، أو فرح محتمل وشيك، فلما التفت الطفل إلى طلعة البدر الذي اطل ساعتها من فوق الجبل القريب، حينما بزغ وجهُه ذلك المساء، فرح الصبي الذي كان الغائب قد تركه في لفافة بين يدي الأم وهو يظنه وجه ابيه الذي سوف يعود، وإن لم يكن كما كان يحب ، ولا كما يحب أن يراه أفراد هذه الأسرة العائدة من رحلة نزهتها الربيعية،إذ فوجئ أن أباه لم يطلق سراحه بعد ، فقلَّب عينيه فيما حوله، فرأى أن بين هذا الذي يبدو أمامهم وبين جموع الأهل الواقفون على هذه الساحة أول الدرب ، لا تزال ترتمي طريقٌ بلا نهاية ويشمخ جبلٌ عال مديد ، ويمتدُّ مرتقى صعب ، لا يستطيع حتى أقوى الناس على اجتيازه، وأن مسافة طويلة بين هذا المكان حيث يقف الصبيّ، الذي أكره على تجرِّع دمع اليتم ومرارة الحرمان حتى قبل وفاة أبيه، فهو لم يكن قد ودع أباه لحظة اختطافه، ولا كان قد تشبع من النظر إلى صورتهِ، لكنه انبهر أمام إشراقة قمر هذا المساء من أعلى هذه القمم الشامخة على مقربة من دور هذه البلدة المنسية ، فقد بدا في هيئة بدر كامل الاستدارة، تحيطه ظلمة خفيفة من غسق هذا المساء المهيب ، وقد زادت من فتنة هذا البدر ، ظنُّ الطفل البريء أنه وجه أبيه، يملأ عليه رُوعَهُ وفضاءَ نهاية هذا اليوم الحبيب ، وكيف لا يكون حبيباً إلى نفسه يومٌ
يعود فيه إليهم جميعا رجل قد أحبوه حاضراً بينهم ،وحتى حينما غاب وافتقدوه.
سالت دمعة على خد المرأة التي ازداد تمسكها بيد الصبي وهي تذكر بها كف محبوب اشتاقت إلى أن يطبق بجماع يديه عليها ، كما كان يصنع ذات يوم منذ عهدٍ بعيد.
بكى الطفل في جمع من أهله ، قبل نهاية الرحلة ، بعد وقفة انتظار أنست الكبار بعض تعبهم ، إلا أن هذا الطفل الذي أخبره أحدهم ، بكذبة بيضاء ، أو وعْدٍ ما ظَنَّ أنه سيخيب: من أن أباه عائد هذا المساء ، ظلَّ ـ حائرًا داخل غيمة يتمٍ ـ واقفاً لا يريم.
أحمد بنميمون