رحل الرائد والمبدع والناقد محمد أنقار عن عالمنا قبل عامين، مخلفا لوعة وحسرة في نفوس كل من عرفه أو احتك به أو تفاعل مع أعماله، من زملاء ومن طلبة ومن عموم القراء. لم يكن محمد أنقار مجرد رقم داخل المشهد الثقافي المحلي لمدينة تطوان ولعموم منطقة الشمال، ولا مجرد باحث أكاديمي ترك بصماته الناصعة داخل رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ولا مجرد مبدع اختار العزلة ملاذا لإنتاج نصوصه ولممارسة غوايته في الخلق وفي الإبداع. لم يكن المرحوم أنقار كل ذلك، ولكنه جمع بين كل هذه الصفات في تناغم فريد مع نزوات الذات المبدعة، والروح العالمة، والحس النقدي، وقبل كل ذلك، العشق الصوفي لفضاءات معشوقته مدينة تطوان.
تنهض نصوص محمد أنقار على قيم هذا العشق لفضاءات مدينة تطوان التاريخية مثل باريو مالكة وجبل درسة وباب النوادر وحي العيون والطرانكات، ولطراوة وجوه أناسها البسطاء، ولفطرة تراثها الرمزي الخصب والغني. ولعل التقاء كل هذه العناصر، كان الموجه المركزي لكل الأعمال الروائية التي خلفها المرحوم محمد أنقار، ولكل أشكال الاستلهام والوجد التي طبعت سيرته الثقافية والذهنية، تأملا وتفكيكا وتشريحا وتأليفا.
وبما أن نهر العطاء المرتبط باسم محمد أنقار يأبى الخفوت ويرفض التوقف، فقد اختار نجلاه، الدكتورة سعاد والدكتور عثمان، مسار تعميم نشر “أوراق” المرحوم والدهما، اعتبارا لقيمتها الإبداعية الكبيرة ولعمقها الإنساني المتميز ولبعده المعرفي الأصيل في قراءة حصيلة تراكم تجربة المرحوم محمد أنقار من موقعه كباحث وكمبدع وكمنقب مهووس بسؤال البحث في تفاصيل المكان، أو الفضاء، الذي احتضنه طفلا ورعاه يافعا وألهمه راشدا. في هذا الإطار، يندرج صدور كتاب “الدار اللي هناك”، مطلع سنة 2021، في ما مجموعه 162 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، في شكل “أحلام ناطقة” واستيهامات سعت للتعبير عن قدسية عشق المؤلف لتفاصيل الفضاء الذي ارتبط به داخل رحاب مدينة تطوان، وبشكل خاص داخل معالم حي الباريو بشواهده القائمة مثل شارع الأخماس وسينما فيكتوريا… لا يتعلق الأمر بكتابة سيرة ذاتية خطية، ولا بتوثيق يومي لتفاصيل الأحداث والوقائع، بقدر ما أن الأمر يرتبط ب”أحلام” تسعى للاستثمار في حميميات العشق الصوفي لجزئيات “المكان” الذي احتضن الأستاذ أنقار، عبر تشغيل آلة النبش داخل حقل الذاكرة الجماعية، من خلال مستويين متلازمين في فعل الاستذكار وفي إنتاج “الأحلام”، يرتبط أولهما بالانتشاء بمعالم جنة “الدار” العائلية الأولى والثانية والثالثة، في حين يرتبط ثانيهما بجنوح المؤلف للتعبير عن خيبته وانكساره العميق من عنف الواقع القائم ومن صدمة المآل.
وبخصوص الإطار العام الناظم لمعالم هذه السردية المثيرة، يقول الأستاذ عبد الرحيم الإدريسي في كلمته التقديمية: “إن محمد أنقار، وهو الكاتب الذي لا يصور سرديا إلا ما يحسن تمثله حقيقة. ولا يكتب إلا عن الموضوعات والتفاصيل التي يكابدها حقا وينفذ فيها تأمله، ما يراه بصره تحيط به رؤياه. لا يرسل وعيه الآخر طليقا يتداعى بحرية مطلقة، ولا هو الذي يظهر ما يصله من وعيه الآخر بوصاية وعيه الطاغي مهما يكن الإظهار لافتا وتجريبيا. المبدع الحقيقي هو الذي يستطيع أن يصطفي صور التساند بين مستويات الوعي واللاوعي وفق ما يشترطه منطق السرد، فتربكنا الكتابة ببلاغتها البصرية المجهرية… والسارد وهو يسير في شارع الأخماس وحارة الباريو بتوجس وخوف أحيانا، وألفة جوانية أحيانا أخرى، يصيخ السمع لانكسار الروح في المكان، وينفذ النظر إلى ظمأ النفس، وحيرة الفكر، يشتق من ذلك منزع هواه، وينفخ في صوره روحه، فإذا هي بألف جناح كما حصل في حلم اليقظة، تعرج في متعدد الآفاق شرقا وغربا ثم تحط مقيمة فوق أسطح أحياء تطوان، وتهبط دركاتها الصامتة وممراتها العتيقة…” (ص ص. 10-11).
وعلى هذا الأساس، تعيد “أحلام” محمد أنقار بناء معالم مدينته المشتهاة، حيث سكينة الروح، وحيث بؤر الإبداع المستثمرة في عوالم النوم العجيبة وصورها الفانطستيكية المثيرة. هي تطوان التي حملها محمد أنقار في قلبه، بعد أن جعل منها منطلقا وموئلا، فضاءً مفتوحا ليس فقط لإنتاج نصوص على نصوص واستيهامات على استيهامات، ولكن –أساسا- لتوظيف الأحلام النوسطالجية كآلية لأنسنة فعل التخييل المرتبط بجزئيات المكان وبمعالم ثرائه الرمزي وخصوبة حمولاته التاريخية والسوسيولوجية المتداخلة. يقوم سرد محمد أنقار في “أحلامه” على إعادة الروح في صور الذاكرة الجماعية عبر كتابة استرجاعية تذكرنا بعمالقة الكتابة الروائية العربية المعاصرة من أمثال نجيب محفوظ وعبد الكريم غلاب وحنا منة وعبد الرحمان منيف. فما لم يستطع المؤلف تحقيقه في الواقع المادي من تمنيات وانتظارات، كان يسعى للقبض بتلابيبه في “أحلامه” حيث المجال مشرعا لتحقيق كل شيء، ولقول كل شيء، وقبل ذلك، لإعادة ترتيب أجزاء الفضاء العام وفق ما يستجيب لنهم الذات الباحثة عن سكينتها وعن انسجامها وعن تحصين عشقها الفطري للمحيط ولأعلامه ولوجوهه ولرموزه.
يقول محمد أنقار مجملا بعضا من معالم هذا المنحى العميق في الكتابة الاسترجاعية: “فكرت مرات في زيارة الدار بعد استئذان أهلها الجدد الذين لا أعرفهم ولم أرهم قط. لكني خفت من أن أُصدم كما صُدمت بعد زيارة سينما فيكتوريا في المدة الأخيرة. فقد كنت بصدد إعداد مقال عن تلك القاعة المغروسة في صميم حارتنا الباريو التي كانت لنا معها ذكريات رومانسية حالمة، وعشنا فيها مواقف خوف وعنف عديدة، وشاهدنا فيها في تاريخ مبكر روائع الأفلام الغربية والأمريكية مترجمة إلى اللغة الإسبانية. وبعد أن أخذت القاعات السينمائية تختفي من تطوان بالتدرج، تدهورت فيكتوريا ثم أُقفلت. ومن أجل زيارتها استأذنت مالكتها الحالية ودخلتها… لكني صُدمت لما أن وجدتني في كهف ذي طابقين، من دون مقاعد، ولا شاشة، ولا أروقة، ولا باقي السمات الحضارية التي كانت تزينها… ولم أستطع البقاء هناك طويلا فهرولت قاصدا باب الخروج… ذاك ما خفت أن أعيشه من جديد إن أنا غامرت بزيارة دارنا في الأخماس… ومنذ ذلك التاريخ البعيد الممتد حوالي نصف قرن لم أستطع أبدا نسيان دارنا ولا غرفتي الصغيرة وظللت أحلم بهما إلى يومنا هذا. وكان في الحلم بعض العزاء. وحيث إن الأحلام كانت تنصب غزيرة فقد غلبتني بتدفقها إلى حد أن شوشت الذاكرة. من هنا، جاءت فكرة التدوين لعلها تُسعف على التنظيم، بل وحتى تخليد عذاب هذه العاطفة الجياشة، أو على الأقل تلطيفها…” (ص ص. 34-35).
هي كتابة تخترق حقل العوالم الماورائية لتعبر عن كل ما يمكن التعبير عنه في لغة الواقع، كتابة تعكس أسمى درجات العشق الذي بصم شخصية المؤلف، فجعل من ذاكرة المدينة، مكونا مركزيا في بناء شخصيته. لكل ذلك، أمكن القول إنه لا مجال للفصل بين تراكم الأعمال الإبداعية للرائد محمد أنقار من جهة، وبين ثراء “المكان” الذي احتضنه ومارس داخله شغبه وحبه الجنوني لكليشيهات الصبا ولنرجسيات الحلم من جهة ثانية. وبذلك، تصبح تطوان ملاذا أثيرا للإلهام وللإشباع وللطمأنينة، وقبل ذلك، لخلق عوالم الإبداع والتميز في سيرة الأستاذ محمد أنقار.
أسامة الزكاري