كتابات في تاريخ منطقة الشمال : “حرب غرناطة”
الجمعة 20 يناير 2017 – 11:14:05
استطاعَ الأستاذ محمد القاضي تحقيق تراكم علمي غير مسبوق في مجال الاشتغال على ترجمة النصوص التاريخية الإسبانية إلى اللغة العربية. فسواء على مستوى الأعمال التي أنجزها بمعية رفيقه الأستاذ إدريس الجبروني، أم على مستوى الأعمال التي أنجزها بشكل فردي، ظل الأستاذ القاضي يثير الكثير من عناصر التقدير والإعجاب، بالنظر لعدة مقومات طبعت شخصيته العلمية وبوأته مكانته الأكاديمية الرفيعة، باعتباره أحد أعلام مجال الترجمة الإسبانية الوطنية المعاصرة. دليل ذلك، تواتر صدور ترجماته للعديد من أمهات تصانيف الثقافة الإسبانية والفكر الإسباني والتاريخ الإسباني، مما أتاح إمكانية الاطلاع على مضامينها بالنسبة لباحثي المغرب المعاصر.
في سياقِ هذا الاهتمام المتجدد، يندرج صدور الترجمة العربية لكتاب “حرب غرناطة”، لمؤلفه دييغو أورطادو دي ميندوثا، بترجمة للأستاذ محمد القاضي، وذلك سنة 2016، في ما مجموعه 163 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل، وهذه الترجمة، تشكل تعزيزا لمسار انفتاح متواصل لقطاعات الباحثين المغاربة على غواية المجال الأندلسي، وعلى ظروف الانتقال الحضاري الذي عرفته شبه الجزيرة الإيبيرية عقب طرد آخر الأمراء المسلمين من مدينة غرناطة سنة 1492م.
وإذا كنا نعرف الكثير من التفاصيل حول تداعيات الصراع الذي انتهى بنشأة المملكة الإسبانية وإسقاط آخر القلاع الإسلامية بالأندلس، فإن التفاصيل والجزئيات المرتبطة بمخاضات هذا التحول، تظل بعيدة عن التداول الواسع، بل وعن الاستثمار العلمي. فماذا تعرف قطاعات الباحثين غير المتخصصين عن واقع مدينة غرناطة عقب تسليمها للإسبان؟ وما هي الانعكاسات الاجتماعية المرتبطة بواقع الناس من مختلف الشرائح والمكونات عقب هذا السقوط المدوي؟ وقبل ذلك، ما هي الانعكاسات الجيوستراتيجية لهذا السقوط على كل الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط؟ وكيف استطاع هذا السقوط أن يحافظ على بعده الآني عند مقاربة المغاربة لكل قضايا التعايش المشترك بالغرب الإسلامي للعصر الوسيط؟ ثم، هل استطاعت إسبانيا أن تتصالح مع ذاتها، لكي تستوعب مجمل تناقضاتها وانكساراتها المرتبطة بظروف سقوط إمارة غرناطة في الظروف التاريخية المعروفة؟
أسئلة متناسلة، تفرضها القراءة التأملية لكتاب “حرب غرناطة”، ليس – فحسب – من زاوية البحث التاريخي التخصصي المهتم بالتفاصيل وبالوقائع، ولكن – أساسا – من زاوية الرؤى المجددة التي تسعى للتنظير لسبل تحقيق التصالح الحقيقي مع أعطاب الذات الإسبانية، حسب ما أضحت تعكسه الكثير من الأعمال المجددة التي بدأت ترى النور خلال المرحلة الراهنة. لذلك، فإن الكتاب يتجاوز منطق التجميع التقني للوقائع، إلى مستوى ضبط السياقات وتحليل أبعادها، مما سمح للمؤلف بتقديم متن شيق، لا شك وأنه يسمح بإعادة قراءة التفاصيل وفق رؤى نسقية متحررة من أغلال “وصية” إيسابيلا الكاثوليكية، ومن لهيب محاكم التفتيش المارقة، ومن نظرات الحقد تجاه “الآخر الأندلسي” الذي دفع ثمن هذا الشرخ الحضاري والتمزق الوجودي المؤطر للقضية الموريسكية.
وبخصوص الأفــُق العام لهذا التأليف، يقول المؤلف في فاتحة الكتاب: “إنّني أعلَ>م أن هناك أشياء كثيرة سأكتبها، ستبدو للبعض قليلة الأهمية بالنسبة للأحداث التاريخية، مقارنة مع الأحداث التاريخية العظيمة المكتوبة التي عرفتها إسبانيا: حروب طويلة، وزاخرة بالأحداث، احتلال وتدمير لمدن آهلة بالسكان، ملوك انهزموا ووقعوا في الأسر، ونشوب نزاعات بين آباء وأبناء وإخوة وأخوات وأصهار، خلعوا ثم عادوا إلى الحكم من جديد،… وسلالات اندثرت وممالك تعاقبت في الحكم، ميدان حر وشاسع منفذ لمؤلفي الكتب. لقد اخترت الطريق الأكثر ضيقا، مجهدا وعقيما بلا مجد، لكنه ذو فائدة ومثمرا بالنسبة للأجيال القادمة: بدايات ساقطة، وتمرد قطاع الطرق، وتكتلات لتحرير العبيد، وشغب العامة من الناس، وتنافس، وكراهية، وطموحات،… وانطلاقا من هنا، فإن جهدي لن يذهب سدى عندما أوضح كيف أن الأمور الصغيرة والأسباب الجزئية، يمكنها أن تتطور وتصبح ذات شأن عظيم ومصاعب وأضرارا عامة يكاد لا يكون لها أية حلول. إنها حرب تبدو في الظاهر قليلة الأهمية، وشأنا داخليا، بينما خارجيا لها ظرفية كبيرة، ونظرا لطول مدتها، استقطبت اهتمام الكل، ودون أمل أثارت حماسة الأمراء الأصدقاء، والأعداء على حد سواء،… فليشكر لي كل من يريد أن يأخذ عبرة من هذه الحرب ويقبل موقف المحايد والبعيد عن كل أسباب الكراهية أو الحب لأي من الطرفين. إن موقفي هذا هو من أجل الإخلاص لعملي فلن يبقى لاسمي ذكرى غير ذكرى هذا التاريخ…” (صص. 5-6).
هي رؤية مجددة لظروف انفجار “حرب غرناطة”، استطاعت أن تعيد مقاربة الموضوع استنادا إلى معطيات كثيفة وإلى تجميع ثري وإلى غزارة استثنائية في مضامين السرد، الأمر الذي سمح بتقديم نص غني لا شك وأن له قيمته الكبرى في الكشف عن مختلف تلاوين الرواية الإسبانية لحقيقة ما جرى بغرناطة في الظروف التاريخية المعروفة. وإذا أضفنا إلى ذلك، عمق الترجمة وسلاسة اللغة وقوة الإتقان اللساني المتراوح بين سقف المنظومتين الفكريتين الإسبانية والعربية، أمكن القول إن الأستاذ محمد القاضي استطاع تحقيق تراكم نوعي يفتح الأعين على مجالات رحبة أمام كل المتعاطين لفعل الترجمة في علاقته بعناصر التجديد المنهجي المرتبط بالبحث التاريخي الراهن، تنظيرا وممارسة.